أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية أسرار الطفولة من الرحم إلى النور
 
 


من الرحم إلى النور

البريد الإلكتروني طباعة
أسرار الطفولة

من الرحم الى النور

 

     الكتّيب الذي بين يديك ينقلك إلى عالم واسع ، بالرغم من حجمه الصغير ، هو عالم قلب طفلك وعقله .
     هدف مسيرتنا داخل هذا العالم هو اكتشاف كنوزه وطاقاته الرائعة بغية مساعدتك على إنماء وتطوير ثرواته النفسية والذهنية .
     ستكتشفين أن عاطفة الأم ووعيها لا بديل لهما بالنسبة إلى نمو الطفل وبناء الشخصية الإنسانية التي ستلازمه وتتحكم بمصيره طوال حياته .
     أنت متشوّقة إلى الانطلاق في رحلة الاكتشافات ونحن مثلك ، فلنبدأ باللحظات الحاسمة ، لحظات انتقاله من حال الجنين إلى حال الوليد .
     عاش الجنين في الدفء ، في حرارة مستقرة ، بعيداً عن أي ضجيج وأي ضوء . كان يحيا في الماء حيث الجاذبية معدومة ، تماماً مثل ملاّح كوني . كان في مأمن من الصدمات . يتغذى دون أن يبذل أي مجهود أو يقوم بأدنى حركة . كان يتلقّى ويتناول كل شيء من أمّه . وها هو يشعر ذات يوم بأنه يُدفع إلى الأمام ، يجرّ ويجبر على شق طريق له عبر ممر عظمي ضيق . ويجد صعوبة في تمرير رأسه فيرهق نفسه خلال ساعات كي يستطيع الخروج . هكذا يجد نفسه مدفوعاً بقوة توازي
العشرين كيلو غراماً ، ومرمياً في عالم بارد ( 20 درجة مئوية عوضاً عن 37 ) . إضطرّ أن يتنفس بلحظة واحدة : يندفع الهواء إلى رئتيه الحديثتي العهد ، فاتحاً بعنف ألف حويصلة رئوية كما تتفتّح المظلة . يصرخ الطفل من الألم . بعدها يفحص بدقة ، يقاس وزنه ، أو يرجّح باليد ، يغسل ، يكسى ، قبل أن يخلد أخيراً إلى النوم ، مرهقاً من شدة التعب .
     يقظته ، لحسن الحظ ، تجلب له فرحاً عظيماً . سوف تأخذينه بين ذراعيك وتطعمينه . معاً ستجدان التوازن . إنه فرح بك وأنت سعيدة به . على مدى الحياة سيكون بين طفلك وبينك نوع من التفاهم الضمني . لكن لا نستبقنّ الأمور .
     في هذه اللحظة أنت لا تعلمين كيف تحتضنين طفلك ولا كيف تمسكينه . تتساءلين عمّا إذا كان حقاً سريع العطب . تريدين أن تعلمي ماذا يرى ، ماذا يسمع وما هي مشاعره . تابعي القراءة وسوف نراقبه معاً .
     أولاً نراقبه أثناء نومه . في الأسابيع الأولى يقسّم الوليد حياته بين الغذاء والنوم . لكن نومه مميّز جداً . ترينه منطوياً على ذاته مثلما كان في أحشائك . يهدأ للحظة ثم يقطّب وجهه . يفتح عيناً ثم يفتح الثانية . يحرّك شفتيه ، يعطس . تارة يتنفس بسرعة ، وطوراً

 


( 5 )

 

 


( 6 )

 

ببطء وتارة أخرى بخفة ، بحيث نظن أنه لا يتنفس أبداً . يقال إنه يجرّب تنفّسه بإيقاعات مختلفة محاولاً إيجاد الطريقة الأصحّ .

     بعد لحظات من الهدوء النسبي ، يرتجف فجأة . يبدأ بالصراخ ، تنتفض ذراعاه ورجلاه بحركات فوضوية ، غير متناسقة ، يبدو كأنه يتألم . لكن ، إذا قرصنا ذراعه يتبيّن لنا أنه لا يشعر بشيء . نقول إنه اضطراب بسبب حلم مزعج . ثم يعود إلى نوم عجيب كهرة صغيرة . يتحرّك ، لا ينام بعمق وبالوقت نفسه لا يصحو بالفعل ، ويبقى على هذه الحال حتى يبدأ بالبكاء محرّكاً شفتيه بيأس . بكاؤه هذا لن يتوقّف إلاّ عندما يرضع .
     بعد حين يحدث تغيير شامل . الطفل الصغير الذي بدا لنا منذ برهة غير واع ، وغير قادر على القيام بحركة مفيدة ، يبدو الآن حاضراً ، مشغولاً ومتنبها ؛ عند اقترابه من ثدي أمه أو من المصاصة يرتجف بحماسة . وما إن يصير الثدي أو المصاصة في فمه حتى يصبح قادراً على الامتصاص والبلع والتنفس بمهارة مدهشة . هذه العمليات الثلاثة تتعب البالغ في حال قام بها بالوقت نفسه ، ولمدة عشر دقائق أو خمس عشرة . أمّا المخلوق الصغير الذي كان يبدو ضعيفاً ، فيرضع بنشاط ، يتنفس ويتلاشى من التعب . يتوقّف بعض الوقت للاستراحة ، وإذا أرادت أمه سحب ثديها أو الرّضاعة حيث وضع طفلها يده ، فإنه سيبكي إلى أن يسترجع مورد غذائه ، يشرب من جديد حتى يستهلك جميع قواه ، يغمض عينيه مطمئناً ، يغفو وعلى شفتيه ابتسامة الرضا والامتنان .
     كيف تعلّمنا أن ننظر إلى المولود الجديد ؟
     منذ اللحظات الأولى لوجوده ، طفلك سيدتي ليس مخلوقاً عديم الطلبات بل هو مزوّد بحيوية كبيرة . رأيناه حتى الآن يكمل بنجاح تجربته الأولى : الرضاعة . ويستطيع أيضاً التمييز بين الظل والضوء ؛ إن ومضة من
النور تجعله يحرّك جفونه ؛ إنه يشعر بالارتجاجات ويسمع بعض الأصوات . إذا أسمعنا المولود الجديد ، عندما يبكي ، صوتاً مسجّلاً لدقات قلب أمه سيكفّ عن البكاء على الفور .
     المولود الجديد حسّاس أيضاً حيال المذاق . تحركاته ليست بالطبع سوى ردات فعل ، ولكنّها جميعها تدلّ على أن طفلك طبيعي ، حاضر أو غير نائم ، كما تدلّ على أنه متيقّظ ونظامي .
     عندما تضعين طفلك في السرير بعد إرضاعه ، قد تشعرين مثل كل الأمهات ، بصغر حجمه وبضعفه . إطمئني فطفلك لن يتكسّر . جسده متين ومقاوم . لكن الجزء الأكثر عطباً فيه هو جهازه العصبي ، هذا الأخير لا يكتمل إلاّ بعد بلوغ طفلك السنتين . الغيبوبة التي تحصل لطفلك بين الحين والآخر هي البرهان عن ذلك . هو ينتفض أو يرتجف عند اقفال الباب بضربة قوية ، يبرد عندما يكون الطقس بارداً ، وترتفع حرارته في أيام الحر .
     المهم أن تحافظي على نظافة طفلك وألاّ ترفعيه من سريره سوى عند إرضاعه وتغيير ملابسه . إنّه بحاجة للهدوء . حافظي على السكينة في محيطه . سوف يكون ممتنّاً لك ، ليس الآن بالطبع بل في المستقبل .
     المشاعر والأحاسيس التي تراود الطفل في أولى لحظات حياته ، لا تمحى بل تحفظ في اللاوعي وفي عقله الباطني ، عقل الطفل غير قادر على استيعاب وتنظيم ومراقبة وفهم كل ما يراه . لذلك هو يخزن الأحداث الممتعة والمزعجة والتجارب السعيدة والحزينة وطلباته المحققة والمرفوضة ...
     طفلك يحتاج إلى وجودك وحنانك . إن تجربته هذه سعيدة كانت أم مزعجة وعلاقته اليومية بك تتركان أثراً على شخصيته بصورة عامة .
     عوضاً عن فرض نمط حياتك وقواعدها على طفلك ، تعرّفي عليه عن كثب وراقبي كيف يظهر

 


( 7 )

 

 

احتياجاته ويتفاعل مع العناية التي تقدّمينها . عندما تتقربين منه أكثر تستجيبين لتوقعاته بصورة أفضل . ولكل طفل شخصيته الخاصة ومتطلباته المميّزة .

     الأسابيع الأولى من حياة الطفل مهمة لتوثيق الروابط التي تجمعك وإيّاه . ونوعية هذه الروابط تؤثّر تأثيراً بالغاً على مستقبله لأن التوازن النفسي عند البالغين ينشأ منذ نعومة الأظفار ، لكن أساس هذه التوازن تبنيه الأم خلال الأسابيع الأولى من حياة طفلها .

     ـ لمساعدتك ، نعرض هنا التصرفات التي تجلب اللذة للوليد الجديد :
     سعادته الكبرى أن يكون معك ، بين ذراعيك . يحب أن يرضع ، أن تهزّي سريره أن تغسليه . وبعد
الحمّام يحبّ أن يحرّك رجليه بحرية قبل أن تلبسيه ثيابه . عندما يتدلّل ، يجب أن تشاركيه في فرحه . يحبّ صوتك ، وملامسة يدك وضحكتك . يستهويه الهدوء والضوء ـ فهو يتجه نحوه غرائزياً ـ شرط ألاّ يكون هذا الضوء قوياً .

     ـ أمّا ما يزعج المولود الجديد فهو الآتي :
     يزعجه أن يكون جائعاً . أن تكون الأغطية فوقه كثيرة أو أن لا يغطّى بشكل كاف . تزعجه الألبسة الضيقة ، وألاّ تبدّل حفّاضاته بانتظام وأن نتركه في مجرى الهواء ممّا يسبّب له الدوخة . الذهاب والمجيء والضجيج داخل غرفته ، والصراخ والراديو والتلفزيون اقفال الأبواب بقوة ودخان السجائر حوله ، هذه كلها تزعجه كثيراً . لا تقولي ابداً إنه خبيث إذا بكى خلال الليل فالمولود الجديد لا يفرّق بين الليل والنهار .

 


( 8 )

 

مرحلة الاكتشافات

 

     يكون الاكتشاف بواسطة العين ثم اليدين ثم القدمين .
     عندما يأتي المولود الجديد إلى هذا العالم ، يبدو كأنه من سكان كوكب آخر أتى ليكتشف عالمنا . أولاً ، يستريح في نوم عميق ، من الرحلة الطويلة التي أكملها ؛ ثم يتعلّم كيفية استعمال أعضائه الجديدة التي ستمكّنه من العيش في جو البالغين . لذلك هو بحاجة إلى أربعة أسابيع ليتعلّم هذا كلّه . تنفّسه يصبح منتظماً وعميقاً . قلبه يهدأ وحرارته تستقرّ طفلك الآن لم يعد مولوداً جديداً خارجاً من ملجئه المظلم ، بل بدأ يكتشف العالم الذي أصبح جزءاً منه .
     يكتشف الوليد أولاً بواسطة عينيه ثم يديه وأخيراً رجليه .
     عيناه تتجهان نحو الحركة . بفضلهما ، يقوم الوليد باكتشافه الأول وهو الضوء . عندما يكون الضوء قوياً ، يغلق عينيه ويبقيهما كذلك ليحتمي وإذا غمرت أشعة الشمس وجهه فغالباً يبكي . لكن إذا وضعنا سريره قرب النافذة فسوف يفتح عينيه كأنه يريد الحصول على أكبر قدر ممكن من الضوء والألوان . الطفل الوليد يحبّ الألوان المشرقة كالأحمر والبرتقالي والأصفر . عندما نحرّك ببطء شيئاً له أحد هذه الألوان ، سيفتح عينيه وتتسارع عملية تنفّسه وسيتوجه
نظره ورأسه نحو هذا الشيء . لاختبار الضوء والألوان أهمية قصوى وتأثير على ذكاء الطفل ، تماماً مثل الغذاء بالنسبة إلى معدته .
     بعد ذلك يتوصّل الوليد إلى المزج بين النظر والسمع فيوجه نظره نحو مصدر الصوت . ربما يبدو لك هذا التصرّف طبيعياً ولكنه حدث بالغ الأهمية ، بالنسبة إلى نمو صغيرك .
     عندما ينحني وجهك فوق وجهه ، يراقبه بفضول . يرى شفتين تتحركان وعينين تنطويان . يحاول القيام بحركات مماثلة . ترتسم ابتسامة على ثغرك وتخرج من فمك صرخة فرح . الوليد يبتسم ، وكذلك أمه . من منهما البادي ، لا أحد يعلم . بالنسبة إلى الأم تلك هي السعادة بعينها . الطفل الذي حملته تسعة أشهر والذي آلمها قبل أن يرى النور ، تعرّف عليها أخيراً . عرف أنها أمه . الابتسامة ليست الهدية الوحيدة التي يقدّمها الوليد لأمه في هذه المرحلة من حياته . سيبدأ بتمضية ليال هادئة لأن بكاءه سيتضاءل تدريجاً بين عمر الشهر والأربعة أشهر . إنه يبكي بمعدل ثلاث ساعات يومياً عندما يبلغ عمره الستة أسابيع ويبكي نصف ساعة في اليوم في سن الثلاثة أشهر .
     يبكي طفلك لأنه لا يجد طريقة أخرى يعبّر بها عما يزعجه كمثل أن يكون مبللاً ، ثيابه ضيّقة أو هو

 


( 9 )

 

 


( 10 )

 

جائع أو عطش أو أن تكون أغطيته كثيفة أو يكون مصاباً بمغص . أعصابه دقيقة جداً وهو حسّاس تجاه كل شيء . مجموع هذه الأسباب ، أو أحدها ، يمنع الطفل من الخلود إلى نوم عميق . إذا بدا كل شيء على ما يرام ما بين الثلاثة والأربعة أشهر من عمره فيعني هذا أن الطفل توصّل إلى أداء مهمتين أساسيتين بشكل جيد : النوم والأكل .
     عالم الطفولة يبدو للبالغين غامضاً للغاية . ويكون الغموض أكثر كثافة كلّما عجز الطفل عن التعبير عمّا يخالجه من شعور وعمّا يريده .

     السؤال الأول الذي نطرحه هو : كيف ومن أي منظار يرى الطفل العالم بين سن الشهر والأربعة أشهر ؟ حياة الطفل شديدة الانتظام : يرضّع ست مرات تغيّر حفّاضاته ست مرات تقريباً ، كذلك حمامه وإخراجه من السرير ، هما منتظمان . في كل مرة يقوم الشخص نفسه الذي يعتني به بالحركات والتصرّفات ذاتها ـ من

لغة البكاء

     البكاء هو لغة الطفل الوحيدة ما بين الاسبوعين الاوليين والشهر الرابع من عمره ، وإليك بعض معاني هذه اللغة .
نوعية البكاء
التفسير
البكاء ليلاً
يعني المغص ، ويستريح الطفل إذا وضع على ركبتي امه ملقى على معدته ودلّك ظهره تدليكاً لطيفاً مما يساعد على اخراج الريح .
البكاء الفجائي الحاد والمستمر
لأكثر من ثلاث ساعات يومياً ، هو الدليل على اصابة الطفل بمرض .
بكاء الطفل بحدة بالغة مع التلوي يعني ان الطفل يعاني من مضاعفات معوية .
البكاء بعد الشهر الرابع يعني ان الطفل يشعر بالجوع أو العطش أو ليلفت انتباه الأهل . وعلى الأم الا تسرع إلى سرير طفلها كلما بكى في حال تأكدها من كونه لا يشكو الجوع ولا العطش .

جدول يبين تطور الطفل مع حواسه

الاسبوع الاول : يتجاوب الطفل مع رنين جرس أو صوت قوي
الاسبوع الثالث : يبدي الطفل اهتماماً بمصادر النور ويحدق في وجه الناظر اليه .
نهاية الشهر الاول : يرفع رأسه ويحدث أصواتاً متطورة أكثر من أصوات البكاء .
نهاية الشهر الثاني : تصدر عن الطفل اصوات هي غير أصوات البكاء ويتتبع بنظره الاشياء المتحركة أمام عينيه
الشهر الثالث : يبتسم الطفل لمن يبتسم له ويتجاوب بحماسة مع مشهد امه وهي تحضّر الرضاعة .
الشهر الرابع : يضحك الطفل بصوت عال ويمسك الاشياء المحيطة به .
الشهر الخامس : يشرّع في الصراخ ليلفت الانتباه إليه بدلاً من البكاء . يلتقط العابه ويجلس مستنداً إلى ذراع أمه .
الشهر السادس : يميز أبويه تمييزاً صحيحاً ويبتسم للمرأة .
الشهر السابع : يجلس من تلقاء ذاته . ينطق بالمقاطع الاولى من الكلمات ويبتسم حين يسمع موسيقى
الشهر الثامن : يتدحرج على سريره وينطق ببعض الكلمات « ماما » و« بابا » ، ويزحف .

ملاحظة : المراحل المذكورة في هذا الجدول هي بمثابة معدل تقريبي لتطور الطفل وتختلف نسبياً بين ولد وآخر ..

 


( 11 )

 

 

الأفضل أن يقوم الشخص ذاته في خدمة الطفل لأنه لا يحبّ التغيير ـ وتتكوّن نظرة الطفل إلى الحياة من خلال المشاهد اليومية التي تحيط به . بين عمر الخمسة والستة أشهر يرى الطفل كل ما يدور حوله بشكل صور وألوان مجتمعة وتتحرّك باستمرار . الأشخاص والأشياء بالنسبة إليه لوحات حيّة .





     الحياة بالنسبة إلى طفل بهذا العمر هي تسلسل لوحات ، العنصر الأساسي فيها هو الأم . هذه اللوحات تصبح عادات وأسس تؤمّن الاطمئنان والاستقرار للطفل . إذا حدث تغيير مفاجىء في سير هذه العادات سيصاب الطفل بحالة ضياع . بناء على ما تقدّم يتوجّب عدم إدخال التغييرات الكثيرة ، والمحافظة قدر الإمكان
على الروتين في حياة الوليد . مثلاً :
ـ عدم تغيّر الأشخاص الذين يهتمون به .
ـ تخصيص زاوية للطفل ليكون محاطاً بالإطار ذاته طوال يومه ولمدة غير قصيرة .
ـ يجب أن يكون حمّام الطفل وإخراجه من سريره في أوقات محدّدة ومنتظمة ، وأن تتم هذه المهمات من دون استعجال وعلى يد الشخص ذاته إذا أمكن .

     كلّما كبر طفلك توضّحت ملامح شخصيته ، وبدأ يقدّر الأمور ويبحث عن كل جديد . أمّا في الوقت الحاضر فهو بحاجة إلى الاستقرار .

     إذا كنت ترضعين طفلك فسوف تدخلين على حياته ، بعد عدة أسابيع ، تغييراً بالغ الأهمية هو الفطام . من أجل تخفيف وقع هذا الحدث أو الصدمة ، يحتاج طفلك إلى وجودك وعاطفتك وحسن تصرّفك .

 


( 12 )

 

الآلام النفسيّة

 

     طفلك الصغير الذي كان يبكي بسبب ألم في بطنه ، سوف يكتشف الآن أن باستطاعته ذرف الدموع تعبيراً عن قلقه لأنك ابتعدت عنه قليلاً . يتألم الإنسان بسبب الحب في مختلف الأعمار وهذا ما يحدث لطفلك .
     كيف يولد شعور بمثل هذا العمق في قلب صغير كهذا ؟ بكل بساطة ، من خلال الأعمال والتصرّفات المتكررة على مرّ الأيام .
     عندما يجوع الطفل ، تطعمه أمّه . يبلّل نفسه ، تغيّر له حفّاضاته . يبكي فتأخذه بين ذراعيها . حين لا يجد النوم ، تهزّ سريره أو تحتضنه كي ينام . ترتسم على شفتيه ابتسامة فترد عليه بمثلها . يُصدر أصواتاً فتستمع إليه . بعبارة واحدة نقول : من خلال أمه يشبع الطفل جميع رغباته ويحصل على حاجاته كلها . هي التي تؤمّن له متعته . الإنسان يحبّ بالطبع من يؤمّن له السعادة . بعد عدة أسابيع ، يصبح وجه الأم مركز حبّ الطفل المطلق ، الذي تعود على تمييزه من بين الوجوه الأخرى . وأصبح وجود أمّه قربه ضرورة حيوية ، إذا فقدها تعرّض الطفل إلى اضطرابات خطيرة تصيبه على الفور أو في المستقبل .
     يحتاج الطفل إلى شخص يحبّه كي ينمو بشكل طبيعي فإذا أهمل فسيعاني آلاماً كثيرة . الحبّ بالنسبة إلى الطفل ، ضرورة لا بدّ منها مثل الفيتامينات لجسده .
والأسابيع الأولى من حياة الوليد هي المرحلة الأكثر دقة لأن أعضاءه تتكوّن خلالها . كذلك هي الأشهر الأولى من حياته ، فخلالها يتعرّف على محيطه . وإذا لم يتلقّ الحبّ الكافي والعناية الدقيقة في هذه المرحلة فيستأخّر نموه . أنت وحدك ، أمّه ، القادرة على إعطائه الحبّ . أنت محور حياته ، ويستمد توازنه كلّه من رعايتك إيّاه . في هذه المرحلة يشرق وجه الطفل بابتسامته الأولى ، يتفوّه بأولى كلماته ويقوم بأول خطوة . هذا يعني أن أسس الحياة والقلب ، والجسد وكلّ تقدّم ، تنمو من خلال الأم .

الانفصال عن الأم


     عندما تكون الأم غائبة وحاجات الطفل العاطفية غير مشبعة ، يعاني الطفل ممّا يسمّى بالنقص العاطفي . وتتفاوت خطورة النتائج والتأثيرات عليه تبعاً لأهمية هذا النقص . لكن لابدّ من التمييز بين مختلف الحالات : هناك أولاً الأطفال المحرومون كلياً من رعاية الأم ، كاليتامى . وهناك الأطفال الذين يتلقون عناية غير كافية من أمهاتهم ، كأن تكون شخصية الأم تفتقر إلى الحنان أو أنها تغيب عن المنزل باستمرار . وهناك أخيراً الأطفال المحاطون بالعاطفة ولكنهم منفصلون عن أمهاتهم لمدة معيّنة بسبب المرض أو الطلاق أو ما شابه .

 


( 13 )

 

     الأطفال الذين لم يتلقوا أية عناية من أمهاتهم لن يتعرّفوا أبداً على سعادة الوجود بين يدي إنسان يحبّهم . ستنقصهم دائماً تجربة المبادلة . إنّ نمو هؤلاء الأطفال وتوازنهم مرتبطان بنوعية العاطفة التي يتلقونها من المحيط الذي يستقبلهم . إذا حالفهم الحظ وتبنتهم إحدى العائلات منذ الأشهر الأولى من حياتهم وأحاطتهم بالعاطفة فبإمكانهم النمو بشكل طبيعي .
     في الحالة الثانية ، إذا تركوا فترة طويلة بمفردهم في السرير وأهملو عاطفياً ، أو اعتنى بهم عدة أشخاص بشكل فوضوي فسينقصهم يوماً بعد يوم المحرّك الضروري لإيقاظ فطنتهم ووجود العاطفة المستمر والضروري لبناء شخصيتهم . سيكون هؤلاء ضعفاء في جميع المجالات ، وغالباً يعانون من تأخّر في نموّهم العام .
     ردات فعل الطفل على النقص العاطفي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطول مدة هذا النقص ؛ أي إن حدة الاضطراب تختلف فيما لو دام النقص عدة أيّام أو عدة أسابيع أو عدة أشهر .
     بين الثمانية والخمسة عشر يوماً ، يعبّر الطفل عن حزنه ، حسب مزاجه ، قد يعبّر بعنف فيصرخ ويبكي . أو بالعكس من دون أي ضجيج فيلتزم الصمت ، ويصبح جامداً ، ينظر في الفراغ غير مبال بما يحيط به ، لا ينام جيداً ، ولا يأكل جيداً ، ويفقد من وزنه .
     إذا استمرّت حالة النقص العاطفي عدة أسابيع ستظهر اضطرابات أشدّ خطورة . إضطرابات هضمية ( كالإسهال أو الإمساك ، اللذين يستعصيان على كل علاج ، والقيء وإلخ ... ) . وقد يصاب الطفل بزكام خفيف ولكنه لا ينتهي . أو يتعرّض لإصابات أكثر خطورة كذات الرئة . وكأن النقص في الحب يجعل الجسد ضعيفاً وأشدّ تعرضاً للإصابة بالأمراض والميكروبات . في بعض الأحيان ، بعد أن يتعلّم الطفل المشي يتوقف فجأة ، أو بعدما كان نظيفاً يعود ويبلّل ثيابه . بعض الأطفال يفقدون الشهية تماماً والبعض
الآخر ، بالعكس ، يرتمي على الطعام ويلتهمه : في هذه الحالة يحاول الطفل التعويض من الحب بالطعام .
     إذا استمرّ إهمال الطفل أكثر من أربعة أشهر ، ستتفاقم الاضطرابات وتترك آثاراً لا تمحى فيعاني الطفل طوال حياته ، من توتر في الأعصاب ، ويصبح غير قادر على التأقلم مع أي تغيير مهما كان صغيراً . أمّا إذا حرم الطفل من الحبّ خلال السنة الأولى من حياته فالاضطرابات ستصيب أعصابه وعضلاته أو شخصيته ، وأحياناً تعيق نموّه .
     طفل كهذا قد يرفض أن يمشي أو يتأخر كثيراً ليقوم بالخطوة الأولى . وآخر قد يرفض أن يتكلّم أو يتفوّه بلغة الأطفال وقتاً طويلاً . في أحوال أشدّ خطورة يقوم الطفل بتصرّفات غير طبيعية ويصبح غير مبال تجاه كل الأمور .

الانفصال عن الأم لفترة معيّنة

     نعرض هنا وضع الأطفال المحاطين بأمهاتهم بشكل طبيعي لكنهم يجدون أنفسهم منفصلين عنها وقتاً معيّناً . حتى ولو أحيط هؤلاء الأطفال بالحب الكافي فإنهم سيعانون من جرّاء الانفصال . الاضطرابات التي تصيبهم هي نفسها التي سبق ذكرها ولكن بوطأة أخف بكثير ، كما أنها تتلاشى إذا اهتم بهؤلاء الأولاد أحد يحبّهم ويعتني بهم جيداً كجدتهم مثلاً .
     تبقى حساسية الطفل مرهفة تجاه الانفصال عن أمه حتى عمر الثلاث سنوات . لكنه أكثر تعرّضاً لتأثير الانفصال السلبي حتى عمر السنتين . في الواقع أن حاجات الطفل العاطفية هي رئيسة وضرورية حتى بلوغ الطفل هذا السن وبديهي كم هو صعب إفهامه الأسباب الحقيقية للانفصال والتي لو كان بإمكانه استيعابها ، لشفي من بعض اضطراباته .
     بعد عمر الثلاث سنوات تتفاعل الاضطرابات الناتجة عن غياب الأم بحسب طبع الطفل ولكنها أقل خطورة ، لأن شخصية الطفل قد بنيت قبل هذه السن .

 


( 14 )

 

الطفل أقل عرضة للمتاعب بعد الخمس أو الست سنوات وهو بالتالي يستطيع تحمّل الانفصال عن أمه بقدر ما كانت العلاقة العاطفية وطيدة بينهما قبل الانفصال .

مزاج الطفل

     منذ أول أيام حياته يتمتع الطفل بمزاج معينّ . بعض الأطفال يبدون أقوياء ، قليلي المطالب ويتحملون جيداً بعد أمهم عنهم خلال النهار . بعضهم الآخر عصبي المزاج ، كثير الحركة وهو بحاجة إلى انتظام أكثر في حياته ، أي في مواعيد الطعام . أيّ تأثير غير متوقع يؤدي إلى توتر أعصاب هؤلاء الأطفال ، والبعض الآخر أيضاً سريع العطب وأي تغيير في عاداته يؤثر سلباً على صحته . هذه الحالات التي ذكرنا ليست سوى أمثلة تفسّر كيف أن كل طفل يتعامل مع النقص العاطفي بطريقة مختلفة عن طرق سائر الأطفال .
     إذا عدت واجتمعت بطفلك بعد مدة طويلة من الانفصال عنه لا تتوقعي أن يتجاوب معك ، بل إنه سيكون مرتبكاً حتى إنه قد يدير وجهه إلى الناحية الأخرى عندما يراك . لا تحاولي الدخول إلى حياته بيوم واحد فطفلك قد تعوّد وجهاً آخر وهو بحاجة إلى الوقت كي يألفك من جديد . واحفظي جيداً التالي : لا تدخلي تغييراً مفاجئاً على حياة طفلك وإذا اضطررت الى أن تتركيه بعهدة أحد فيجب أن تؤمني لطفلك الجو الذي يشعره بالأمان .

إذا كنت تعملين خارج البيت

     كيف سيتحمل طفلك غيابك خلال ساعات طويلة من النهار وهو في أمسّ الحاجة إليك ؟ سيتحمّل ذلك جيداً ، إذا اتخذت الاحتياطات اللازمة .
     عليك أن تقدّمي لطفلك ما ينتظره منك عندما تعودين إلى المنزل في المساء : أن تكوني فرحة بلقائه . هذا ليس سهلاً بالطبع فأنت متعبة بلا شك ، لكن
النتيجة تستحق المجهود الذي ستقومين به . إذا نجحت لقاءاتكما المسائية فقد قمت بجزء كبير من مهمتك . ثم حاولي أن تستغلي جميع الفرص لتمضي وقتك معه . خصصي له معظم الوقت الذي تقضينه في المنزل . الوقت الذي يمضيه معك يعوّض عن غيابك في أثناء النهار . وهذا أفضل بكثير من أي هدية تقدمينها له . بعض الأمهات العاملات يتجه نحو تدليل الأطفال بواسطة شراء الألعاب ليعوضن عن النقص العاطفي ، وهذا خطأ .
     يجب أخيراً أن تكوني موجودة عند حصول تغيير مهم في حياة طفلك مثلاً عندما يأكل بالملعقة أوّل مرة ، أو عندما يتناول أي طعام غير الحليب أول مرة .
     الطفل يدرك بسرعة أن أمّه تعمل لعائلتها وله بشكل خاص ، وعندما يبلغ عمراً يسمح له أن يعي ذلك فإنه سيكون فخوراً بك .
     إعلمي في النهاية أن أهم شيء بالنسبة إلى الطفل ومن أجل توازنه ، ليس عدد الساعات التي تمضيها أمه معه ، بل نوعية العاطفة التي تقدّمها اليه .







____________
     ردّات فعل الطفل على النقص العاطفي تختلف باختلاف طباع كل طفل ومزاجه الخاص . قد تكون ردات الفعل هذه من نوع الصراخ والبكاء تعبيراً عن الحزن ، وقد تكون صامتة فيبدو الطفل جامداً يحدق في الفراغ . أو هو قد يلجأ إلى تسلية نفسه والتخفيف من قلقه بامتصاص احد أصابع يده .

 


( 15 )