سبب هجرته (ع) للعراق

البريد الإلكتروني طباعة

سبب هجرة الامام الحسين (عليه السلام) للعراق

رغم أن الدافع الظاهري لهجرته(ع) إلى العراق كانت رسائل أهل الكوفة ورسلهم حتى أن الإمام احتجّ بها عندما واجه الحرّ بن يزيد الرّياحي وعمر بن سعد، عندما سألاه عن سرّ مجيئه إلى العراق فقال: «كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم». إلا أن السرّ الحقيقيّ لهجرته(ع) رغم إدراكه الواضح لما سيترتب عليها من نتائج خطرة ستودي بحياته الشريفة، وهو ما وطّن نفسه(ع) عليه، يمكن إدراكه من خلال الاستقراء الشامل لمسيرة حياته وكيفيّة تعامله مع مجريات الأحداث؛ إذ أن الأمر الذي لا مناص من الذهاب إليه هو إدراك الإمام (ع) ما يشكّله الإذعان والتسليم لتولّي يزيد بن معاوية خلافة المسلمين، رغم ما عرف عنه من تهتّك ومجون وانحراف واضح عن أبسط المعايير الإسلامية، وفي هذا مؤشّر خطر عن عظم الانحراف الذي أصاب مفهوم الخلافة الإسلاميّة، وابتعادها الرهيب عن مضمونها الشرعي. ومن هنا فكان لابدّ من وقفة شجاعة تعيد للأمّة جانباً من وعيها المضاع وإرادتها المسلوبة، حيث أن الإمام الحسين(ع) قد أعلنها صراحة لمّا طالبه مروان بن الحكم بالبيعة ليزيد، فقال: «فعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد» كما عرفت سابقاً. نعم، إن رسول الله(ص) قال: «صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي وإذا فسدا فسدت أمّتي»، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ فقال: «الفقهاء والأمراء»، فإذا كان صلاح الأمّة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها، فقيادة مثل يزيد لا تزيد الأمر إلا عبثاً وفساداً. إن القيادة الإسلامية تتحقق بالتنصيص أوبالشورى، ويزيد لم يملك السلطة لا بتنصيص من الله سبحانه ولا بشورىً من الأمّة، وهذا ما أدركه المسلمون آنذاك حيث كتبوا إلى الحسين(ع) رسالة جاء فيها: أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزها أمرها وغصبها فيئها، وتأمّرعليها بغير رضى منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها. ولم يكن الولد (يزيد) فريداً في غصب حق الأمّة، بل سبقه والده معاوية إلى ما هو معروف وليس بخاف على أحد، وإلى تلك الحقيقة الممجوجة يشيرالإمام عليّ(ع) في كتاب له إلى معاوية، حيث يقول: «فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأمور، فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل واقتحامك غرور المَيْن والأكاذيب، وبانتحالك ما قد علا عنك،وابتزازك لما قد اختزن دونك فرارا من الحقّ وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ممّا قد وعاه سمعك، وملىء به صدرك، فماذا بعد الحقّ إلا الضلال المبين.» هذا ونظائره المذكورة في التاريخ دفع الحسين إلى الثورة، وتقديم نفسه وأهل بيته قرابين طاهرة من أجل نصرة هذا الدين العظيم، مع علمه بأنه ـ وفقاً لما لديه من الإمكانات المادية ـ لن يستطيع أن يواجه دولة كبيرة تمتلك القدرات المادية الضخمة التي تمكنها من القضاء على أي ثورة فتية، نعم، إن الإمام الحسين(ع) كان يدرك قطعاً هذه الحقيقة، إلا أنه أراد أن يسقي بدمائه الطاهرة المقدسة شجرة الإسلام الوارفة التي يريد الأمويّون اقتلاعها من جذورها. كما أن الإمام(ع) أراد أن يكسر حاجزالخوف الذي أصاب الأمّة فجعلها حائرة متردّدة أمام طغيان الجبابرة وحكّام الجور، وأن تصبح ثورته مدرسة تتعلّم منها الأجيال معنى البطولة والتضحية من أجل المبادئ والعقائد، وكان كل ذلك بعد استشهاد الإمام(ع)، والتاريخ خير شاهد على ذلك. كان المعروف منذ ولادة الإمام الحسين(ع) أنه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء، وعرف المسلمون ذلك في عصر النبي(ص) ووصيّه، لذا كان الناس يترقّبون حدوث تلك الفاجعة، كما أن هناك الكثير من القرائن التي تدلّ بوضوح على حتميّة استشهاده(ع)، ومن ذلك: 1 ـ روى غير واحد من المحدّثين عن أنس بن الحارث الذي استشهد في كربلاء أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «إنّ ابني هذا يُقتل بأرض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره»، فخرج أنس بن الحارث فقتل بها مع الحسين(ع). 2 ـ إن أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متفّقين على أن الخروج إلى العراق يشكّل خطراً كبيراً على حياة الإمام(ع) وأهل بيته، ولأجل ذلك أخلصوا له النصيحة، وأصرّوا عليه بعدم الخروج، ويتمثّل ذلك في كلام أخيه محمّد بن الحنفية، وابن عمه ابن عباس، ونساء بني عبد المطلب، ومع ذلك اعتذر لهم الإمام وأفصح عن عزمه على الخروج. 3 ـ لما بلغ عبدالله بن عمر ما عزم عليه الحسين(ع) دخل عليه فلامه في المسير، ولمّا رآه مصرّاً عليه؛ قبّل ما بين عينيه وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل. 4 ـ لمّا خرج الحسين(ع) من مكّة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له: إلى أين يا ابن رسول الله (ص)؟ ما أعجلك عن الموسم؟ قال: «لو لم أعجل لأخذت»، ثم قال له: «أخبرني عن الناس خلفك»، فقال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وأسيافهم عليك. 5 ـ لمّا أتى إلى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة وعبدالله بن يقطر، قال لأصحابه: «لقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ، ليس معه ذمام». فتفرّق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه، ومع ذلك فقد واصل (ع) مسيره نحو الكوفة، ولمّا مرّ ببطن العقبة لقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمر بن لوذان، فسأل الإمام: أين تريد؟ فقال له الحسين(ع): «الكوفة»، فقال الشيخ: أنشدك الله لمّا انصرفت، فوالله ما تقدم إلا على الأسنّة وحدّ السيوف، فقال له الحسين: «ليس يخفى عليّ الرأي، وإن الله تعالى لا يغلب على أمره». وفي نفس النص دلالة على أن الإمام كان يدرك ما كان يتخوّفه غيره، وأن مصيره لو سار إلى الكوفة هو القتل، ومع ذلك أكمل السير، طلباً للشهادة من أجل نصرة الدين وردّ كيد أعدائه، وحتى لا تبقى لأحد حجّة يتذرّع بها لتبرير تخاذله وضعفه. و قد كان لشهادة الامام الحسين(ع) أثر كبير في إيقاظ شعور الأمّة وتشجيعها على الثورة ضد الحكومة الأمويّة التي أصبحت رمزاً للفساد والانحراف عن الدين، ولأجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته(ع) من قبل المسلمين في العراق والحجاز، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقّق هدفها في وقتها ولكن كان لها الدور الأساسي في سقوط الحكومة الأمويّة بعد زمان. ولقد أجاد من قال: لولا نهضة الحسين(ع) وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ يوم الطفّ لما قام للإسلام عمود، ولا اخضرّ له عود، ولأماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أول عهده في لحده، فالمسلمون جميعاً بل الإسلام من ساعة ثورته(ع) إلى قيام الساعة رهين شكر للحسين(ع) وأصحابه رضي الله عنهم. بلى، فلا مغالاة في قول من قال: إن الإسلام محمّدي الوجود حسيني البقاء والخلود.