أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية النظام العائلي ودور الاُسرة في البناء الاجتماعي الإسلامي
 
 


المقدمة

البريد الإلكتروني طباعة
كتاب النظام العائلي ص 1 ـ ص 31


بحوث في علم الاجتماع الاسلامي
ونقد النظرية الاجتماعية الغربية

النظام العائلي

ودور ( الاسرة ) في البناء الإجتماعي الإسلامي

الدكتور زهير الاعرجي


(5)


بسم الله الرحمن الرحيم


( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ) البقرة :120.


(6)

(7)
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

لا شك ان كل فرد من الافراد اختبر لونا من الوان الحياة العائلية في حياته الاجتماعية . ولذلك ، فان كلامنا هذا حول المؤسسة العائلية في المجتمع الاسلامي موجه في واقع الامر لكل الافراد مهما كانت افكارهم ومعتقداتهم . والسؤال الذي يبرز هنا بشكل صارخ هو : هل ان المؤسسة العائلية ظاهرة تكوينية ام انها مختصة بلون معين من المجتمعات ، فتكون دراستنا المقارنة بين النظرية الاسلامية والنظرية الغربية مجرد عبث لاينفع الاجيال ؟
وقد جاء الجواب عن طريق المدرسة الاجتماعية الامريكية ، وبالخصوص عن طريق عالم الاجتماع الامريكي (جورج ميردوخ)(1) الذي درس العائلة ووظيفتها وتركيبتها الاساسية في اكثر من مائتين وخمسين مجتمعا من مجتمعات العالم ، وتوصل الى نتيجة مهمة وهي ان ظاهرة العائلة النووية الصغيرة انما هي ظاهرة تكوينية عالمية ، يختبرها كل مجتمع انساني مهما كان تركيبه العلمي او الديني او الثقافي . فالعوائل الانسانية جميعا تتحد في صفات مشتركة كالتعاون الاقتصادي ، والسكن المشترك ، وعملية الانجاب : الا ان الاختلاف يقع في طبيعة تركيب العائلة الكبيرة ، خصوصا


(8)


فيما يتعلق بتعدد الزوجات ، او الاستقلال الزوجي عن الابوين والاحفاد ، أو الغربة الاجتماعية عن الروابط الانسانية الطبيعية التي جلبها التصنيع الحديث .
ولو قرأنا تاريخ البشرية منذ البداية لرأينا ان السيطرة الاجتماعية على السلوك الانساني تنبثق في اغلب الاحيان من العائلة . فالمجتمع لايستطع ان يحيا دون وجود مؤسسة للسيطرة على السلوك الانساني . وهذه السيطرة هي التي ولٌدت العرف العقلائي الخاص بالسلوك الجنسي المتفق عليه اجتماعيا . ولولا الحقوق والواجبات التي وضعت على الافراد أو لهم ضمن المجموع ، لما تحقق وجود المجتمع والنظام الاجتماعي ، بل كان الافراد مجرد كائنات حية تعيش بانفراد دون نشاط اجتماعي ملحوظ .
وعلى الصعيد التاريخي ، فان للزواج وللعائلة دوراً حيوياً في السيطرة على السلوك الاجتماعي . فقد طورٌت المجتمعات الانسانية ـ عبر رسالة الدين والفلسفة الاجتماعية ـ العلاقات التفاعلية في الزواج ، ومسؤولية رعاية مصلحة القاصرين من الاطفال والعجزة ، وانتقال الملكية ، والحقوق المدنية ، والمنزلة الاجتماعية ، وانتقال العلوم المتراكمة من جيل لآخر .
الا ان تطور المجتمع عبر الاحقاب الزمنية المتعاقبة ، جعل السيطرة الاجتماعية المنبثقة عن العائلة وحدها بعيدة المنال ، وجعل الدولة والمؤسسة السياسية الحديثة تقوم بتبني دور السيطرة الاجتماعية : فكان من مباني هذا الدور الاجتماعي للدولة إن القوانين إنما جاءت لتلزم الافراد بالانصياعل للتشريعات الاجتماعية أو الدينية . والفرق بين القانون والعرف الاجتماعي


(9)


هو إن القانون أو التشريع يكتب بينما يبقى العرف الاجتماعي أمرا معنويا متغيرا مع تغير الاحداث والافراد . ولذلك ، فان القانون أو التشريع له خاصية الديمومة والاستمرار أكثر من العرف الاجتماعي .
ولاريب إن القوانين والتشريعات باجمعها تقدم للمجتمع ، نظريا على الاقل ، شكلاً عادلاً من أشكال السيطرة الاجتماعية لكل الافراد . وعندها يعرف الفرد حدود حقوقه المدنية ، ويتوقع الازامات التي فرضها المجتمع أو الدين عليه .
وفي الواقع ، فأن النظام القانوني أو التشريعي بالتضامن مع السيطرة الاجتماعية يقٌدم للعائلة نظاماً محكما يجهٌز الفرد ـ وهو يكدح في حياته اليومية ـ بقابلية فريدة على توقع صحيح ودقيق لسلوك الافراد . وعلى ضوء ذلك التوقع يتم تفاعله مع هؤلاء الافراد . الا إن القانون الذي يصنعه الافراد لانفسهم يختلف عن التشريع الذي يشرعه الخالق عز وجل ؛ لان قوة القانون تتناسب مع كفاءة فهم الافراد للمتطلبات الاجتماعية في زمن ومكان محدد ، الا إن التشريع الآلهي محكم باعتبار صدوره من جهة المولوية المطلقة أولاً ، وباعتبار أنه لم يحدد بزمان معين أو مكان محدد ثانياً . ومن المتسالم به عند العقلاء ان القانون او التشريع لايمكن ضمان نجاحه ما لم ينزل الى الساحة الاجتماعية مع نظام متكامل للعقوبات . وقد تناولنا موضوع العقوبات في كتاب ( الانحراف الاجتماعي واساليب العلاج في الاسلام ) .
إن الفرق ما بين التشريع الاسلامي الخاص بالعائلة وبين القانون الغربي الخاص بها إن القوانين المعاصرة التي وضعها الانسان ماهي الا


(10)


احكام مثالية لاتتطابق مع الواقع المتغير في اغلب الاحيان ، على عكس احكام الشريعة التي أخذت الطبيعة البشرية بقطبيها ووضعت القوانين التي تتناغم مع كل أمواج الطبيعة الانسانية . وأغلب القوانين المدنية والحقوقية الخاصة بالعائلة والمعمول بها اليوم في الغرب مستمدة من أفكار الثورة الفرنسية والامريكية والقانون العرفي الانكليزي ؛ وهي قوانين يصعب تطبيق عشرها على الوضع الاجتماعي المعاصر (1).
إن الابعاد القانونية الخاصة بالعائلة في النظرية الغربية تشمل تشريعات في قانون الزواج ، وحقوق الاطفال ، والارث . ففكرة الزواج تستند على مبدأ كونه عقداً من العقود . الا إنه يختلف عن العقود التجارية لاعتبارين ؛ الاول : هو أن العلاقة الزوجية لايمكن فسخها بنفس الطريقة التي يمكن بها فسخ العقد التجاري في الحالات الاختيارية . والثاني : إن المتطلبات القانونية للدخول في عقد الزواج تختلف عن المتطلبات اللازمة للدخول في العقود التجارية . ومن الطبيعي أن الزواج في القانون الغربي ينبغي أن يسد حاجتين ؛ الاولى : سد الحاجة المالية للعائلة الجديدة ؛ بمعنى أن الدولة غير مسؤولة عن مساعدة الزوجة والاطفال والقاصرين ، بل يتعين على العائلة سد حاجتها المالية بنفسها . والثانية : سد الحاجة الاجتماعية فيما يتعلق بانجاب الذرية ، وتحديد النشاط الجنسي ضمن حدود الزواج القانوني (2) .
____________
1 ـ ( هيلين كلارك ) . التشريع الاجتماعي . نيويورك : ابلتون ـ سنچري وكروفتس ، 1957 م .
2 ـ ( هاريت بيلبل ) و( ثيودورا زافين ) . « القوانين الخاصة بالزواج والعائلة » . مقالة علمية في كتاب ( دائرة معارف السلوك الجنسي ) ، تحرير : البرت اليس والبرت اباربانيل . نيويورك : كتب هاوثورن ، 1961 م .


(11)


ومن أهم متطلبات الزواج القانونية في النظام الرأسمالي هو البلوغ ، والعقل ، وعدم شرعية زواج المحارم ، وعدم شرعية الزواج بين الاعراق المختلفة كالعرق القوقازي والزنجي والمنغولي . فسن البلوغ القانوني للزواج هو ثماني عشرة سنة للذكر وست عشرة سنة للانثى بشرط موافقة الابوين . أما سن البلوغ القانوني للزواج بدون موافقة الابوين فهو واحد وعشرين سنة بالنسبة للذكر وثماني عشرة سنة بالنسبة للانثى(1) . ولكن ليس هناك دليل يثبت على إن موافقة أو عدم موافقة الابوين في النظرية الغربية تغير من الشروط الردعية التي تنظم عملية الزواج . أما شرط العقل ، فانه من الشروط المهمة في إتمام عملية العقد لان المضطرب عقلياً أو المجنون لايستطيع أن يقوم بمسؤولياته الاقتصادية والاجتماعية الخاصةبالزواج والعائلة . وبذلك فانه سيحمل الدولة مصاريف نفقات عائلته : ولذلك يعتبر زواج المجنون أو المضطرب عقلياً بعيداً عن الصفة القانونية والروح الاجتماعية . أما البعد عن الصفة القانونية فلأن العقد يجب أن يتم ما بين فردين لهما القابلية على الموافقة الصريحة أو الضمنية ، وهذا لايتم مع المجنون . وأما البعد عن الصفة الاجتماعية أو العملية فلأن المجنون ربما يسبب حرجاً شديداً لعائلته وللمجتمع الذي يعيش فيه .
ولايجوز العقد على المحارم في النظرية القانونية الغربية ، لان الكنيسة في القرون الماضية حرمت ذلك . ومن المسلٌم به ان هذا القانون مستمد من الشرائع السماوية ، الا ان القانون الحديث البعيد عن روح الدين
____________
1 ـ ( وليم كيفارت ) . « الابعاد القانونية والاجرائية للزواج والطلاق » . مقالة علمية في كتاب ( الزواج والعائلة ) تحرير : هارولد كريستنسن . شيكاغو : راند ميكانالي ، 1964 م .


(12)


لم يستطع تغيير ذلك . وبطبيعة الحال فان المحارم في القانون الغربي كانت قد قسمت الى نوعين : المحرم الناتجة عن طريق النسب ، والمحارم الناتجة عن طريق السبب . أما القانون العرفي الانكليزي المتعلق بالزواج فهو يشترط شرطين لتحقق الزواج ؛ أولهما : أن يكون الفردان صالحين للعقد ، من ناحية سن البلوغ ، والخلو من الموانع الزوجية ونحوها . وثانيهما : العيش معاً في سكن واحد والاعلان عن زواجهما للملأ والمجتمع المحيط بهما (1) .
والى هذا الحد فان القانون الغربي ينطبق تماما في الموارد السابقة مع الشريعة الاسلامية . وليس هناك أدنى شك من ان فلاسفة ومقنني اوروبا وامريكا قد اقتبسوا من احكام الشريعة الاسلامية كل هذه القوانين التي لايزيد عمرها على أربعة قرون على الاكثر ، بينما يبلغ عمر الشريعة الاسلامية أكثر من أربعة عشر قرناً .
ولكن أحد أهم القوانين التي تعارضه النظرية الاسلامية تماما والمعمول به حتى اليوم في الولايات المتحدة هو قانون ( حرمة تمازج الاجناس عن طريق التزاوج ) : بمعنى ان هذا القانون يحرَم على الفرد الابيض التزاوج من الاجناس الاخرى ، خصوصا الجنس الزنجي ، بدعوى ان التزاوج بين الاجناس المختلفة يساهم في اضعاف الجنس المسيطر على النظام الاجتماعي . ولحد العقد السادس من القرن العشرين كانت احدى وثلاثون ولاية امريكية في الجنوب والجنوب الغربي للولايات المتحدة تحرَم التزاوج بين الافراد البيض وبين أفراد الجنس الاصفر أو المنغولي ، واربع
____________
1 ـ ( وليم كيفارت ) . العائلة ، المجتمع ، والفرد . بوستن : هوتن ميفلن ، 1961 م .


(13)


ولايات في الجنوب الامريكي تحرَم الزواج بين الافراد البيض وبين الهنود الحمر ، وهم اصحاب البلاد الاصليين (1) . ولاشك ان مخالفة ذلك القانون تستدعي عقوبات قاسية ، فتعتبره الدولة زواجاً باطلاً ، والاطفال المتولدين عنه غير شرعيين ، وتلك العلاقة الجنسية بين الزوج وزوجته جنحة مخلة بالشرف .
الا ان هذه القوانين كلها عرضة للتغيير والتبديل . وهذا التبديل الذي يطال هذه القوانين يعكس قصور الانسان وفكره البشري على انشاء قوانين محكمة تصلح للتطبيق في كل الاحوال دون النظر الى الزمان أو المكان . الا ان الرسالة الدينية والاسلامية بالخصوص تحقق ما عجزت النظرية القانونية الغربية عن تحقيقه .
ان الدين في الدول النصرانية له تأثير كبير على شكل علاقة التغشي ما بين الرجل والمرأة . فالسلوك الجنسي يعتبر خطيئة وجرما ، الا ان الزواج يلغي هذا الالصاق: لان النصرانية تؤمن بان هدف التزاوج هو حفظ النسل الانساني من الانقراض وليس مجرد المتعة الجسدية . وقد نظَم مفهوم الدولة الحديثة عملية العلاقة الجسدية ما بين الزوج والزوجة ، واعتبر البغاء ـ ولو نظرياَ ـ جريمة يعاقب عليها . الا انفصال الدين عن السياسة في النظام الرأسمالي ، جعل هذه القوانين المتعلقة بالجرائم الاخلاقية تنحلَ تدريجيا بتغير الوضع الاجتماعي ، بحيث أصبحت المشكلة الاجتماعية التي يعاصرها الغرب الرأسمالي هي كيفية حفظ التصميم العائلي الذي يجرفه التغير الاجتماعي المعاصر . ولعل جوهر الخلاف بين النصرانية والنظرية الرأسمالية
____________
1 ـ ( ارفينك مانديل ) . قانون الزواج والطلاق . نيويورك : مطبوعات اوشينا ، 1957 م .


(14)


هو ان النصرانية تعتبر المؤسسة العائلية مؤسسة للانجاب والتناسل ، بينما تعتبر الدولة الرأسمالية العائلة مؤسسة اجتماعية للمشاركة الجنسية واشباع الشهوات . ولذلك فان عدم الانجاب لايعطي الزوج حقاً في الطلاق ، بموجب رأي النظرية الرأسمالية . الا ان عدم القدرة على المشاركة الجنسية كالعنن والعفل ونحوها يعطي الزوج أو الزوجة حق الطلاق .
وهناك مشكلة خطيرة تواجه العائلة الحديثة وهي مشكلة تحديد النسل . فتحديد النسل البشري يتم عبر طريقين ؛ الاول : استخدام وسائل منع الحمل المصنَعة . والثاني : الاجهاض . والفرق بين الطريقين ان الاول يمنع تخلق الجنين قبل انعقاد النطفة . والثاني يمنع تخلق الجنين بعد انعقادها . فالاجهاض ينهي الحمل قبل ان يمنح الجنين فرصة حقيقية للحياة . ولاشك ان الكنيسة الكاثوليكية ، واليهودية الارثودوكسية حرَمت ـ بتاتاً ـ استخدام كل وسائل تحديد النسل ، ميكانيكية كانت او كيميائية او فسلجية او إجهاضاً . الا ان الكنيسة البروتستانتية . واليهودية الاصلاحية ارجعتا قضية تحديد النسل الى الجانب العقلائي والدافع الذي يدفع الفرد للاقدام على ذلك العمل . فان كانت هناك مصلحة بهدف الحفاظ على حياة الام او تنظيم الاسرة فلا بأس بالتحديد ، برأي تلك المدرستين الدينيتين . اما الاسلام فقد جعل الحرمة مرتبطة بانعقاد النطفة ؛ فاذا انعقدت النطفة فلا يجوز الاجهاض او قتل الجنين .
ومشكلة اخرى خطيرة تواجه العائلة الغربية المعاصرة وهي انه فيما اذا كان احد الزوجين عقيما ، فهل يجوز له سلوك ذلك الطريق الذي يحل مشكلته الاجتماعية ؟ علماً ان هناك طريقين لحل هذه المشكلة ، وهما : اولا :


(15)


التبني ، وثانياً : التخصيب الخارجي .
فالتبني هو نسبة فرد من عائلة معينة الى عائلة اخرى بطريق قانوني وانتقاله للسكن مع تلك العائلة الجديدة بصورة دائمية . فتنتقل ـ عندئذ ـ كل الحقوق المالية والقانونية الى الفرد المتبنى . ولكن المشكلة تبرز عندما تطالب العائلة البيولوجية برجوع ابنها اليها من العائلة القانونية المتبنية لذلك الطفل . ولاشك ان التبني يسبب اضطراباً عاطفياً واجتماعياً للطفل المتبنى بسبب العلاقات العائلية والقانونية الجديدة التي استحدثت دون ادراك الصبي لما يجري ، خصوصا فيما يتعلق بمصلحته الشخصية .
اما التخصيب الخارجي فهو عملية طبية لوضع حيامن الزوج في رحم الزوجة ، او وضع حيامن رجل مجهول الهوية في رحم الزوجة وبموافقة زوجها . وسبب العقم في هذه الحالات هو ان حيمن الزوج لايستطيع الوصول الى بويضة الزوجة ليخصبها ، كما هو في الحالات الطبيعية . ولاشك ان التخصيب الخارجي الذي يقوم به الزوج لايتعارض اطلاقا مع الارتكاز العقلائي باعتبار ان الطب يقوم لايصال حيمن الزوج بطريق تقني متقدم لملاقاة بويضة الزوجة ، فيكون انعقاد النطفة في الرحم . ولكن المشكلة تكمن في التخصيب الخارجي من قبل رجل مجهول الهوية وهو ما يرفضه الدين والعرف العقلائي تماماً ؛ لان فيه اختلاطاً عظيماً للانساب وكآبة اعظم للزوج الذي حرم من امضاء بصماته الجينية على الجنين المخلَق من قبل رجل مجهول الهوية . وهذه المشاكل التي تواجهها الاسرة المعاصرة تستحق ـ على اقل تقدير ـ نقاشاً ورداً على الآراء الغربية الوافدة .
ان هذا الكتاب يعبَر عن محاولة ابتدائية لفهم دور الاسرة في البناء


(16)


الاجتماعي . وقد قسَمنا البحث في الكتاب الى قسمين ؛ الاول : ناقشنا فيه ارآء النظرية الاجتماعية الرأسمالية الغربية فيما يخص المؤسسة العائلية ونقدنا اهم مبانيها الفلسفية والاجتماعية . ثم عرضنا في القسم الثاني : النظرية الاجتماعية الاسلامية التي تناولت اهمية دور الاسرة في البناء الاجتماعي من خلال احكامها الشرعية الفريدة . وقد عقدنا في نهاية الكتاب مقارنة بين النظريتين لاكتشاف عناصر الكمال في النظرية الاجتماعية الالهية ، ومعرفة ضعف مقالة النظرية الاجتماعية الرأسمالية التي لاتعدو كونها مجرد فرضية صممها الانسان الغربي لتنظيم حياته الاجتماعية ، قد يكتب لها النجاح وقد يكتب لها الفشل .
ربي أنت المستعان ، ولك الحمد في الاولى والاخرة . وما توفقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب .

زهير الاعرجي
قم المشرفة / ذو الحجة 1413 هـ ـ


(17)
2

اطروحة الكتاب


تحتل النظرة الفلسفية لموقع (العائلة) في المجتمع الانساني دوراً مهماً في الفكرة الاجتماعية الغربية ، خصوصا على صعيدي النظرية التوفيقية بزعامة (هربت سبنسر) و ( اميلي ديركهايم ) ، ونظرية الصراع الاجتماعي بزعامة ( كارل ماركس ) و ( فريدريك انجلز) . فللمؤسسة العائلية ، حسب آراء ( سبنسر ) و ( ديركهايم ) دور حيوي خطير في حفظ المجتمع الانساني وسد الادوار الشاغرة التي يتركها الافراد حين الموت . الا إن نظرية الصراع الاجتماعي تصر ، حسب رأي ( فريدريك أنجلز ) ، على أن المؤسسة العائلية هي اول مؤسسة إضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية .
وتعارض النظرية الاجتماعية الرأسمالية فكرة تعدد الزوجات باعتبارها نقيضاً صارخاً لمفهوم ( المذهب الفردي ) الذي قامت على أساسه أركان النظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث . وهي تعارض أيضاً فكرة الاسر العشائرية الكبيرة التي تضم ـ بالاضافة الى الزوجين ـ الاجداد والاحفاد والاقارب ، باعتبارها عائقاً من عوائق زيادة الانتاج الاجتماعي .
وقد كان نقدنا للنظريتين التوفيقية والصراع الاجتماعي يتلخص في أن العنف الذي يقع بين أفراد العائلة الواحدة ، وخصوصاً في المجتمع الصناعي الحديث ، يناقض إدعاءات النظرية التوفيقية بأن المؤسسة العائلية في


(18)


النظام الرأسمالي تشبع جميع الحاجات العاطفية للافراد وتكون مصدراً من مصادر الاستقرار النفسي . وخلصنا الى نتيجة مفادها ان المجتمع الرأسمالي الصناعي لايوفر ـ في اي حال من الاحوال ـ قاعدة عائلية تمنح الاستقرار النفسي والحاجة العاطفية للافراد . وكان اعتراضنا على نظرية الصراع الاجتماعي منبثقاً من فكرة إن مجرد ربط الاضطهاد الاسري بالاضطهاد الاجتماعي ومظالم النظام الرأسمالي لايتعدى مجرد عرض للمشكلة الاجتماعية دون تقديم حل بديل يعالج ذلك الاضطهاد المزعوم .
ولاشك ان اهم المشاكل التي أفرزتها الحضارة الغربية المعاصرة هو تغير ولاء الافراد تجاه بعضهم الآخر . فاصبح الفرد الرأسمالي يحصر جلَ اهتماماته العملية على تحقيق رغباته الشخصية دون الاكتراث لمسؤوليته الاجتماعية تجاه المؤسسة العائلية . وغدا الولاء الاجتماعي يتحول تدريجيا من العشيرة والاقارب الى الدولة والنظام السياسي ؛ لان الدولة أصبحت تقوم بتقديم أغلب الخدمات التي كانت تقدمها العشيرة للفرد كالخدمات التعليمية والطبية واعانة العجزة ورعاية الاطفال . الا ان النظرية الاجتماعية الرأسمالية اصيبت بخيبة امل شديدة في العقود الثلاثة الماضية ؛ لان هذا التحول في الولاء الاجتماعي انشأ مشاكل جديدة فيما يتعلق باستقرار القاعدة الاقتصادية والعاطفية للعائلة الصغيرة ، وخصوصا على أصعدة الطلاق والاجهاض والاعتداء الجسدي . ولاريب ان المشاكل العائلية الخطيرة التي يواجهها المجتمع الصناعي الرأسمالي الحديث ، يجعلنا نتوجه بكل ثقل نحو الرسالة الدينية لنستلهم منها افكارنا فيما يتعلق بدور واطار عمل المؤسسة العائلية في النظام الاجتماعي .
فالاسلام ينظر الى المؤسسة العائلية باعتبارها نقطة أستقرار لعالم متحرك ، تنتقل من خلالها ممتلكات الجيل السابق الى الجيل اللاحق عن طريق الارث والوصية الشرعية ، ومؤسسة اجتماعية لتعويض الخسائر البشرية الحاصلة نتيجة موت الافراد ، ومحطة فحص وتثبيت انساب الافراد عن طريق الزواج والاقرار بالنسب ، ومركز حماية الافراد فيما يتعلق بالحب والحنان والدفء والمطعم والملجأ ، ومكاناً لتهذيب السلوك الجنسي ، ومسرحاً لتعلم


(19)


المعارف قبل الخروج للساحة الاجتماعية ، وموضعاً عظيماً لتعلم وممارسة النشاطات الروحية والدينية . وقد قدٌم الاسلام في نظريته الفقهية الاجتماعية عرضاً مفصلاً لحقوق الزوجة المالية والمدنية ، وحقوق الابوين والاجداد والاحفاد ، وحق الحاق المولود على اساس قاعدة (امكان الالحاق) التي تسالم عليها الفقهاء ، وحقوق الرضاعة والحضانة ، واحكام الصبي ، والوصية الشرعية ، والارث . والاصل في النظرية الاسلامية ، ان يكون للعائلة ولي يدير شؤونها المالية والعاطفية والتربوية ، او وصي يدير شؤونها المالية ويرعى مصلحة افرادها . وبكلمة ، فان العائلة الاسلامية تساهم في خلق الفرد الاجتماعي المؤمن بالنظرية الاخلاقية الدينية ، الصالح للعمل والانتاج ، المجدّ في سبيل بناء النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع الاسلامي . وبذلك ، فان النظرية الاسلامية تطرح للعالم المعاصر قاعدة عائلية تمنح الافراد كل مواطن الاستقرار النفسي والحاجات العاطفية التي حرمتهم منها التطبيقات الرأسمالية الغربية الحديثة .


(20)




(21)

القسم الاول
النظام العائلي في النظرية الرأسمالية


العائلة في النظرية التوفيقية * نقد النظرية التوفيقية * العائلة في نظرية الصراع الاجتماعي * نقد نظرية الصراع * الشكل العائلي الرأسمالي * معنى التغير في المؤسسة العائلية الرأسمالية * العائلة الرأسمالية الامريكية * الزواج والطلاق في المجتمع الرأسمالي * مشكلة الاسقاط المتعمد ( الاجهاض ) * هفوات النظام العائلي الرأسمالي .


( 22)



( 23)

العائلة في النظرية التوفيقية

تجزم النظرية التوفيقية بان الحياة الانسانية حياة حيوانية ، وان البشر ليسوا حيوانات من الناحية البيولوجية فحسب ، بل انهم حيوانات اجتماعية ايضاً (1) ؛ ولذلك ، فلابد للمؤسسة العائلية من القيام بدور فعال في حفظ المجتمع الانساني ؛ لان اي محاولة لفهم الدور الانساني للمؤسسة العائلية يجب ان يأخذ بعين الاعتبار الوظائف الاجتماعية التي تقوم بها العائلة لخدمة النظام الاجتماعي على صعيد تنظيم الحياة الخاصة بين الرجل والمرأة ، ورفد المجتمع بالافراد المنتجين ، واحياء الحياة الاجتماعية ، وحماية الافراد المنتمين للعائلة الواحدة ورعايتهم من الناحية العاطفية والاقتصادية .
فجميع المجتمعات الانسانية ـ حسب النظرية التوفيقية ـ لا تسمح للافراد بانشاء علاقات خاصة بين الرجال والنساء ، دون ضوابط عرفية متفق عليها . بل القاعدة ، ان المجتمع الانساني لا ينظر للسلوك الجنسي باعتباره مسألة خاصة بالفرد ، وانما يسلط عيناً فاحصة على هذه الممارسات الغريزية بين الجنسين ويرصدها رصداً تاماً . فالنظام الاجتماعي اذن ، يقدم اطاراً اسرياً ينظم بموجبه العلاقة الجنسية بين الذكر والانثى ، ويحدد من خلاله نوعية الافراد المتزاوجين من حيث العمر والدخل والكفاءة ، ويضع الشروط المناسبة لذلك .
____________
1 ـ ( روبرت ميرتون ) : النظرية الاجتماعية والتركيب الاجتماعي . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1968 م .
( 24)

وترى النظرية التوفيقية بان المجتمع لا يستطيع ان يقوم بمهامه الحيوية ، ما لم ينشئ نظاماً خاصاً لتعويض الخسائر الاجتماعية التي تحصل نتيجة موت الافراد ، ولولا النظام العائلي لانقرضت البشرية والحياة الانسانية على وجه هذا الكوكب . فالعائلة ترفد المجتمع بالافراد المنتجين جيلاً بعد جيل ، حيث تقدم هذه العائلة المستقرة ، المتكونة من أب وأم ، للنظام الاجتماعي أفضل الخدمات الاجتماعية وأهمها ، وهي سد الادوار الشاغرة التي يتركها الافراد حين مغادرتهم الحياة الدنيا خلال الموت .
وعلى هذا الاساس تقوم العائلة بحماية أفرادها ورعايتهم بتقديم شتى الاعمال الخدمية لهم كالملجأ والمطعم ، والدفء والحنان ، والعناية الشخصية والعاطفية . فهي توفر لهم الاجواء التي تسد حاجاتهم الاساسية في الخلود الى الراحة والاطمئنان للمستقبل ، وشحن طاقاتهم العملية ، فيكونوا بعدئذ ، اهلا للعمل والانتاج . ولاشك ان النظام العائلي مبني على اساس ان الفرد المنتج في العائلة الواحدة هو المسؤول عن الآخرين ، الذين لا يستطيعون القيام بعمل منتج بسبب السن أو المرض أو العجز الطبيعي ، ضمن إطار نفس العائلة .
وبطبيعة الحال فان العائلة ، حسب رأي النظرية التوفيقية ، تساهم في تحقيق طموح الانسان في التفوق والنجاح عن طريق الاختلاط الاجتماعي . فالانسان كائن أجتماعي بالطبع ، ومنذ الولادة يسعى في أجواء الحب والحنان من قبل الابوين الى الانغمار بالانشاطات الاجتماعية ، فيتعلم اللغة ، والقيم ، والدين ، والعادات الاجتماعية التي يقرها النظام الاجتماعي . ومع ان المؤسسة الدينية والتعليمية تساهم في إنشاء الفرد ، الا ان المؤسسة العائلية


( 25)

هي القاعدة التي ينطلق منها الانسان في بناء حياته الاجتماعية والاقتصادية .
وعلى ضوء ذلك ، تقدم العائلة لافرادها مقعداً اجتماعياً متميزاً ، يتناسب اساساً مع منزلة العائلة الاجتماعي وثروتها . فالافراد جميعاً ، ينسبون الى عوائلهم من الناحية العرقية ، والدينية ، والمذهبية ، والاقتصادية ، والطبقية الاجتماعية : بمعنى ان هوية الفرد المذهبية والعرقية تحددها العائلة التي ينتمي اليها اكثر مما يحددها الفرد لنفسه . وبالتالي فان لهذه الهوية تأثيراً حاسماً على احتلال الافراد لادوارهم الاجتماعية لاحقاً .
وأهم حاجة تشبعها المؤسسة العائلية في الفرد هي الحاجة العاطفية . فالحب والحنان والعطف من مصادر الاستقرار النفسي ، واشباع هذه الحاجات العاطفية لايتم الا ضمن جدران العائلة التي تعتبرها النظرية التوفيقية جنة من الجنان الطبيعية في هذا العالم المتوحش (1) .
____________
1 ـ ( كريستوفر لاش ) . جنة في عالم لا قلب له : العائلة في حصار . نيويورك : الكتب الاساسية ، 1977 م.
( 26)

نقد النظرية التوفيقية

وقد ركزت النظرية التوفيقية ، في معالجتها لدور المؤسسة العائلية في حفظ المجتمع الانساني ، على الوظائف الاجتماعية التي تقوم بها تلك المؤسسة ، دون ان تكترث لدراسة دور الرجل والمرأة في إدارة النظام العائلي ، وتحليل علاقتهما الزوجية ضمن حدود العرف الاجتماعي . فلم تستطع النظرية ان تقدم تصوراً عاماً حول واجبات الزوجين وحقوقهما ، ومسؤوليتهما الشرعية أو القانونية تجاه بعضهما البعض أولاً ، وتجاه اليافعين في نظامهما العائلي ثانياً . ولم تتطرق النظرية أيضاً ، الى حقوق الافراد المنتسبين الى العائلة الواحدة في الارث والنفقة والتملك . ولم تتناول شكل العلاقة الزوجية ، ودورالطاعة أو النفقة في تحديد الغريزية بين الرجل والمرأة .
ولو كانت النظرية صادقة ودقيقة في تحليلها ، فلماذا اذن ، تجاهلت تحليل ظاهرة العنف في العائلة الرأسمالية ، مقابل الحب والحنان في العائلة المثالية التي تزعم بوجودها في كل المجتمعات الانسانية وبضمنها المجتمع الرأسمالي ؟ مع علم النظرية مسبقاً بأن الجرائم الواقعة بين أفراد العائلة الواحدة ، خصوصاً بين الزوج والزوجة ، تشكل أكثر من عشر اجمالي الجرائم الجنائية السنوية في الولايات المتحدة مثلاً (1) . فاذا كانت العائلة مصدراً للحب والحنان ، فكيف تفسر النظرية التوفيقية حوادث الاعتداء
____________
1 ـ ( روبرت ) الانفصال الزوجي . نيويورك : الكتب الاساسية . 1975 م .
(27)

الجسدية التي تقع بين الزوجين في النظام العائلي الرأسمالي ، والتي قدرت في العقد الاخير من القرن العشرين بأكثر من سبعة ملايين حادث سنوياً تقع ضمن ستين مليون عائلة (1) ؟
ومع ان النظرية التوفيقية تقدم تحليلاً جدياً لدور العائلة في النظام الاجتماعي الا انها تفشل في تكوين صورة شاملة عن النظام القانوني الذي ينظم شؤون العائلة الداخلية ويضعها أمام مسؤوليتها الاجتماعية الكبيرة .
____________
1 ـ ( روبرت أمري ) وآخرون . الطلاق ، الاطفال ، والسياسة الاجتماعية . فصل علمي في كتاب ( السياسة الاجتماعية والابحاث الخاصة بنمو الطفل ) تحرير : هارولد ستيفنسن والبرتا سيغل . شيكاغو : مطبعة شيكاغو ، 1984 م .
( 28)

العائلة في نظرية الصراع الاجتماعي

ولا تنكر نظرية الصراع الاجتماعي أهمية دور المؤسسة العائلية في انجاز الوظائف المناطة بها اجتماعياً ، الا إن النظرية تؤكد على أن المؤسسة العائلية هي أول مؤسسة إضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية . حيث تمثل سيطرة الرجل على المرأة في النظام العائلي ، أخطر الامثلة التي تقدمها نظرية الصراع وتدينها من الاساس . والى ذلك يشير ( انجلز) في كتابه « أصل العائلة ، الملكية الخاصة ، والجولة » قائلاً :
« إن الزواج يمثل نموذجاً راقياً للعداوات التي ظهرت في التاريخ . حيث إن نمو وإزدهار مجموعة معينة يتم على حساب مأساة وإضطهاد مجموعة اخرى ... ان العلاقة بين الزوج والزوجة هي مثال نموذجي لما يحصل لاحقاً من اضطهاد بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العمالية » (1)
____________
1 ـ ( فريدريك انجلز ) ص : 30 ، طبع سنة 1884 م .
( 29)

نقد نظرية الصراع

ولاشك ان نظرية الصراع الاجتماعي تنطلق في تحليلها لوضع المرأة في المؤسسة العائلية من معاينة المجتمع الاوروبي الغربي في عصر الثورة الصناعية ونشوء النظرية الرأسمالية ، وامتدادات ذلك الى المجتمع الامريكي الشمالي ؛ وهو تحليل يعكس صدق النظرية في تشخيصها جزءاً مهماً من المشكلة الاجتماعية الاسرية في النظام الرأسمالي . فلحد الستينيات من القرن العشرين لم تكن المرأة في النظام الامريكي والاوروبي قادرة من الناحية القانونية على المشاركة في إنشاء أي عقد من العقود التجارية دون إذن زوجها . وفي النصف من القرن نفسه وصلت حالة العنف بين الزوج والزوجة في المجتمع الامريكي الى درجة ، بحيث وضعت المؤسسة العائلية على قمة المؤسسات الاجتماعية الامريكية التي تمارس العنف والاجرام (1) . فجرائم القتل بين الازواج تمثل ـ كما ذكرنا سابقاً ـ عشر اجمالي الجرائم الجنائية السنوية . وفي كل عام يحاول أكثر من سبعة ملايين زوج أو زوجة إنزال الاذى بالآخر ، قتلا كان أو ضرباً مبرحاً أو جرحاً بليغا . ويحاول اكثر من مليوني طفل سنوياً الاعتداء على امثالهم بسلاح ناري أو نحوه بنية وتصميم مسبق للقتل . وفي كلّ عام يهرب اكثر من مليوني مراهق من بيوتهم بسبب الاعتداءات الخلقية عليهم من قبل آبائهم . واكثر المشاكل الزوجية انتشارا في المجتمع الرأسمالي الامريكي اليوم هو الاعتداء الجسدي
____________
1 ـ ( ميشيل كوردن ) . العائلة الامريكية من زاوية اجتماعية ـ تاريخية . نيويورك: سانت مارتن ، 1983 م .
(30)

بين الازواج مع النية المسبقة بانزال الاذى بالآخر .

وهذا الوضع الاسري في حضارة تدعي لنفسها الكمال ، قد رسخ افكار نظرية الصراع الاجتماعي في اذهان المحدثين من معتنقي هذه النظرية وجعلهم اكثر تحمسا في الدفاع عن مقولة ( فريدريك انجلز ) حول الاضطهاد الاسري الذي يؤدي لاحقاً الى الاضطهاد الاجتماعي .
ولكن تفسير نظرية الصراع وربطها الاضطهاد الاسري بالاضطهاد الاجتماعي هو عرض للمشكلة الاجتماعية دون تقديم حل بديل يعالج مشكلة الاضطهاد المزعوم . فاذا كان الصراع الطبقي مستمراً في جميع اطوار تطورالمجتمع الانساني ، كما تزعم نظرية الصراع ، فكيف تستطيع تلك النظرية تصوير شكل العلاقة الزوجية في كل مرحلة من مراحل الصراع الاجتماعي ؟ فهل ان المرحلة التاريخية السابقة التي اباحت للزوج الرأسمالي اضطهاد زوجته البروليتارية ، تبيح للزوجة الرأسمالية اضطهاد زوجها البروليتاري ؟ واذا كانت الثقافة الماركسية في مرحلة الصراع الاجتماعي تجيز للبروليتاريا سحق الطبقة الرأسمالية فهل يجوز سحق العائلة القائمة على اساس الفهم الرأسمالي ؟ بل اين حدود التعامل ، حسب نظرية الصراع ، في العلاقات الخاصة بين الزوج والزوجة ؟ ومن الذي يحدد القانون الذي يسمح للزوجين بالاشتراك في الحياة الزوجية السعيدة دون ظلم واضطهاد ؟
ان نظرية الصراع الاجتماعي تقصر عن تحديد دور الزوجين في التعامل الانساني ، وتعجزعن تشخيص مسؤوليتهما المتبادلة في اشباع حاجاتهما الغريزية ضمن الحدود الطبيعية ، وتعجز ايضا عن تحديد مسؤولية الابوين تجاه القاصرين من الابناء والبنات والعاجزين من بقية


(31)

افراد الاسرة كالاجداد والجدات . ولم تتطرق النظرية ايضا الى الولاية الشرعية او القانونية لاحد الابوين ، ولا الى دور الوصي في حالة وفاة كلا الابوين او احدهما.
وبالجملة فان رأي نظرية الصراع المتعلق بالفكرة القائلة بأن الزواج يمثل نموذجاً للعداوات التي ظهرت في التاريخ لا يعكس الواقع الحقيقي للنظام الاسري الانساني ، بل يمثل جزءاً من واقع النظام الاسري الاوروبي في القرون الماضية وامتداده الى القرن الحالي . بل ان نظرية الصراع لم تقدم حلاً للمشكلة الاسرية ؛ انما كان من اهداف روادها بالاصل ، ربط المشكلة الاسرية بمظالم النظام الرأسمالي ضد الطبقة العاملة .