أم حكيم والانتقام من بسر من أرطأة (1) :
نموذج آخر ، هو أنه بعد مسألة التحكيم ، أرسل معاوية ، الضحاك بن قيس وبسر بن أرطأة إلى اليمن وامرهما بارتكاب مجزرة عامة ضد رجال الشيعة واتباع أهل البيت هناك ، فهجموا على بيت أحد الشيعة ، وعندما لم يجدوه في البيت ذبحوا ولديه الصغيرين أمام أمهما ، ونجد أن أولئك النساء لم يستسلمن حين كن يشاهدن قتل أولادهن ، ولم يقلن لا تقتلوا أولادنا ونحن نضحي للأمويين بثروة أدبية . أو يقلن لا تذبجوا أولادنا ونحن نتخلى عن الولاء لأهل البيت . إن تحمل المرأة لتلك المصائب المؤلمة دليل على ان المرأة تستطيع مثل الرجال التواجد في مراسيم الشهادة أيضاً ، وليس هناك فرق بين المرأة والرجل في هذه الناحية .
ان تحمل هذا المشهد المؤلم كان صعباً على الأم ، وبعد فترة أصيبت هذه المرأة بمشاكل نفسية وأنشدت رثاء رفيعاً في استشهاد ولديها . وكانت تقرأه على كل امرأة ، وقد كان الشعر الأدبي لهذه الأم مؤثراً إلى درجة أن أحد الرجال من اليمن قرر أن يأخذ فدية هذين الولدين والانتقام لهما من بسر بن أرطأة ، فتقرب إلى بسر بن أرطأة بالنفوذ في جهاز إدارته وأصبح موضع ثقته ، حتى حمل معه ولديّ بسر بعد كسب الثقة وذبحهما ، وقال إن هذا هو جزاء ذلك القتل الذي قام به بسر تجاه ولدي تلك المرأة .
أم الخير ، خطيبة صفين (2) :
نموذج آخر هي بنت حريش بن سراقة الملقبة بـ ( أم الخير ) وهي من النساء المعروفات في صدر الإسلام وكانت تتمتع بقوة تعبير عالية وتعتبر
____________
(1) الدر المنثور ، ص 56 .
(2) الدرر المنثور ، ص 57 .
خطيبة بليغة . لم تكن هذه المرأة من سكان المدينة بل كانت تسكن في الكوفة .
كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن أوفد عليّ أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقية برحلة محمودة الصحبة غير مذمومة العاقبة واعلم أني مجازيك بقولها فيك بالخير خيراً وبالشر شراً ، فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها فأقراها إياه فقالت : أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري تجري مجرى النفس يغلي بها غلي المرجل بحب البلس يوقد بجزل السمر . فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها يا أم الخير إن معاوية قد ضمن لي عليه أن يقبل قولك فيّ بالخير خيراً وبالشر شراً فانظري كيف تكونين . قالت : يا هذا لا يطمعك والله برك بي في تزويقي الباطل ولا تؤيسنك معرفتك أياي أن أقول فيك غير الحق . فسارت خير مسير فلما قدمت على معاوية أنزلها مع الحرم ثلاثاً ثم اذن لها في اليوم الرابع وجمع لها الناس . فدخلت عليه فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين . فقال : وعليك السلام ، وبالرغم والله منك دعوتني بهذا الاسم . فقالت : مه يا هذا فان بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه ، قال صدقت يا خالة ، وكيف رأيت مسيرك ؟ قالت : لم أزل في عافية وسلامة حتى أوفدت إلى ملك جزل وعطاء بذل فانا في عيش أنيق عند ملك رفيق . فقال معاوية : بحسن نيتي ظفرت بكم واعنت عليكم . قالت : مه يا هذا لك والله من دحض المقال ما تردي عاقبته . قال ليس لهذا اردناك . قالت : إنما أجري في ميدانك إذا أجريت شيئاً أجريته فاسأل عما بدا لك .
قال : كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر ؟ قالت : لم أكن و الله رويته قبل ولا زورته بعد وإنما كانت كلمات نفثها لساني حين الصدمة ، فان شئت أن أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت . قال لا أشأ ذلك ثم التفت إلى
أصحابه فقال : ( أيكم يحفظ كلام أم الخير ؟ قال رجل من القوم أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد . قال : هاته . قال نعم كأني بها يا أمير المؤمنين وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية وهي على جمل أرمك وقد احيط حولها حواء وبيدها سوط منتشر الظفرة وهي كالفحل يهدر في شقشقة تقول : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) (1) ان الله قد أوضح لكم الحق وأبان الدليل ونور السبيل ورفع العلم فلم يدعكم في عمياء مبهمة ولا سوداء مدلهمة ، فإلى أين تريدون رحمكم الله أفراراً عن أمير المؤمنين أم فراراً من الزحف أم رغبة عن الإسلام أم ارتداداً عن الحق ، أما سمعتم لله عز وجل يقول : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) (2) ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول : اللهم قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشر الرعب وبيدك يا رب أزمة القلوب ، فاجمع اللهم الكلمة على التقوى وألفّ القلوب على الهدى واردد الحق إلى أهله . هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والوحي الو في والصديق الأكبر ، أنها أحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس ثم قالت : ( فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون ) صبراً معشر الأنصار والمهاجرين قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم وكأني بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل ليصبحن نادمين حتى تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة ولات حين مناص ، انه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل ، ومن لم يسكن الجنة نزل
____________
(1) سورة الحج ، الآية : 1 .
(2) سورة محمد ، الآية : 31 .
النار أيها الناس ان الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها واستبطأوا مدة الآخرة فسعوا لها . والله أيها الناس لولا ان تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه ، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوج ابنته وإبي بنيه خلق من طينته وتفرع من نبعته وخصّه بسره وجعله باب مدينته وعلم المسلمين وأبان ببغضه المنافقين فلم يزل كذلك يؤيده الله عز وجل بمعونته ويمضي على سنن استقامته لا يعرج لراحة الدأب وها هوذا مفلق الهام ومكسر الأصنام ، صلى والناس مشركون واطاع والناس مرتابون فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر وأفنى أهل أحد وهزم الأحزاب وقتل الله به أهل خيبر وفوق جمع هوازن فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقاً وردة وشقاقاً وزادت المؤمنين إيماناً قد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . فقال معاوية : والله يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي والله ، لو قتلتك ما حرجت في ذلك ، فقالت : والله ما يسؤني يا ابن هند ان يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه . قال : هيهات يا كثيرة الفضول ما تقولين في عثمان بن عفان ؟ ثم طرح معاوية قضية الزبير . فقالت : وأنا أسألك بحق الله يا معاوية فان قريشاً تحدثت أنك أحلمها ، ان تعفيني من هذه المسائل وامض لما شئت من غيرها .
أن المقصود من ذكر هذا التفصيل هو أولاً : ان هذه المرأة كان لديها عمل عسكري ، وعمل إعلامي أيضاً . ثانياً ان كلامها كان مقتبساً من القرآن وسنة المعصومين والعترة الطاهرين عليهم السلام . ثالثاً : كانت مستعدة حتى الشهادة من أجل القيادة وإمامها . رابعاً : ان شعارها كان في حد العقل والوحي وليس في حد العاطفة والشعور . خامساً : ان كلامها هذا كان
مهيجاً ، وكان في حضور الولي المعصوم ، لأنه لم يكن يحق لشخص التكلم حين الحرب بدون إذن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وإذا قيل ان الخطابة ليست جهاداً ، نقول : هل أن جميع المجاهدين هم في الخط الأمامي ، ويحاربون مسلحين ؟ هناك عدة لديهم أعمال إعلامية ، وعدة لديهم أعمال تموينية ، وعدة ينقلون الأسلحة وعدة يقاتلون . في هذه الحروب تقسم الأعمال .
لو بحثتم هذا النوع من النماذج يتضح ان القرآن والعترة الطاهرين عليهم السلام نجحوا في تربية رجال مثل أبي ذر ، وكذلك تعليم نساء يتكلمن بالحق ويحاربن العدو ، لذا فالكلام في ان الرجل هو أفضل من المرأة لأنه ليس هناك أية امرأة بلغت مقام النبوة ، ذلك الكلام ليس فيه دلالة على أن مقام المرأة أقل ، ذلك لأن البحث ليس في مقام النبوة ، فلا تترتب فائدة على فخر ومباهاة الرجال ، ولا يكون له أثر في الشعور بالضعف لدى النساء . ان ما هو مسلم ان الطريق مفتوح لتربية وتكامل كليهما ، وكثير من الوظائف مشتركة ، وبعضها خاصة بلحاظ طبعهما .
أم خالد ، محدثة من النساء : (1)
من النساء النموذجيات في صدر الإسلام بنت خالد بن سعيد ـ المشهورة بأم خالد ـ التي روت روايات كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ان أمثال تلك المرأة لم يتولين الأمور التموينية في ميادين الحرب فقط حتى يعتبرن بوصفهن ممرضات وخادمات صاحبات عمل سهل ، بل بالإضافة إلى ذلك كان قسم يعتد به من أولئك النساء محدثات وكن قد سمعن أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل سائر الصحابة ويذكرنها للآخرين .
____________
(1) الدر المنثور ، ص 67 .
من بين الأحاديث التي ذكرتها في سيرة الله صلى الله عليه وآله وسلم .
( انها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتعوذ من عذاب القبر ) .
إن مدلوله هو ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ من عذاب القبر مكرراً . وأهمية حديث أم خالد هذا في تسجيله أن سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جارية على التعوذ من عذاب القبر .
أميمة ، شفيقة على المجاهدين (1) :
كانت بنت القيس بن أبي الصلت الغفاري من المحدثات وقد ورت روايات كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان عدد من التابعين تلاميذها ( روى عنها جملة من التابعين ) وهذه المرأة كات شفيقة على المجاهدين .
كانت تتواجد في الحروب وكان لها دور مؤثر في معالجة الجرحى واخلاء الشهداء ( ودائماً تحضر الوقائع وتداوي الجرحى وتدور بين القتلى ) وعلاوة على أنها كانت محدثة ، كانت تفهم الأحاديث جيداً وترويها وكانت ضمن القوة المقاتلة .
هذه هي نفس الكمالات التي يفخر بها سائر الصحابة ، وإلا فماذا فعل سائر الصحابة ؟ لم تكن هناك للصحابة كتب وتحقيقات ، بل روي عن كل منهم عدة أحاديث وأحياناً حديث واحد ، وكان من بينهم مجموعة قليلة جداً نجحت في أن تجمع نوع أحاديث وكلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكمثال هناك حوالي اثني عشر ألف صحابي في كتب الرجال والتراجم ـ مثل أسد الغابة والاصابة وغيرها . وفيها توضيح دقيق لاسمائهم وهوياتهم وتواريخ حياتهم ووفاتهم ومدة صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(1) الدر المنثور ، ص 67 .
ويلاحظ أحياناً أن بعضهم التقى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة أو روى عنه رواية واحدة ، كان هؤلاء يفخرون بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنهم لم يكونوا يقارنون بالإمام علي عليه السلام ولم يكن أي منهم مثله وبدرجته في التتلمذ عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
بناء على هذا لو بحثنا مستوى الرجال الصحابة نجد ان بين النساء الصحابيات نساء فاضلات يتمتعن بجميع القيم والكمالات الروحية . ومن الواضح والمبرهن بشكل كامل ان جعل أمير المؤمنين عليه السلام معياراً للوزن عند مقارنة مقام المرأة والرجل ليس صحيحاً ، ولكن إذا جعلنا سلمان وأبا ذر معياراً ، فهناك بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساء من طرازهما . والفرق الوحيد الموجود هو ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرسل كل الرجال للجهاد ، أما النساء فكانت تذهب تطوعاً ، ولأن التواجد في الجبهة لم يكن لازماً على المرأة ، لذا كانت تلك النساء تأتي وتطلب الذهاب معهم .
على أي حال كانت هذه المرأة تتولى بالإضافة إلى إخلاء الجرحى ، دفن الشهداء والتواجد في ميادين الحرب تتولى الاعلام وترغيب المقاتلين عن طريق الخطابة والشعر وأمثال ذلك ( وكانت تحت الناس على ذلك ) . كان الشعر انذاك له تأثير عند العرب . كما نلاحظ اليوم أحياناً ان أثر الشعر مثل أثر البرهان في بعض الاجتماعات الخاصة . فالمحاضر إذا أقام مسائل برهانية له نفس الدرجة من الأثر الذي للشاعر الماهر الذي يلقي قصيدة أو نثراً أدبياً .
روي أن عدداً من نساء غفار دخلن مع هذه المرأة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت الناطقة باسمهن ، قالت :
( انا نريد أن نخرج معك في وجهك هذا فنداوي الجرحى ونعين
المسلمين بما استطعنا ) ، فأذن النبي صلى الله عليه آله وسلم وشاركن في معركة خيبر وكانت تقودهن بنت قيس ابن أبي الصلت الغفاري . روي انها ( تهديهن لما يلزم لذل حتى انتهى الحرب ورجع المسلمون منصورين ) كانت معلمة لهن .
أم كلثوم وهجرة النساء : (1)
نموذج آخر هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي المعيط ، كانت من ضمن المهاجرات وقال المؤرخون بشأنها ( أسلمت وهاجرت وبايعت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ) .
هاجرت في السنة الهجرية السابعة ، ويقال إنها أول مهاجرة هاجرت مشياً على الأقدام من مكة إلى المدينة وكان زوجها زيد بن حارثة الذي استشهد في معركة مؤتة .
عندما هاجرت من مكة جاء عدد من الكفار لإعادتها مرة ثانية فنزلت هذه الآياته :
( فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) (2) .
حتى وان كانوا من ذويهن ، لأنه :
( لا هنّ حلّ لهم ولا هم يحلّون لهن ) (3) .
يتضح من هذه النماذج ، أن الشيء الذي يتعلق بالروح الإنسانية تتساوى فيه المرأة والرجل ، وقد ابلغ الإسلام دعواته لكلا الصنفين بالاستعانة بهذه القاعدة العقلية والقلبية العامة ، وإذا رأينا ان النساء النموذجيات ليست لهن تلك الشهرة ، فهو لأنه لم يجر إعلام في النبوغ
____________
(1) الدر المنثور ، ص 62 .
(2) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(3) المصدر السابق .
الفكري للمرأة . وإلا فالأمثلة التي ذكرت تدل على أن النساء الشبيهات بأيي ذر لم تكن قليلات . كانت النساء اللواتي بذلن جهداً أيام الدولة الأموية ، وفي حرب صفين والجمل وغيرها لصالح ولاية علي عليه السلام وضد الظلم الأموي ، والنساء المحاربات للظلم اللواتي دخلن إلى بلاط الأمويين وقمن باداتة الحكومة الأموية الظالمة بإلقاء الخطب الحماسية ، كثيرات .
النساء النابغات في الشعر والأدب :
أما من حيث الأدب ، فإنه رغم ان الرجال وصلوا إلى درجة من النبوغ الأدبي ، بحيث كان لهم ( المعلقات السبع ) وكانوا يعرضون شعرهم في سوق عكاظ ويفوزون في مسابقة عكاظ الدولية ، فان هناك نساء كن هكذا أيضاً ، وكنّ ينشدون شعراً رفيعاً ويعرضنه في سوق عكاظ .
كان ذلك الوضع في الجاهلية ، وفي الإسلام تربى أدباء ليقولوا شعراً بشأن المعارف الإلهية بدل المضامين الجاهلية . وهذه الهداية كانت مؤثرة في النساء الأدبيات مثلما أثرت في الرجال .
فالمرأة التي كانت في الجاهلية تقول أدباً بطريقة تفكير جاهلي وتنشد شعراً في رثاء أعضاء أسرتها ، كانت بعد إسلامها ترسل شبابها وأبناءها إلى ميدان الحرب وذلك بإنشاد القرآن .
في هذا القسم نذكر نماذج من أولئك النساء ، سواء في الأقسام الأدبية أو في الأقسام السياسية .
الخنساء شاعرة مربية لشهداء (1) :
الخنساء من نساء العرب ويقال انها من أحفاد امرىء القيس الشاعر
____________
(1) الدر المنثور ، ص 109 .
المشهور . كانت تنشد شعراً رفيعاً في رثاء أخويها ( معاوية وصخر ) اللذين قتلا في إحدى الحروب ، ولكنها بعد مقتل صخر اشتد حزنها لأن صخراً كان أرأف وأرق قلباً وكان يعينها في المصاعب المالية ، لأن زوجها كان يلعب القمار ويخسر حصيلة عمله ، وكان صخر قد حفظ كرامة أخته هذه عدة مرات . كان شعرها في رثاء إخويها أفضل شعر من بين شعر النساء .
رأي الأدباء في الخنساء :
عندما كان الأدباء العرب المعروفون يسألون عن موقع الخنساء في الأدب كانوا يقولون كلاماً رفيعاً . قيل لجرير : ( من أشعر الناس ) قال : أنا لولا هذه .
كان بشار يقول : هذه المرأة نظمت شعراً بدون نقص أدبي ، وقيل لبشار ما هو رأيك بالخنساء ؟ قال : ( تلك فوق الرجل ) أي هي فوق الشعراء الرجال .
أما الأصمعي فكان يرجح ليلى الأخيلية على الخنساء ولكنه كان يذكر الخنساء بتكريم . وكان المبرد يقول : ( كانت الخنساء وليلى فائقتين في أشعارهما ) .
كان النابغة الذبياني يتولى منصب الحكم في سوق عطاظ ، وكان الشعراء الذين ينظمون شعراً جديداً يعرضونه عليه في سوق عكاظ حتى يقيمه ، عندما سمع القصيدة ( الرائية ) للخنساء في رثاء صخر قال : ( إذهبي فأنت أشعر من كانت ذات ثديين ، ولولا هذا الأعمى الذي أنشدني قبلك ـ يعني أشعر من كانت ذات ثديين ، ولولا هذا الأعمى الذي أنشدني قبلك ـ يعني الأعشي ـ لفضلتك على شعراء هذا الموسم ) . وعندما سمع حسان بن ثابت الذي كان من المشاركين في المسابقة هذا الكلام من الحكم غضب وقال : ( ليس الأمر كما ظننت ) ، فالتفت إلى الخنساء وقال لها بان تجيب
حسان بن ثابت ، فالتفتت إلى حسان بن ثابت وقالت : ( ما أجود بيت في قصيدتك هذه التي عرضتها آنفاً ) ؟ قال :
لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضحى | * | وأسيـافنـا يقطـرن من نجدة دماً |
فأشكلت الخنساء ثمانية اشكالات أدبية على هذا البيت (1) الأول : أنك قلت : ( الجفنات ) والجفنات دون الجفان وأقل منها ، وكان الحق لو قلت الجفان . الثاني : انك قلت : ( الغرّ ) وهو جمع أغر وهو بياض الجبين ، ولو قلت ( البيض ) لكان مطلق البياض ولكان معناه أوسع . الإشكال الثالث : قلت ( يلمعن ) ولو استعملت ( يشرقن ) محل يلمعن لكان أفضل لأ الإشراق أقوى من اللمعان . الرابع : قلت بالضحى ولو قلت بالدّجى لكان أكثر اطراقاً ) . الخامس : قلت : أسياف والأسياف ما دون العشرة ولو قلت ( سيوفنا ) لكان أكثر وأفضل . السادس : قلت : يقطرن ولو قلت يسلن لكان أكثر . السابع : قلت : دما والدماء أكثر من الدم . بعد هذه الإشكالات . سكت حسان ولم يجب ، كان هذه قوة أدبية لدى هذه المرأة الأدبية التي كانت من أحفاد امرىء القيس .
عندما ظهر الإسلام ، ولم يؤمن به كثير من الرجال والنساء . من أثر طبع الجاهلية ، أسلمت هذه المرأة بسبب النبوغ الفكري الذي كان لديها ( فقدمت الخنساء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلمت واستنشدها فأنشدته فأعجب بشعرها ) .
لقد قامت بتربية أبناء في المجتمع الإسلامي ، وكانت تجهزهم وتشجعهم وترسلهم إلى الجبهة ، وفي إحدى الحروب في صدر الإسلام
____________
(1) أشار المصدر إلى وجود ثمانية إشكالات ، لكنه ذكر سبعة فقط .
التي وقعت بعد رحلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصتهم بهذه الوصية :
( يا بني إنّكم أسلمتم طاثعين وهاجرتم مختارين ، والله الذي لا إله إلا هو انكم لبنو رجل واحد كما انكم بنو امرأة واحدة ما هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم . واعلموا ان الدار الآخرة خير من الدار الفانية ( اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (1) .
ورغم ان هناك رواية وردت عن الإمام الباقر عليه السلام في آخر هذه الآية انه قال بان المقصود من هذه الآية هو اصبروا وليكن عندكم رابطة مع إمامكم ـ أو ولي عصركم (2) ـ ولكن مقصودها هو بيان مصداق ـ وهو حق ـ في هذه الآية الصبر هو غير المصابرة والمرابطة ، الإنسان يصبر في الحوادث الفريدة أما في الحوادث الجماعية كالحرب وأمثالها فلها مصابرة ولها مرابطة في الارتباط مع القيادة . مضمون هذه الآية أوصته الخنساء لابنائها وارسلتهم إلى الجبهة وقالت : ( فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها ، وجللت ناراً على أوراقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رسيسها ) .
إن جملة ( الآن حمي الوطيس ) (3) هي من الكلمات التي ذكرها المرحوم ابن بابويه القمي ـ رضوان الله عليه ـ في نهاية كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) تحت عنوان كلمات موجزة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعض هذه الكلمات الموجزة يقال انها لم يكن لها سابقة بين الأدباء .
خصائص كلمات وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
ان الكلمات التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليست خطابية بل كلها
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 200 .
(2) تفسير الميزان ، ج 4 ، ص 133 .
(3) من لا يحضره الفقيه ، ج 4 ، ص 377 .
قواعد مثل الدساتير ، لذا فان حفظ كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس كحفظ خطب نهج البلاغة الذي يكون منضوداً ومتصلاً . رسول الله يطرح كلمة فكلمة وجملة فجملة بوصفها قواعد دستور .
من الكلمات التي يقال انها لم تكن لها سابقة بين الأدباء هي جملة ( الآن حمي الوطيس ) ، أي بما ان التنور حار الآن ، فالوقت هو وقت الخبز . عندما تكون تجارة الشهادة نشطة يجب السعي وملأ الجبهات . وهذه المرأة قالت لأبنائها بأنهم إذا رأوا تجارة الشهادة نشطت وحمي ميدان الحرب فليغتنموا الفرصة وليتواجدوا ( فتيمموا وطيسها ) تدعو أبنائها للتواجد في الجبهة حتى يغتنموا الشهادة ـ أما ينتصروا والنصر غنيمة أو يستشهدوا والشهادة غنيمة ، هناك من يفكر يغنيمة مادية ولكن هذا المرأة تدعو أبناءها إلى الشهادة والكرامة ( تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة ) ، لأنه :
( الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة ) .
( فلما أضاء لهم الصبح ، باكروا إلى مراكزهم ، فتقدموا واحد بعد واحد ينشدون أراجيز يذكرون فيها وصية أمهم لهم حتى قتلوا عن آخرهم ) وأخبرت هذه الأم بان أولادهم قتلوا ( فقالت : الحمد الله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة ) .
هذا الذوق الأدبي يستطيع ان ينشد شعراً يعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا الذوق يستطيع ان يؤلف خطابة من آيات القرآن ويحث ابناؤه على الجبهة وهذا الذوق الأدبي يقول بعد تلقي خبر استشهاد أبنائه ( الحمد لله الذي شرفني بقتلهم ) .
كيف يمكن ان يقول الإنسان أو يصدق ان المرأة جبانة ـ كم لدينا
هكذا من الرجال في صدر الإسلام ؟ إذا كان هناك أشخاص مثل أبي ذر ذكرت شهامتهم مرات ، فان هناك مثل هذه النساء لو ذكرت قضاياهن لعرف الجميع مقام المرأة وعند ذلك لا يعدونها ضعيفة وجبانة .
نتيجة البحث (1) :
هناك نماذج كثيرة من النساء وردت في التاريخ في الأقسام السياسية والدينية والأدبية أشير إلى عدد منهن . وهناك عدد آخر في كتب الرجال ـ خاصة بالنساء مثل الدر المنثور ورياحين الشريعة و .. أو التي تشمل المرأة والرجل ـ يمكن مراجعتها .
عندما تبحثون في أي قسم من الأقسام العسكرية والسياسية والعرفان والحديث ترون أن هناك نساء نموذجيات كثيرات ، ولكن عندما يكون اسم محجوباً لا تذيع أخبارها في المجتمع . يجب أن تكون هي في حجاب ، واسمها في كتاب حتى تظهر عظمتها . فالله تعالى يعرف المرأة بالحجاب ويذكر اسمها في الكتاب .
ذكر تعالى قوله ملكة سبأ :
( وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين ) (1) .
فذكرها بعظمة ، وفي النتيجة يعرفها بانها عاقلة ، الذكاء ليس في ان يشمخ الإنسان أمام الحق ـ لأنه ينكسر رأسه ـ بل الذكاء في ان يخضع الإنسان في محضر الله .
ان ملكة سبأ مع انها كانت تتمتع بقوة كبيرة :
____________
(1) سورة النمل ، الآية : 44 .
( وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ) (1) .
إن الشخص لذي لديه هذه القوة ، ويتمتع بإمكانات وقوى سياسية وعسكرية ، يأتي ويسلم ، ان هذا هو دليل على العقل ، ان الذين يضعون التهور موضع الشجاعة هم أشخاص يفتقدون القدرة على تشخيص الصراط المستقيم .
نتيجة البحث (2) :
يمكن الاستفادة من هذه الشواهد القرآنية والعقلية والقلبية أن الذكورة والأنوثة ليس لها دخل في ذلك القسم الاساسي وهو موضع التكامل ، ولو قال شخص : إن المرأة لم تصل إلى مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيجب القول : أن كثيراً من الأنبياء أيضاً لم يصلوا إلى ذلك المقالم ، ثم إن الرجال هل يستطيعون أن يصبحوا مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أي فخر هذا ؟ .
ان كل شخص يكون أقرب إلى رسول الله من حيث السير الكمالي ، فذلك فخر ، ولكن فخره هو في التواضع ، فخره هو في الشعور بالمذلة .
الكلام في بحث حقوق المرأة وتكامل المرأة ومساواة المرأة للرجل في المسائل الأخلاقية والتربوية وغيرها من أجل أن تكون أرضية نضج . فإذا كان لدى الرجال سعي ، فالنساء أيضاً أهل سعي وجهاد ، والمرأة تستطيع ان تصل إلى أي مقام يصله الرجال العاديون .
إن قول الله تعالى في القرآن الكريم :
( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ) (2) .
____________
(1) سورة النمل ، الآية : 23 .
(2) سورة الانشقاق ، الآية : 6 .
هو خطاب للإنسانية وفي الإنسانية ليس هناك دور للذكورة والأنوثة ، ما هو مهم هو ان الإنسان يصل أخيراً إلى لقاء الله ، أما إلى لقاء الجمال الإلهي أو إلى لقاء الجلال الإلهي ، وفي هذا الطريق تتساوى المرأة والرجل .
حل الشبهات والروايات المعارضة
مقدمة
اتضح حتى الآن ان الإسلام لم يشترط الذكورة في أي كمال من الكمالات المعنوية .
ان طريق الكمال مفتوح لكلا الطرفين وكل شخص يقطع هذه الطريق بدرجة قابليته ، وموضع التمايز هو في الأعمال التنفيذية المتعلقة ببناء بدن الإنسان والموزعة على أساس الخصائص الجسمية للطرفين .
المعايير المطروحة لفضيلة لفضيلة الإنسان ليس هناك امتياز بين المرأة والرجل في نيلها ، وما هو امتياز بين المرأة والرجل ليس عامل امتياز معنوي ، وهذه المسألة تبين بصورة ( منطقية ) هكذا : ما هو عامل كمال ليس في فرق بين المرأة والرجل ، وما يؤدي إلى الفرق ، ليس له دور في الكمال ، وإذا كان نجاح طرق أقل أحياناً من الطرف الآخر في الحصول على التكامل ، فهذا النقص من أثر الاختيار السيّئ لذلك الطرف نفسه ، لا أن الإسلام لم يفتح له الطريق ، وهناك فرق بين ان ينسد الطريق أمام طرف من قبل الدين
وبين أن لا يقطع الإنسان الطريق بسوء اختياره .
في التكامل المعنوي ليس هناك فرق بين المرأة والرجل ، وأما الفرق الذي يلاحظ في المجتمع فهو يتعلق بنفس الأشخاص ، فإذا لم ترغب امرأة ان تهذب نفسها فهذا طريق لم تقطعه هي ، وإلا فالطريق مفتوح أمامها . كما ان رجلاً من الرجل إذا لم يهذب نفسه فهذا ليس لأن طريق التكامل مسدود بوجه الرجال بل لأن نفس هذا الشخص لم يهذب نفسه .
الموت الطبيعي والموت الإرادي :
وتوضيح هذا الكلام هو ان الإنسان له حياة وموت طبيعي ، وفي هذه الحياة والموت الطبيعي يشترك مع الحيوانات أو أحياناً مع النباتات .
إن للإنسان حركة وتخيلاً وتوهماً وتغذية ونمواً وأمثالها ، وبعض هذه الأعمال مشتركة بين الإنسان والنبات وبعض آخر من هذه الأمور مشتركة بين الإنسان والحيوان ، وأحياناً تسلب هذه الأمور حيث يعبر عن ذلك الموت الطبيعي ، وأحياناً ، تثبت هذه الأمور حيث يعبر عن ذلك بالحياة الطبيعية هذه ليست علامة على الكمال إلا في حد الكمال النباتي أو الكمال الحيواني .
ولكن الإنسان له موت وحياة أخرى أيضاً تتعلق بحسن اختياره أو سوء اختياره . الإنسان يستطيع ان يميت نفسه بسوء الاختبار أو إحياء نفسه بحسن الاختيار . الذين يميتون أنفسهم بسوء إختيارهم يذكرهم القرآن بوصفهم كافرين حيث يذكر أن الكافرين هم الذين فقدوا الحياة المعنوية بسوء الاختيار أو لم يسيروا في اتجاه تهيئة تلك أو اعتزموا على دفعها أو قاموا برفعها أو لم يستعدوا لأن يصلوا إلى حياة معقولة ، أو أنهم سقطوا بعد الحياة المعنوية والعقلية ، كأولئك الذين يرتدون بعد الإسلام معاذ الله . هذه هي أنواع من الموت من أثر سوء الاختيار .
هناك مجموعة من أنواع الموت بحسن الاختيار حيث يميت الإنسان نفسه قبل ان يموت . ان الذي قال انني أموت من الإنسانية مرة أخرى وادخل في عالم الملائكة يشير إلى هذا الموت الاختياري حيث يموت الإنسان بحسن اختيار ، وهذا النوع من الموت هو بأن يميت غرائز الأنانية ويحطم حالة الوحشية والتمني ، فإذا حطم حالة الغرور والأنانية ، وانقذ نفسه من قبضة الحيوانية بحسن اختياره ، فهذا موت حسن حصل عليه بحسن اختياره ويقال لذلك موت إرادي . وفي هذا الحد يصل الإنسان إلى مستوى الملائكة . وهذه المسألة وردت في بعض الكتب الفقهية مثل الجواهر وغيره من الكتب الفقهية حيث ذكرها المرحوم السيد محمد كاظم ( ره ) في كتاب العروة ، وقال في أحكام الصيام المستحب في باب فضيلة الصوم في أواخر البحث ، في فضيلة الصوم يكفي ان الإنسان يصبح شبيه الملائكة .
انسجام لسان الأحاديث مع فهم المخاطبين :
تكلم الأئمة المعصومون عليهم السلام معنا بعدة طرق ، أحياناً يقولون لنا بان نصوم حتى نجوع لنعرف ألم جوع الفقراء . وهذا التعليل هو للأشخاص الضعفاء جداً ، لماذا نكون جاهلين بأحوالهم ، و نتذكرهم في شهر رمضان المبارك فقط ونتيجة الشعور بالجوع ؟
وفي مرحلة أعلى من هذه المرحلة قالوا لنا : أن نصوم حتى نتذكر الجوع والعطش يوم القيامة ، وهذا التعليل هو للمتوسطين . لماذا نحن غافلون من القيامة في أيام السنة ، ونتذكر المعاد بسبب الجوع والعطش .
مجموعة أخرى ، هم الذين يصومون حتى يصيروا في مستوى الملائكة ، أي ان الإنسان إذا صام فليس من أجل أن يتذكر الفقراء بسبب الجوع والعطش أو يتذكر الجوع والعطش يوم القيامة ، بل ليقول بانه أكبر من
أن يستهلك وقته في الطعام والشراب ، وهو أكبر من أن يعيش من أجل الأكل .
والمقصود من الأكل هو مطلق التصرفات الحيوانية وليس الأكل في مقابل الشرب أو النوم ، حين يقول تعالى :
( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ ) (1) .
فالمقصود ليس خصوص الأكل بل هو مطلق التصرف وهذا تعبير أدبي رائج .
فإذا غصب شخص بساط شخص آخر يقال : أكل مال الناس ، وإذا غصب دار شخص يقال : أكل مال الناس . المقصود من الأكل في هذا النوع من الحوار هو مطلق التصرفات المادية والطبيعية والحيوانية . ان قولهم لنا بأن نصوم ونصرف النظر عن الأكل والشرب حتى نصبح مثل الملائكة ، يعني أن نتجنب مطلق الأعمال الحيوانية ، وليس أن لا نأكل أو لا نشرب فقط ، لذا فالكذب يبطل الصوم ، ليس فقط الكذب على الله والنبي ، لأن هذه المسائل تشير إلى البطلان الفقهي ، بل هي هذه الأكاذيب المصطلحة حيث إذا كذب شخص فصومه صحيح يقيناً من الناحية الفقهية ولكن لأن هذا الشخص لم يصبح في مستوى الملائكة ، فليس له صوم ، مقبول رغم ان صومه صحيح في الفقه الأصغر ، أو إذا قام بذنب آخر فهو ليس صائماً ، لأنه لم يسر في مستوى الملائكة ، إذا اغتاب فهو ليس صائماً . ان القول بأن لا نأكل حتى نصبح ملائكة ، أي ان نترك مطلق التصرفات النباتية والحيوانية ، حتى نكون كالملائكة كما ان ورقة التوت إذا وقعت في معمل حرير تصبح حريراً ،
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 29 .