الفتاوى الميسرة
العبادات ـ المعاملات
وفق فتاوى سماحة آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني « دام ظله الوارف »
( رب اشرح لي صدري * ويسّر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي )
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين وبعد:
فقد حرصت على أن يكون أسلوب كتابتي للفتاوى الميسرة سهلاً بسيطاً، سائداً في التخاطب المعتاد اليوم بين الكتّاب وقارئيهم، مألوفاً، ساعياً قدر الامكان لحل عقدة غموض النص الفقهي واِبهامه على جلِّ قارئيه المحتاجين اِليه العاملين به من غير أهله.
من خلال طريقة عرض مشوّقة تستدرج القارئ وتستميله وتستحثه على الاحاطة بما ينبغي له أن يحيط به من تعاليم دينه القويم.
مختاراً من الاَحكام أكثرها أهمّية وحاجة للمكلفين. يعقبونها اِذا أرادوا المزيد بمراجعة ما هو أوسع
مادة وأكثر تفصيلاً من كتب الفقه الاِسلامي ورسائله العملية الاخرى.
محاولاً هنا وهناك اِعادة وصل اللحمة في قلب القارئ الكريم بين علمي الفقه والاخلاق.. بين العمل الذي يؤدّيه وروح العمل الذي يؤدّيه.
مقسماً البحث الى محاور ثلاثة. مخصصاً المحور الاول للعبادات، جاعلاً من الصلاة التي هي «عمود الدين اِن قبلت قبل ما سواها وان ردت ردّ ما سواها » مدار محور العبادات وقلبه.
ولاَن «لا صلاة اِلاّ بطهور» فاِن هيكلية البحث تستدعيني وصولاً الى الصلاة أن أبدأ ـ بعد حوارية التقليد طبعاً ـ بما يسلب طهارة الجسد من «نجاسات» على اختلافها، ثم أثنّي فاذكر ما يعيد للجسد نقاءه من «مطهرات» على اختلافها كذلك، حتى اِذا انتهيت من ذلك كله ووصلت اِلى الصلاة وصلتها كما ينبغي أن يكون عليه الواصل، الواقف بين يدي ربَّه متطهراً، نقيّاً مخلصاً.
معرجاً بعد الصلاة على ما يتطلب مثلها النقاء والطهارة كالصوم والحج.
ثمّ ثنيت فخصصت المحور الثاني للمعاملات المالية من بيع وشراء ووكالة واِجارة وشركة وغيرها.
ثم عدت فخصصت المحور الثالث لاَحوال الانسان الخاصة من زواج وطلاق ونذر وعهد ويمين وغيرها.
مردفاً اِيّاها بحواريّة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مختتماً البحث كله بحواريتين عامتين منوّعتين.
وطبقاً لهذه الخطّة فسينتظم الموضوعات التسلسل التالي:
حوارية التقليد، حواريّة النجاسة، حوارية الطهارة، حواريّة الجنابة، حواريّة الحيض، حواريّة النفاس، حواريّة الاستحاضة، حواريّة الموت، حواريّة الوضوء، حواريّة الغسل، حواريّة التيمم، حواريّة الجبيرة، حواريّة الصلاة، حواريّة الصلاة الثانية، حواريّة الصوم، حواريّة الحج، حواريّة الزكاة، حواريّة الخمس، حواريّة التجارة وما يلحق بها، حواريّة الذباحة والصيد، حواريّة الزواج، حواريّة الطلاق، حواريّة النذر والعهد واليمين، حواريّة الوصية، حواريّة الاِرث، حواريّة الوقف، حواريّة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم الحواريتان العامّتان المنوّعتان.
وقد حظيت (هذه النسخة) بمراجعة وافية من قبل مكتب سماحة آية الله العظمى السيّد على الحسيني السيستاني (مدّ ظله الوارف) في النجف الاَشرف للتأكد من مطابقتها لفتاوى سماحته، وقد اجرى عليها المكتب التصحيحات اللازمة لتصبح هذه النسخة بعدها مطابقة لفتاوى سماحته (مدّ ظله) تماماً.
راجياً أن أكون قد حقّقت ما عزمت عليه، شاكراً بامتنان من اعانني على ما نهضت به، خاصاً بالذكر الجميل مكتب سماحة سيدنا في النجف الاَشرف لما بذله من جهدٍ في تدقيق هذه النسخة، سائلاً الله عزّ وجلّ أن يجعلني ممن (أُوتِىَ كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه) وان يجعل عملي خالصاً له وحده (يوم لا ينفع مال ولا بنون * اِلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم) (ربنا لا تؤاخذنا اِن نسينا أو أخطأنا) (غفرانك ربّنا واليك المصير).
والحمد لله رب العالمين
المؤلّف
اِضاءة: الاَحكام الشرعيّة الموضوعة بين قوسين معقوفتين [ ] هي احتياطات وجوبيّة، أنت مخيَّر بين أن تعمل بها، أو أن تقلّد فيها مجتهداً آخر، مع مراعاة الاَعلم فالاَعلم
تـوطـئـة
ها أنذا اليوم أكملت السنة الخامسة عشرة من عمري، لم أدرك حين أفقت من نومي صبيحته أن يومي هذا سيكون مسكوناً بالدهشة، والمفاجأة، والترقّب، والزهو، والانبهار. ممهوراً بالمتعة، والشغف، والمحبة ولذة الاكتشاف، يوماً سينقلني من مرحلة سلفت ويضعني على أعقاب مرحلة أخرى بدأت.
استيقظت مبكراً كعادتي كل يوم، وما أن أنهيت واجباتي اليومية المعتادة ـ تلك التي تفصل بين يقظتي وجلوسي اِلى مائدةِ الافطار الصباحية ـ حتى أبصرت على وجه أبي شيئاً ما مختلفاً عما كنت آلفه منه كل يوم، شيئاً ما جعلني اُخمن أن أمراً يخصّني بات يراوده ويشغله، ويستأثر باهتمامه.
فالعينان المفتوحتان أكثر من المعتاد، كما لو كانتا تحدقان في الفراغ، والشفتان المضمومتان الملمومتان بعض الشيء كما لو كانتا تتهيآن لقولٍ مثير تهمُّ أن تفضي الشفة به ثم تمسك، والاَصابع التي تنقر بانتظام وتتابع نقرات وقورة على مائدةِ الافطار: تنبئ بأن القلب ممتلئ َ بعصارة أمر هام، ويوشك لفرض امتلائه أن يفيض.
وما أن جلست قبالته على الطرف الثاني من المائدة حتى بادرني، وفي عينيه فرح رزين مكتوم قائلاً:
ـ اليوم يا بني ودّعت مرحلة سلفت من عمرك، واستقبلت مرحلة جديدة بدأت... اليوم أصبحت في نظر المشرع الاِسلامي رجلاً تام الاَهلية لان تكلَّف... اليوم مَنّ الله عليك فخاطبك بالتكليف، وتلطّف فأمرك ونهاك.
وأضاف أبي:
ـ كنت حتى البارحة في نظر المشرّع الاِسلامي طفلاً لم تبلغ بعد مرحلة الرجال فتركك وشأنك أمّا اليوم فقد تغيّر كلّ شيء.. أنت اليوم رجل كالرجال، معتَرَف لك بالرجولة والاَهليّة التامّة للخطاب، وحين بلغ بك النضج هذه المرحلة، وأسلمك اليها، منَّ الله عليك فخاطبك بأمره ونهيه.
عفواً لم افهم قصدك كيف يمنّ الله عليّ فيأمرني؟ أيكون الامر مِنَّة؟ كيف يكون ذلك؟
ـ دعني أوضح لك الاَمر بمثال حتى تعرف كيف يكون أمره لك مِنَّة عليك... أنت الاَن طالب في المدرسة، تقف مع زملاءٍ لك طلاب، بينكم الذكي، والمواظب، والمجدّ، والملتزم، والواعي، وبينكم غيرهم، تقفون مستعدّين لامرٍ مّا جديد سيفجؤكم، تقفون ويمرّ السيد المدير يستعرضكم، وما أن تلتقي عيناه بعينيك حتى يتريّث، ويتطلّع اِليك برضى أول الامر، ثم يزفّ اِليك ـ مبتسماً ـ بشرى انتقالك لمرحلةٍ طالما حلمت بها، معترفاً لك من خلال ذلك باهليتك التامّة لمرحلتك الجديدة، متوجهاً اِليك مميّزاً لك من بين زملائك، بأمر ما ينمُّ عن اعتراف بأهليتك.
ألا تشعر يؤمئذٍ باعتزاز من نوع خاص لاَمره، وحبّ لما أمرك به، مشوب بالاعتداد، والثقة بالنفس، لتوجيهه الخطاب اِليك دون غيرك من أقرانك، متبوع بسعي حثيث لتنفيذ ما أمرك به..
كل ذلك والاَمر مدير مدرستك، فكيف سيكون شعورك لو كان الاَمر هو السيد المدير العام؟! بل كيف سيكون الحال لو كان الاَمر هو السيد المفتش العام؟!
كيف سيكون شعورك لو كان الاَمر...
واستمرّ أبي يرتقي بالاَمر المخاطب رتبة رتبة، ومع كل رتبة يرتقيها يتجلّى لي أكثر فأكثر شيء ما كان خافياً عليَّ من قبل.. كما لو أني أفقت للتوِّ من سباتٍ عميق.
وما أن وصل أبي اِلى أمر الله عزّ وجلّ وخطابه اِليَّ، وتكليفه اِيايَ حتى صعقت.
الله يخاطبني أنا... يأمرني أنا.. أنا.
ـ نعم يا بني.. الله يخاطبك أنت.. أنت ابن خمس عشرة سنة.. ويكلفك أنت.. أنت ابن خمس عشرة سنة.. ويأمرك أنت.. وينهاك أنت.
أوَ أستحق أنا كل هذا التكريم.. خالق الخلق كلهم يشرِّفني فيكلّفني، جبار السموات والاَرض يتلطّف فيأمرني وينهاني.. ما أحلى يومي هذا، وما أجمل سنتي هذه.. ما أبهى الرّجولة.
ـ عليك يا بني أن تطيع ما أمرك به خالقك فشرفك به.
بل سأسعى بشغف عاشقٍ اِلى تطبيق تكاليفه واحكامه الحبيبة، ولكن.
ولكن ماذا...؟
ولكن ما هي هذه التكاليف التي كلّفني بها؟ وما هي احكامه التي وجّهها اِليّ ؟
ـ الاحكام الشّرعية على خمسة أنحاء.. واجبات ومحرمات ومستحبّات ومكروهات ومباحات.
وما هي الواجبات؟ وما هي المحرمات؟ وما هي المستحبّات؟ والمكروهات؟ والمباحات؟
ـ كلُّ ما تحتّم عليك فعله فهو من الواجبات كالصلاة والصوم، والحجّ، والزكاة، والخمس، والاَمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وغيرها كثير.
وكل ما تحتّم عليك تركه فهو من المحرمات كشرب الخمر، والزّنا، والسرقة، والتبذير، والكذب، وغيرها كثير.
وكل ما حسن فعله من دون اِلزام وتثاب عليه ان كان بقصد القربة فهو من المستحبّات، كالصدقة على الفقير، والنّظافة، وحسن الخلق، وقضاء حاجة المؤمن المحتاج، وصلاة الجماعة، واستعمال الطيب، وغيرها كثير.
وكل ما حسن تركه والابتعاد والنأي عنه من دون الزام وتثاب على تركه ان كان بقصد القربة فهو من المكروهات، كتأخير زواج الرجل والمرأة، والغلاء في المهر، ورد طلب المؤمن المحتاج اِلى القرض مع القدرة عليه، وغيرها كثير.
أمّا ما تركت لك حريّة الاختيار فيه، أن تفعله أو تتركه فهو من المباحات كالاَكل، والشرب، والنوم، والجلوسِ، والسفر، والسياحة، وغيرها كثير.
وأنّى لي أن افرز الواجبات عن المستحبات، والمحرّمات عن المكروهات. كيف أعرف أن هذا واجب فافعله واُؤدّيه وألتزم به، وهذا حرام فأجتنبه وأدعه وأتركه وأنأى عنه. كيف أعرف أن...
قاطعني أبي مبتسماً، ثم نظر اِليَّ نظرة رحمة واِشفاق وهَمَّ أن يقول شيئاً اِلاّ أنّه أعرض عنه مؤثراً التريث، ثمّ انكفأ فَغَاصَ في تأمّل عميق.
وساد لوهلةٍ صمتٌ عميق كثيف كالفراغ لم استطع أن اُخمِّن خلاله ما دار في رأس أبي، غير أنّي كنت أرقب سحابة داكنة معتمة تمرُّ متأنّيةً على جبهته ثمّ تتشطّر فتغطّي بقيّة قسمات وجهه وصولاً اِلى شفتيه اللّتين انفرجتا عن صوت ضعيف، فيه من الرّقِة والعطف الشيء الكثير.
ـ ستميّز الواجبات عن المحرّمات، والمستحبّات من المكروهات اِذا استعرضت كتب علم (الفقه الاِسلامي). وستجد أن لبعضها أركاناً وأجزاء وشرائط، ولبعضها حركات خاصّة يجب أن تؤدّى بها، ولبعضها خصوصيات لا يمكن أن تحيد عنها، ولبعضها.. ولبعضها..
راجع كتب الفقه الاسلامي وستجد فيها ضالّتك.. ثمّ ستكشف بعد ذلك أنّه علم واسع، غزير، كتبت فيه مئات المجلّدات، وأشبع العلماء مسائله بحثاً، وتمحيصاً، بعمق قلَّ نظيره في علوم اِنسانية أخرى.
وهل يجب عليَّ أن ألمَّ بكل هذه الكتب لاَعرف ما يجب عليَّ أن أفعله ؟
ـ بل يكفيك أن تراجع أخصرها وأيسرها على الفهم، وستجد أنّها قُسِّمت اِلى قسمين:
قسم خاص بالعبادات، وقسم خاص بالمعاملات.
وما العبادات؟ وما المعاملات؟
ـ تمهَّل قليلاً، وراجع كتب الفقه الاِسلامي، وستعرف تدريجياً ما أنت الاَن بصدد معرفته.
* * *
ورحت أعدو اِلى المكتبة، علّني أعثرُ على كتب الفقه الاِسلامي هذه.. أعدو ويعدو شوقي وحاجتي. وما أن وقعت عيناي عليها حتى أسرتني فرحة غامرة، هزّت كياني كلّه هزّاً عنيفاً، أو هكذا خيّل اِليَّ.
ها هي ذي كتب الفقه الاِسلامي، لقد وصلت أخيراً اِلى غايتي..
سأقرؤها، وسأجد فيها اِجابات شافية عن أسئلتي.... وسأستريح.
وعدت اِلى غرفتي لهفان مسرعاً، مزهواً بما أنجزت، فتحت الباب على عجل، ودخلت الغرفة على عجل، وفتحت كتابي على عجل. وما أن بدأت أقرأ حتى ارتسمت على ملامحي خطوط من غرابة متوحشة أول الاَمر، سرعان ما تحوَّلت اِلى دهشة مكتومة، ثم استقرّت متخذة شكل وجع حارق متوهّج مؤلم.
لقد وجدت نفسي أقرأ كثيراً، ولا أفهم شيئاً ذا بال مما قرأت.
ترى كيف لي أن اُعالج حيرتي، وحيرتي من نوعٍ خاص غير مألوف.
وكابرت، قلت: فلاَواصل القراءة، ومحاولة الفهم، واِعادة القراءة. واِعادة محاولة الفهم، علّني أستفيد.
ومرّ الوقت ثقيلاً، بطيئاً، متأنّياً، كان صدري يرزح خلاله تحت ثقل ضاغط، جاثم، لا ينفك يطاردني، ويضيِّق خناقه عليَّ، وبينَ يدي الكتاب وأنا أتلو، ثم أتلو، ثمّ اُعيد تلاوة ما تلوت، ولا أفهم شيئاً.
وبدأت سحب الخيبة تتجمّع حولي شيئاً فشيئاً، ثم راحت تتحوّل تدريجياً اِلى ما يشبه سحابة من حزن شفيف تطلع بين عيني.
لقد قرأت كثيراً، وعليَّ أن أعترف أنني لم أفهم شيئاً ذا بال مما قرأت.
لقد وجدت نفسي أمام كلمات لم تطرق سمعي من قبل.. فلم أعرف ماذا تعني كلمات «النصاب، والبيّنة، والمؤنة، والاَرش، والمسافة الملفّقة، والحول، والدرهم البغلي، والاَبق، والذمّيّ».
كما أخذت تتقافز أمام عيني مفردات وتركيبات يبدو أنّها مصطلحات خاصة بعلم لم يسبق لي دراسته، فلم أدر ما المقصود بـ «العلم الاِجمالي، والشبهة المحصورة، والحكم التكليفي، والحكم الوضعي، والشبهة الموضوعة، والاَحوط لزوماً، والتجزّي في الاجتهاد والصدق العرفي، والمناط، والمشقّة النوعيّة».
وقرأت بعد ذلك جملاً مسبوكة سبكاً خاصاً، لم أعتده من قبل، وجملاً عالجت قضايا لا وجود لها في حياتي المعاشة اليوم، لا أدري لماذا ذكرت؛ وجملاً فيها من التشقيق والتفريع والعمق والتشطير الدقيق للاحتمالات، تركتني في حيرة من أمرها.
فلم أفهم ماذا تعني ـ مثلاً ـ جملة: «اِذا علم البلوغ والتعلق ولم يعلم السابق منهما لم تجب الزكاة، سواءٌ علم تاريخ التعلّق وجهل تاريخ البلوغ، أم علم تاريخ البلوغ وجهل تاريخ التعلّق أو جهل التاريخان، وكذا الحكم في المجنون اِذا كان جنونه سابقاً وطرأ العقل، أمّا اِذا كان عقله سابقاً وطرأ الجنون، فاِن علم تاريخ التعلّق وجبت الزكاة دون بقيّة الصور».
ولا جملة: «الظن بالركعات كاليقين، أما الظن بالافعال فكونه كذلك محل اِشكال، فالاَحوط فيما اِذا ظنّ بفعل الجزء في المحل أن يمضي ويعيد الصلاة، وفيما اِذا ظن بعدم الفعل بعد تجاوز المحل أن يرجع ويتداركه ويعيد أيضاً».
ولا جملة: «الاَقوى أن التيمّم رافع للحدث رفعاً ناقصاً لا يجزي مع الاختيار، لكن لا تجب فيه نيّة الرفع ولا نيّة الاستباحة للصلاة مثلاً».
ولم اعِ المقصود بـ «اِذا توضّا في حال ضيق الوقت عن الوضوء، فاِن قصد أمر الصلاة الاَدائي بطل، واِن قصد أمر غاية أخرى ـ ولو الكون على الطهارة ـ صحّ».
ولا بجملة: «يكفي في استمرار القصد بقاء قصد نوع السفر، واِن عدل عن الشخص الخاص».
ولا بجملة: «فلو أحدث بالاَصغر أثناء الغسل أتمَّه وتوضّأ، ولكن لا يترك الاحتياط بالاستئناف بقصد ما عليه من التمام أو الاِتمام، ويتوضّأ».
ولا بجملة: «مناط الجهر والاخفات الصدق العرفي».
وغيرها كثير مما وقعت عيناي عليه، ولم أدرك كنهه.
ودارت الدّنيا في عيني.. ثمّ دارت دورة ثانية.
ترى: كيف يتسنّى لي أن أعرف حلال الله فآتي به؟ وحرام الله فأجتنبه؟
ورفعت رأسي اِلى السماء، وفي عيني نثيث من عصارة دمع محترق، وتمتمت.
اِلهي! أعلم أنك كلّفتني، ولكني لا أعلم بماذا كلّفتني..
اِلهي! أنّي لي أن أعرف ما طلبت مني، لاَنجز ما طلبت مني.
اللهم أعنِّي على فهم ما أقرأ.
اللهم أعن كتب الفقه على الاِفصاح عما تريد قوله، لاَحقِّق ما تريد قوله.
* * * * *
وانتظرت أبي على المائدة الليلية مساء اليوم..
وحين حل المساء بدت عيوني متعبة، قلقة، منكسرة الاَجفان أول الاَمر. ثم ما لبثت أن أخذت تومض ببريق كالفضّة امتزج فيه الاَسى بالاصرار على التحدّي.
وما أن انتظمت بنا المائدة، وحضر أبي حتى أخذ قلبي يدقّ، وتورّدت وجنتاي، وارتفعت درجة حرارة اُذنيّ كأنّ حُمّي مفاجئة اشعلتهما، وداهمني شعور بالحرج، والخجل، والحيرة، والارتباك، والتردّد، وأنا اُعيد في ذاكرتي وأردد كلمات وجملاً توحي بالعجز عن استيعاب مادة مقروءة.
واستنجدت بشجاعتي وبعزمي على الاعتراف بالنقص، وقلت لاَبي:
لقد راجعت كتب الفقه فاستعصت عليّ، وأبت أن تفتح لي قلبها..
وما كدت أنهي حرفي الاَخير من كلمتي الاَخيرة، حتى شردت عينا أبي، وغارتا ـ كما يبدو ـ في مستنقع من الماضي عميق، ثم عادتا بعد برهة كمن يعود من سفر شاقٍ ممضّ طويل، ودارتا حول عيني كأنّهما تريدان أن تقولا شيئاً، غير أن شفتيه انفرجتا عن صوت خافت مشوب بحزنٍ عميق:
لقد مررت بتجربة شبيهة بتجربتك، عندما كنت في حدود سِنّك.
لقد قرأت كتب الفقه فلم أفهم منها شيئاً ذا بال، مثلك تماماً.. غير أنّي لم أمتلك شجاعتك فأعترف بعجزي عن فهمها.
لقد حالت تربيتي المحافظة، وحَجَزَ حيائي الشديد، بيني وبين سؤال أبي عن بعض خصوصيات مرحلة المراهقة ثمّ الرجولة، فلم أَكُن أُدرك أن البلوغ قد يتحقق بغير العمر الزمني المحدّد له، اِلى أن.. وقاطعت أبي:
وهل يتحقّق البلوغ بغير ذلك؟
ـ نعم يا بني، يتحقق البلوغ في الذكر اِذا توفّرت احدى علامات ثلاث: ـ
أوّلها: أن ينهي خمس عشرة سنة قمريّة من عمره.
ثانيها: أن يخرج السائل المنوي منه سواء خرج باتِّصال جنسي أم باحتلام، أم بغيرهما.
ثالثها: أن ينبت الشعر الخشن على العانة، أقول الشعر الخشن المشابه لشعر الرأس لاَستثني بذلك الشعر الناعم الذي يغطّي ـ عادة ـ أكثر مناطق الجسم كاليدين مثلاً.
والعانة ؟
ـ العانة: منطقة تقع أسفل البطن فوق نقطة اتّصال العضو التناسلي بجدار البطن مباشرة.
هذه علامات البلوغ للذكر ، أمّا الانثى؟
ـ يتحقق البلوغ في الانثى اِذا أنْهَت تسع سنين قمرية من عمرها.
أما وقد أفصحت لك اليوم عن قصوري، وتلكئي، وعجزي عن استيعاب كتب الفقه، فاسمح لي أن أقترح عليك ـ تحت ضغط الحاجة ـ أن تعقد لي جلسات تتناول فيها بالشرح والتبسيط كل ما عسر عليَّ فهمه، مما يتوجَّب عليَّ فهمه والاحاطة به واستبيانه، لتطبيق حكمي الشرعي، صحيحاً كما شرعه الله سبحانه وتعالى لي، وأمرني به.
ويا حبّذا لو كانت جلساتنا تنهج نهج الحوار والمساءلة.
ـ كما تحب.
ولكن بماذا سنبدأ حواريّتنا الاولى؟
ـ سنبدؤها بـ «التقليد» فهو الاَساس الذي سيحدّد لنا شكل تقاطيع وملامح ما سنطبِّقه من فقهنا.
اتفقنا.
* * * * *
«حِواريّة التقليد»
قال أبي ـ وهو يبدأ حواريّة التقليد: ـ
ـ دعني أشرح لك أوّلاً معنى التقليد.
التقليد: أن ترجع اِلى فقيه لتطبق فتواه، فتفعل ما انتهى رأيه اِلى فعله، وتترك ما انتهى رأيه اِلى تركه، من دون تفكير، واِعادة نظر، وتمحيص، فكأنّك وضعت عملك في رقبته «كالقلادة» محمّلاً اياه مسؤولية عملك أمام الله.
ولماذا نقلِّد؟
ـ عرفتَ فيما مضى أن الشارع المقدس قد أمرك، ونهاك.. أمرك بواجبات يتحتّم عليك أن تؤدّيها، ونهاك عن محرّمات يتحتّم عليك أن تمتنع عنها، ولكن بماذا أمرك، وعن ماذا نهاك؟ بعض ما أمرك به واضح في الشريعة تستطيع ـ ربّما ـ من خلال ما ربّتك عليه بيئتك الملتزمة أن تشخّصه، وبعض ما نهاك عنه واضح كذلك تستطيع ـ ربّما ـ من خلال تنشئتك المحافظة أن تميّزه. والكثير الكثير ما بين هذه وتلك من الواجبات والمحرّمات، ستبقى مجهولة لك وللكثيرين من أمثالك غائبةً أو غائمة.
أضاف أبي:
ـ أنت تعرف أن الشريعة الاسلامية قد ألمَّت بجميع جوانب حياتك المختلفة، فوضعت لكل واقعة منها حكماً، فكيف ستعرف حكمك الشرعي وأنت تمارس نشاطاتك الحياتية المختلفة، كيف ستعرف أن هذا الفعل يحلّه الشارع المقدَّس فتباشره، وان هذا العمل يحرمه الشارع المقدّس فتنأَى عنه وتجانبه.
ترى هل يمكنك أن ترجع في كل صغيرة وكبيرة اِلى الاَدلّة الشرعيّة لتستخرج منها حكمك الشرعي؟
ولم لا!!
ـ لقد بعدت الشقة يا بني بين عصرك، وعصر التشريع، وقد أضفى هذا البعد؛ مع ضياع كثير من النصوص الشرعيّة، وتغير لغة وأساليب وأنماط التعبير، ووجود الوضّاعين ـ الذين اختلقوا أحاديث كثيرة وسربوها مع أحاديثنا المعتبرة ـ صعوبات ومعوقات عسَّرت عمليّة استخراج الحكم الشرعي.
ثم اضافت مشكلة وثاقة ناقلي الروايات لذلك عقدةً أخرى في طريق الساعين لاستخراج الحكم الشرعي.
ثمّ لنفترض أنّك استطعت أن تتحقّق بشكل ما من وثاقة رواة النصّ وصدقهم، ودقّتهم فيما ينقلون، وضبطهم؛ وأنّك استطعت أن تختزل الزمن لتضبط نبض اِيقاع المفردات في دلالتها على معانيها، فهل ستستطيع أن تهضم علماً عميقاً، واسعاً، متشعّباً يحتاج اِلي مقدّمات طويلة، وسبر أغوار عميقة، لتحصل منه بعد ذلك على ما أنت بصدد معرفته، والبحث عنه واستيبانه.
وكيف العمل اِذاً..؟
ـ ترجع اِلى المتخصّصين في هذا العلم أي (الفقهاء)، فتأخذ أحكامك منهم.. «تقلّدهم». ليس هذا في مجال علم الفقه فقط، بل في كل علم. لقد أفرزت الحضارة الحديثة مبدأ التخصّص في العلوم، حيث أصبح لكل علم رجاله ومتخصّصوه يُرجع اليهم كلّما طرأت حاجة ما لشأنٍ من شؤون ذلك العلم.
واستطرد أبي قائلاً:
ـ لنأخذ مثلاً لذلك من علم الطب.. فلو مرضت ـ عافاك الله ـ فماذا ستفعل؟
أراجع الطبيب، وأعرض عليه حالتي المرضيّة ليشخّص المرض وليصف لي الدواء المناسب بعد ذلك.
ـ ولماذا لا تشخِّص أنت بنفسك مرضك وتصف الدواء؟
لست طبيباً.
ـ كذلك الحال في علم الفقه. أنت محتاج اِلى مراجعة الفقيه المتخصِّص لمعرفة أمر الله ونهيه، أو لعرض مشكلتك الشرعية عليه، كاحتياجك اِلى مراجعة الطبيب المتخصِّص، لمعرفة أمرٍ طبّي ما، أو لعرض حالتك المرضية عليه.
فكما أنّك محتاج اِلى «تقليد» الطبيب في مجال اختصاصه، أنتَ محتاج اِلى «تقليد» الفقيه في مجال اختصاصه.
وكما أنّك ستبحث عن طبيب فاضل، عالم في مجال اختصاصه ولا سيّما اِذا كان مرضك خطيراً، فأنت ملزم بالبحث عن فقيه بارع في مجال اختصاصه «لتقلّده» وتأخذ منه حكمك الشرعي كلّما استدعتك الظروف المعاشة لاستيضاح حكم شرعي ما، فيها.
وكيف أعرف أن هذا الرجل فقيه؟ أو أنّه أعلم الفقهاء وأفضلهم؟
قال أبي مجيباً:
ـ دعني أسألك.. كيف تعرف أن هذا الطبيب فاضل أو أنّه أفضل الاَطبّاء في مجال اختصاصه لتراجعه، وتسلّمه جسدك، يفعل به ما يراه مناسباً لعلاجه؟
قلت له:
أعرف ذلك من سؤال المهتمّين بشؤون الطب، العارفين به، ممَّن لهم علم، ومعرفة، ودراية، و«خبرة» وتجربة فيه، أو أعرفه لشهرته بين الناس و«شيوع» وانتشار وذيوع اسمه في هذا الحقل العلمي.
ـ بالضبط.. وكذلك تعرف الفقيه، أو الفقيه الاَعلم.
تسأل شخصاً ملتزماً بالواجبات، وتاركاً للمحرّمات، ثقةً، تتوفّر فيه القدرة، والمعرفة، والعلم والعدالة و«الخبرة» على تمييز المستوي العلمي للاَشخاص في مجال الاختصاص.
أو «يشيع» ويشتهر ويذيع بين الناس، فقاهة شخص، أو أعلميته بين سائر الفقهاء، بحيث تجعلك تلك الشهرة الواسعة وذلك الذيوع والانتشار، و«الشيوع» متأكداً وواثقاً من فقاهته أو أعلميّته.
وهل هناك شروط اُخرى فيمن يجب علينا تقليده، بعد أن نبلغ مبلغ الرجال، عدا شرط الفقاهة؟
ـ أن يكون مقلَّدك: رجلاً، بالغاً، عاقلاً، مؤمناً، عادلاً، حيّاً غير ميّت، طاهر المولد ـ أي أن تكون ولادته قد تمّت وفق مقاييس وضوابط شرعيّة ـ وألاّ يكون كثير الخطأ والنسيان والغفلة.
حسناً ها أنذا ذا قد بلغت مبلغ الرجال، وقد عرفت منك شيئاً عن التقليد فماذا يجب عليَّ ان أفعل الاَن؟
ـ تقلّد أعلم فقهاء عصرك، وتعمل بما يفتي به في شؤونك المختلفة.. في أحكام وضوئك ـ مثلاً ـ وغسلك، وتيمّمك، وصلاتك، وصومك، وحجّك، وخمسك، وزكاتك، وغيرها. كما تقلّده في معاملاتك.. في أحكام بيعك ـ مثلاً ـ وشرائك، وحوالتك، وزواجك، وزراعتك، واِجارتك، ورهنك، ووصيتك، وهبتك، ووقفك و.. و..
ورحت أعدد مع أبي..
وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وايمانك بالله، وانبيائه ورسله و..
ـ كلا.. الايمان بالله وتوحيده، ونبوّة نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) واِمامة الاَئمّة الاِثنى عشر (عليهم السلام)، والمعاد.. هذه أمور لا يجوز التقليد فيها فهي من أصول الدين، ولا يجوز التقليد في اُصول الدين بل يجب أن يعتقد كل مسلم بها اعتقاداً جازماً لا شك فيه، ولا شبهة ولا ضبابيّة ولا التواء، واصلاً اِلى ايمان قاطع بالله، باحثاً عنه بجهوده، مسخّراً ما منحه الله من طاقات فكريّة فيه منتهياً من خلال ذلك كله اِلى قناعة تامّة راسخة لا تتزعزع به..
طيب.. الا يحق لي أن أقلّد فقيهاً مع وجود فقيه أعلم منه في مجال اختصاصه؟
ـ يمكنك ذلك شرط أن لا تعلم بوجود اختلاف بين فتاوى مقلَّدك وفتاوى الاَعلم في مسائلك التي تحتاجها لتعمل بها.
لو قلّدت الاَعلم، ولم تكن له فتوى في مسألة ما تخصّني؟ أو كانت له فتوى ولم يسعني استعلامها؟
ـ ترجع اِلى الاَعلم من بعده أي من يتلوه في العلم من الفقهاء.
واذا كان الباقون متساوين في العلم فماذا افعل؟
ـ ترجع اِلى من كان أورع من غيره، أي أكثر تثبتاً وحيطة في الرأي الذي يتخذه والفتوى التي يصدرها.
واذا لم يكن بعضهم أورع من بعض؟
ـ يمكنك أن تطبق عملك على فتوى أيٌّ منهم اِلاّ في بعض الحالات المعينة حيث يجب فيها ان تعمل بالاحتياط ولا يسعني في هذا المقام أن اشرحها لك.
حسناً.. أستطيع حين أراجع الطبيب أن أعرف رأيه في حالتي الصحّية لو استدعت صحّتي مراجعته فكيف أستطيع أن أعرف فتوى مقلَّدي في مسائلي الشرعية؟ كيف أصل اِلى فتاواه لاَطبِّقها؟ هل اُراجعه في كل مسألة؟
ـ تستطيع معرفة فتاواه.. بسؤاله مباشرة عنها، أو بسؤال من تثق بنقله ومعرفته وأمانته في نقل تلك الفتاوى، أو بمراجعة كتبه الفقهية كرسالته العملية مع الاطمئنان بصحّتها.
اِذاً اطلب منك وانت الثقة الامين أن تعينني على معرفة فتاوى مقلّدي.
ابتسم أبي بوقار رزين، واعتدل في جلسته بينما راحت عيناه توميَ بوميض موعد جلسة قادمة.
قلت: نبدأ بالصلاة.
ـ قال: نبدأ بالصلاة.
وأضاف:
ـ غير أن الصلاة تتطلّب طهارة الانسان من كل ما يدنِّس طهارته.
وما الّذي يدنِّس طهارة الانسان؟
ـ تدنس طهارة الانسان:
1 ـ اُمور مادية تقع في نطاق عمل الحواس كالنجاسات.
2 ـ واُمور معنويّة غير مدركة بالحواس لو «حدثت» بأحد أسبابها من جنابة أو حيض أو استحاضة أو نفاس أو مسِّ ميّت أو نوم أو خروج بول أو غائط أو ريح، للزم ازالتها بالوضوء أو الغسل أو التيمم.
وتستدعينا هيكليّة البحث وصولاً اِلى الصلاة أن نبدأ حوارنا «بالنجاسات»، فنتعرّف عليها أوّلاً، ثم نتعرّف بعد ذلك على «مطهراتها»، لنضمن طهارة الجسد من كل ما يسلب طهارته، ويخدش نقاءه.
ثم نثنّي فنتحاور بما لو «حدث» لوجب «غسله بالوضوء» أو «مسحه بالتيمّم» سواء أحدث من بول أم غائط أم ريح أم نوم أم استحاضة قليلة أم غيرها.
ونستأنف، فنتجاذب أطراف الحديث بما لو «حدث» لوجب «غسله بالغسل» أو «مسحه بالتيمّم» سواء أحدث من جنابة أم حيض أم استحاضة أم نفاس أم مسّ ميّت.
رافعين من طريقنا كل ما يعترض أو يعيق فرصة التقرّب لله عزّ وجلّ بالصلاة، فائزين بعد ذلك بلذّة الوقوف بين يديه مكبّرين مهلّلين حامدين موحّدين منعّمين بولع ذكره ودعائه راجين أن يجعلنا ممّن ترسَّخت اشجار الشوق اِليه في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبّته بمجامع قلوبهم.
متناولين بعد الصلاة ما يتطلّب مثلها الطهارة كالصوم والحج وغيرها.
اذن سنبدأ بالنجاسات أولاً؟.
ـ نعم سنبدأ بها اولاً يوم غدٍ ان شاء الله.
ان شاء الله.
* * * * *