أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية من وحي الاسلام ـ الجزء الأول
 
 


مقدمة الطبعة الاولى

البريد الإلكتروني طباعة

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام

الجزء الأول

 

دار الزهراء

( 5 )

 

مقدمة الطبعة الاولى
من وحي الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
وبعد : قد مضى حين من الدهر على ما سيطلع عليه القارىء الكريم من الخطب في هذا الكتاب وهي سجينة في حبس الأشرطة حتى أراد الله لها ان يطلق سراحها وتنطلق من ظلمات الكتمان إلى نور الظهور والبيان .
وإذا أراد الله أمراً هيأ سببه وكان سبب إطلاقها وانطلاقها مؤخراً طلباً كريماً توجه من قبل جهة كريمة متضمناً الرغبة الملحة في تقديم مقدار من خطب يوم الجمعة لتكون موضوع بحث ودراسة مقدمة لإدراك غاية نبيلة خاصة وكان لا بد من إجابة الطلب وإعداد المطلوب من هذه الخطب تجاوباً مع تلك الرغبة الهادفة وتشجيعاً على حصول مطلب فيه لله رضا وللمجتمع مصلحة وصلاح .
وتحقق بذلك موضوع لإجابة طلب آخر كان قد توجه لي سابقاً من


( 6 )


قبل دار الزهراء متضمنا إبداء الرغبة والاستعداد لطبع ما أقدمه لها من المؤلفات فقدمت الخطب المذكورة لتطبع وتشكل الجزء الاول من الكتاب المذكور على أمل حصول التوفيق لإعداد خطب ومحاضرات أخرى لتشكل الجزء الثاني وهكذا بتسلسل لأن الباقي من الخطب كثير والمحاضرات الملقاة حول مواضيع إسلامية توجيهية كثيرة أيضاً وكل ما احتاجه هو عامل الزمن وفرصة الفراغ المساعدة على إنجاز هذا المشروع الديني المربي ـ ولا يفوتني أن أنبه بدافع الواقعية والمحافظة على الموضوعية على أن هذه الخطب قد أدخلت عليها مقداراً من التعديل بحذف بعض الخصوصيات التي لا حاجة لها فعلاً وزيادة ما يناسب الموضوع من الإضافات التوجيهية مع المحافظة على جوهر الموضوع وخطوطه العريضة .
والملاحظ هو عدم التقيد في مقام تحرير الخطب بتقديم المتقدم منها تاريخا على المتأخر كما هو المناسب من الناحية الفنية المرغوبة لي إلا أن عدم وقوع الأشرطة في متناول يدي حين النقل لحالة استثنائية طارئة من جهة وعدم وجود ترتب وارتباط بعضها مع الآخر من حيث المضمون والمحتوى من جهة أخرى اقتضى الترسل وعدم التقيد بالترتيب التاريخي وسأحاول مراعاة ذلك في الأجزاء القادمة إن شاء الله تعالى وهو ولي التوفيق والمسؤول أنه يتفضل بالعون والمساعدة على القيام بما فيه رضاه ونصر ونشر الرسالة وخدمة الامة وما ذلك على رحمته تعالى بعزيز .

حسن طراد
3 ـ 5 ـ 1417 هـ
16 ـ 9 ـ 1996 م

( 7 )

 

مقدمة الطبعة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبيين .
وبعد : قد ذكرت في مقدمة الطبعة الاولى للجزء الاول من وحي الإسلام ، أن الدافع لجمع خطبه الدينية ومحاضراته التربوية كان طلبا كريماً صادراً من جهتين كريمتين وعزيزتين راغبتين في أن تخرج هذه الخطب الى عالم النور ليستفيد منها الجيل المعاصر ومن بعده من الاجيال القادمة ، دروساً تربوية تساهم في ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تثمر الاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة وتوصل الإنسان إلى ما اراد الله سبحانه ان يصل اليه ويحصل عليه من الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة .
واليوم وبعد ان اشرفت نسخ هذه الطبعة على النفاذ أقول :


( 8 )


إن الدافع الى إعادة طبعه هو طلب كريم صادر ممن هو اكرم واعز واعظم وهو الله سبحانه الذي أمر كل مكلف وطلب منه وجوباً او استحباباً التفقه في الدين والاطلاع على ما يجب عليه او يستحب له الاطلاع عليه والالمام به ، من اصوله القويمة وفروعه الحكيمة ونظمه الهادفة التي تنظم سير الإنسان وحركته العبادية في هذه الحياة لتصل به الى الهدف الرفيع والغاية السامية التي اراد الله سبحانه وصوله اليها وهي الكمال والسعادة تمهيداً لنيلهما هناك في دار الخلود بدرجة ارقى وابقى .
وكما اوجب سبحانه التفقه في الدين وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ، اوجب ايضا على المتعلم المتفقه ، ان يعلم غيره بالطريقة التي تساعده على تأدية هذه الفريضة الإسلامية المقدسة ، وحيث ان الكتابة والتأليف ونشر ما يؤلف على نطاق واسع ، يمكن العالم من القيام بدور التعليم والإفادة بأنجح اسلوب وانفع وسيلة كما هو واضح .
كان لهذه الوسيلة اهميتها في نظر التشريع الإسلامي لذلك ورد في الحديث المشهور عن الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ما حاصله : أن الإنسان إذا مات انقطع عمله الا من ثلاثة : علم ينتفع به وصدقة جارية وولد صالح يدعو له .
والذي يؤكد اهمية التجاوب مع هذا الطلب السماوي والتكليف الشرعي هو الشعور بالمسؤولية نحو الجيل الجديد الذي استيقظ من غفلته واستعد للنهوض من كبوته التي عرضت له نتيجة الشبهات الكثيرة والإشاعات المغرضة التي اثيرت واطلقت حول الدين وان الالتزام به ايمانا وعملاً ، رجعية وتأخر عن ركب الحضارة المعاصرة الزاحف الى الامام ، او انه افيون يخدر الشعور ، ويمنع الشعوب من الثورة على الظلم والظالمين بما يدعو اليه من الصبر على البلاء والرضا بالقدر والقضاء


( 9 )


لتنال بذلك جزاء الصابرين يوم الرحيل والانتقال الى جوار رب العالمين .
إلا ان قليلاً من الدراسة والاطلاع الواعي على الرسالة الإسلامية وملاحظة نجاحها الرائع في تجربتها الرائدة على يد الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم حيث استطاعت خلال فترة قصيرة ان تخرج الامة العربية من الظلمات الى النور وتجعل منها خير امة اخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه .
أجل : إن الملاحظة الواعية لهذه الحقيقة التاريخية البارزة ، تزيل تلك الشبهات وتوحي للإنسان الواعي بما تتمتع به تلك الرسالة الخالدة من قدرة ومرونة تساعدها على التجاوب مع حاجات كل عصر ومطالب كل جيل لانها منزلة من قبل الإله الخالق للإنسان العالم بما يصلحه ويصلح له من التشريعات في جميع المجالات .
وحيث أنها جاءت خاتمة الشرائع ورسالة الخلود كان ذلك مقتضياً اشتمالها على جميع ما تحتاجه البشرية في جميع العصور حتى لا يحتاج الإنسان المعاصر والآتي لان يضع تشريعا من قبله ليملأ به الفراغ ويتمم النقص ، ويؤكد هذه الحقيقة الإيمانية الموضوعية النص القرآني الذي يقول الله سبحانه فيه :
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلم ديناً ) (1) .
ويأتي الحديث المشهور القائل : « حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة » ليؤكد هذا النص القرآني ، والحلال والحرام الواردان في هذا الحديث كناية عن مجموع احكام الشريعة
____________
(1) سورة المائدة ، الآية : 3 .


( 10 )


الغراء الناظرة الى جميع قضايا الحياة والإنسان لتعالجها بدقة وحكمة وتعطي لكل موضوع حكمه ولكل مشكلة حلها ولكل حاجة قضاءها بما يناسب طبيعة الإنسان المشرع له وفطرته التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله (1) .
وكما لا مجال للتبديل والتغير في خلق الإنسان وطبيعته من الناحية التكوينية كذلك لا مجال للتبديل والتغيير في نظام الله سبحانه المشرع له ، اي للإنسان من الناحية التشريعة وذلك لان التشريعات السماوية منها ما يمثل الغذاء والدواء معاً ، نظير بعض الفواكه والاطعمة التي تقوم بكلا دوري التغذية والعلاج او الوقاية ، ومنها ما يمثل الدواء المعالج للكثير من الامراض المعنوية او المادية او هما معاً ، ومن المعلوم ان الغذاء الوافي والدواء الشافي لا يعرف به إلا الطبيب الحاذق العارف بطبيعة ومزاج الشخص الذي يراد تقديم الغذاء والدواء له ، فإذا قدم له ما هو مناسب لغذائه والمعالج لدائه تحقق الغرض المطلوب وإذا قدم له ما لايناسبه من الغذاء والدواء لا يتحقق الهدف المنشود ، وكثيراً ما يتحقق عكسه والى هذه الحقيقة التكوينية والتشريعية اشار الله سبحانه بقوله :
( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين ) (2) .
وذلك لانه لا يراد بعدم القبول مجرد الرفض التشريعي المعبر عن الحرمة وارتكاب الإثم بالمخالفة ، بل يراد به الرفض الطبيعي التكويني نظير رفض الجسم لبعض المآكل والمشارب المرة طعماً والمضرة صحة
____________
(1) إشارة الى الآية رقم 30 من سورة الروم وهي قوله تعالى : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون ) .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 85 .


( 11 )


والخسارة والأخروية كناية عن المضرة الدنيوية لان الله سبحانه لا يحكم بالخسران واستحقاق العذاب في الآخرة إلا بسبب ما هو مضر ومحرم في الدنيا ، كما هو معلوم بمنطق الحكمة والعدالة الإلهية .
وانطلاقاُ من الشعور بضرورة تجلية هذه الحقيقة وتوضيحها بالأسلوب العملي والبيان الادبي من اجل ترسيخ العقيدة الصحيحة في افكار الجيل وتقوية إيمانه وثقته برسالة السماء ليدخل في مدرستها التربوية انتماءً بعد دخولها في عقله وعيا وفي قلبه ايمانا ثابتا يدفعه نحو العمل والتطبيق والاستقامة في نهجها القويم التي تؤدي به الى الهدف المنشود والغرض المقصود من خلقه وتكليفه وهو الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة .
أجل : انطلاقا من الشعور بالمسؤولية نحو المهمة الرسالية المذكورة فقد بذلت الجهد المستطاع في سبيل تأدية هذا الواجب المقدس ، ويسجد القارىء الكريم تفصيلا ما اشرت اليه اجمالاً في هذه المقدمة ، من الاهتمام والتركيز في الخطب والمحاضرات الدينية التربوية المنشورة في هذا الجزء اي الجزء الاول من وحي الإسلام ، على إبراز الجانب الحضاري والتربوي في الرسالة الاسلامية الخالدة الذي يصنع الفرد المؤمن الصالح والمجتمع الاسلامي الفاضل بالحضارة السماوية المربية التي تنور العقل بالعلم والعرفان وتضيء القلب بنور العقيدة والايمان ليحلق بجناحي المعرفة الصحيحة والعقيدة السليمة الراسخة الى سماء الرقي والتقدم في مختلف الميادين .
وبذلك تميزت الحضارة السماوية الكاملة عن الحضارة العصرية الناقصة لاعتمادها على الجانب العلمي وحده . بمعزل عن العنصر الايماني الذي يشد المخلوق الجاهل الناقص الضعيف ويربطه بخالقه


( 12 )


العالم الكامل القوي ليستمد منه الوعي الحضاري والكمال الإنساني والقوة المعنوية والمادية ويسخر كل هذه الطاقات والعطاءات التي استمدها من مبدعه تعالى في سبيل خدمة نفسه ومن حوله من أبناء اسرته وافراد مجتمعه ويتجنب استخدامها فيما حرمه الله عليه مما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً .
ومن الوضح ان القوانين السماوية إذا طبقت وسادت حضارتها العادلة الكاملة فهي تنشر الخير والرخاء والامن والاطمئنان لتدخل الانسانية بها جنة السعادة والهناء في هذه الدنيا ومنها تنطلق الى جنة النعيم الخالد والسعادة الابدية في دار الخلود والبقاء ، وهذا ما حاولت لفت النظر اليه والتنبيه عليه بما نشر في هذا الجزء من الخطب والمحاضرات وفيما حررته في الجزء الثاني من وحي الاسلام حول فلسفة فلسفة الصيام وفي كتاب فلسفة الحج في الإسلام ، كل ذلك من اجل تأدية بعض الواجب نحو جيلنا العزيز ورسالتنا الخالدة والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل .

حسن طراد
14 ـ 9 ـ 1419 هـ
2 ـ 1 ـ 1999 م

 


( 13 )


الخطبة الاولى (1)

موقف الإسلام من أعداء
الإنسانية الجهل والفقر والمرض

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على أشرف الانبياء واعز المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم أيها الإخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته وبعد :
حيث ان اسلامنا الخالد والصامد كان منذ فجر الدعوة الإسلامية ولا يزال الى يومنا هذا ـ يخوض جهاداً مريراً ضد اعداء الإنسانية الثلاثة وهي الجهل والفقر والمرض ـ وذلك من اجل اسعادها والسير بها على درب التقدم والكمال والفضيلة .
أجل : حيث ان الإسلام وهو شرع الله العادل الكامل ـ قد نهض
____________
(1) القيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي (عج ) في 12 ـ 2 ـ 1982 م .


( 14 )


بهذا الدور ولا يزال مستعداً للنهوض به في كل زمان ومكان فقد احببت ان اكشف الستار عن وجه هذه الحقيقة وازيل بذلك بعض الشبهات التي اثيرت حوله وانه استنفذ اغراضه واصبح غير قادر على مواكبة التطور ومعالجة المشكلات الطارئة في الآونة الاخيرة .
وقبل الشروع بالحديث حول هذا الموضوع احب ان افتتحه بالمقطوعة الشعرية التالية وهي جزء من قصيدة اسلامية نظمت ونشرت في مجلة الاضواء الإسلامية التي كانت تصدر في النجف الاشرف والخطاب فيها موجه لإسلامنا الخالد .


حلق فــأنـت الـكوكب السيار * واسـطـع فـهديك بالسنا موار
وابعث اريجك في الحياة فأنت في * حقل الـسعادة روضــة معطار
واصمد أمام الحادثــات فـإنها * ظلــم تــبدد ظلها الانــوار
واخلد بأعمـاق الوجود فلن يُرى * لسواك من نــظم الضلال قرار
أفهل يقر الليل في افـــق به * ينساب من سامي هداك نــهار
فاصدع فوعيك ثورة فكـــرية * واصمد فصانع مجدك القـهـار
واحكم فنهجك عادل لا ينطـوي * في حكمه ضرر ولا إضــرار
قد ابدعتك يد السمـاء واين مـن * صنع الســما ما يصنع الاغيار
موَّجت ابــعاد الحياة فأشـرقت * من نور فجــرك عزة وفـخار
ورفعت مجد المسلمين بشــرعة * سمحاء تـدرك عندها الاوطـار
فسموا بها نحو المعالي وارتـقوا * شأناً تــطـلع نحوه الاحـرار
وإذا اعتدى خــصم لئيم غـادر * فالله اكـبر مدفــع هـــدار



بيان محاربة الإسلام للجهل والتخلف :
أجل : إن إسلامنا العظيم الذي شرعه الله العظيم جاء لسعادة


( 15 )


البشرية عبر القرون ومن هنا انطلق بقوة وحزم في سبيل إزالة كل الاسباب والعوامل التي تعيق مسيرة الانسانية وتصنع لها تأخرها وشقاءها وهي كثيرة اهمها الاسباب الثلاثة التي مر ذكرها وهي الجهل والفقر والمرض .
اما الجهل فقد حاربه الاسلام وحاول القضاء عليه بالحث على طلب العلم بالكثير من آيات القرآن الكريم وسنة النبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ومن جملة الآيات الواردة في هذا المجال قوله تعالى :
( يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات ) (1) .
وقوله سبحانه : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون ) (2) .
وقوله تعالى : ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء ) (3) .
ومن الاحاديث الواردة في هذا المقام ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : « من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين » .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : في حديث آخر ما حاصله « فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر » .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « العلماء ورثة الانبياء » وقول الامام علي عليه السلام :
قيمة كل امرىء ما يحسنه ونسب إليه قوله شعراً في مدح العلم والعلماء :

الناس من جهة التمثال اكفـاء * أبوهم آدم والام حـــواء
فإن يكن لهم في اصلهم شرف * يفاخرون به فالطين والماء


____________
(1) سورة المجادلة ، الاية : 11 .
(2) سورة الزمر ، الاية : 9 .
(3) سورة فاطر ، الاية : 28 .


( 16 )

 

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم * على الهدى لمن استهدى أدلاء
ففز بعلم تعش حياً به أبـداً * الناس موتى وأهل العلم أحياء


وينقسم العلم بحسب المعلوم الى قسمين :
الاول : العلم بأصول الدين خمسة وهي التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد .
الثاني : العلم بفروع الدين وهي ما عدا اصول الدين من الوجبات الشرعية والاحكام الدينية المتفرعة على تلك الاصول .
ويفترق الاول عن الثاني بأنه ـ أي الأول ـ لا بد ان يكون علماً جازماً ناشئاً عن دليل قاطع وبرهان ساطع ولا يجوز تحصيله عن طريق التقليد للآخرين ومتابعتهم بدون تدبر واقتناع ذاتي وهذا بخلاف العلم بالفروع فإن المكلف يكون مخيراً بين ان يدرس ويحصله عن دليل واجتهاد ـ وان يعتمد فيه على قول غيره بالتقليد والمتابعه .
وقد شرح ذلك في مكانه من الكتب المؤلفة حول هذا الموضوع فمن اراد الاطلاع التفصيلي فليرجع إليها .

بيان معالجة الإسلام لمشكلة الفقر :
اما المرض الثاني الذي يفتك بكيان الإنسان فرداً ومجتمعاً وهو الفقر فقد وقف الإسلام منه موقفين الاول موقف الوقاية وذلك بالحث على العمل والكسب بمختلف الوسائل والاسباب التي تساعد العامل على تحصيل الثروة والوصول بها الى الحياة العزيزة الكريمة بعيداً عن الفقر وشقائه .
ومن الآيات الواردة في هذا المجال قوله تعالى :


( 17 )


( هو الذي جعل لكم الارض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) (1) .
وقوله تعالى :
( وأن ليس للإنسان إلا ماسعى * وأن سعيه سوف يُرى ) (2) .
والرويات الحاثة على العمل في سبيل الكسب وتحصيل المال من المصدر الحلال كثيرة :
منها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : « من طلب الدنيا حلالاً وتعففاً عن المسألة وسعياً على عياله وتعطفاً على جاره لقي الله وجهه كالقمر ليلة البدر » .
ومنها : ما روي عن الإمام الحسن بن علي عليه السلام .
من قوله : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً وما روي عن أهل البيت عليهم السلام من قولهم : ليس منا من ترك دنياه لآخرته .
وهناك روايات كثيرة اعتبرت العمل في سبيل الكسب الحلال من اجل القيام بما يطلب من المكلف ان يقوم به نحو نفسه وعياله ومجتمعه من افضل العبادات التي يتقرب بها الى الله زلفى وان العامل في هذا السبيل افضل عند الله من العابد الذي يقصر طاقته البدنية على العبادات المستحبة .
وذلك لأن الأول ـ اي العامل ينفع نفسه واسرته ومجتمعه بكسبه
____________
(1) سورة الملك ، الآية : 15 .
(2) سورة النجم ، الآية : 39 ـ 40 .


( 18 )


وعمله ـ بينما العابد لا ينفع إلا نفسه ـ وقيمة كل عمل تكون بقدر ما يترتب عليه من آثار إيجابية وخدمات إنسانية ويستفاد ذلك بوضوح من الحديث المشهور القائل :
« الخلق عيال الله واحبهم إلى الله أنفعهم لعياله » .
وأما الموقف العلاجي الذي وقفه الإسلام من مشكلة الفقر ومرضه المؤلم فقد تمثل بما فرضه الله سبحانه من الحق المعلوم في اموال الاغنياء للسائل والمحروم بواسطة فريضتي الزكاة والخمس مضافاً الى حثه على القيام بأفضل المستحبات وهو التصدق على الفقراء والمساكين الذين عاكستهم ظروفهم وفرضت الحاجة والفقر عليهم إما للعجز عن الكسب والعمل او لعدم توفره لهم ليحصلوا به على ما هم مضطرون له ومحتاجون اليه من النفقات الضرورية لهم ولمن يتعلق بهم .
والروايات الحاثة على التصدق كثيرة .
منها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : « تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسد من الجائع وتطفئ من الخطيئة كما يطفئ الماء النار » .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « صدقة البر تطفيء غضب الرب عز وجل » .
وروي عن الإمام الباقر قوله عليه السلام : البر والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء .
كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : داووا مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالدعاء واستنزلوا الرزق بالصدقة إلخ .
وقد سمت روح فضيلة التصدق عند البعض من المؤمنين حتى بلغت درجة الإيثار وتقديم الآخرين المحتاجين على النفس ومن يتصل بها برابطة القرابة الوثيقة .


( 19 )


وقد روى لنا القرآن الكريم قصة ذلك الإيثار العظيم الذي تجمل به جماعة من أهل بيت الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم تجاه ثلاثة من الجائعين وذلك بقوله سبحانه في سورة الإنسان ، الآية : 8 ـ 9 :
( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاءً ولاشكوراً )
كما اشار الى قصة مماثلة حصلت من بعض افراد هذا البيت الطاهر او من بعض الاشخاص الذين اقتدوا بهم وساروا على خطهم وذلك بقوله تعالى :
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شُح نفسه فأولئك هم المفلحون ) (1) .
ولو ان الأمة الإسلامية طبقت تعاليم الإسلام في مجال الاقتصاد وغيره من المجالات الحياتية لكانت كما اراد الله لها ان تكون حاضراً ومستقبلاً ـ خير امة اخرجت للناس ـ في جميع المجالات ومن جميع الجهات ـ كما بلغت في التاريخ ـ وسلم الكثيرون من مأساة الفقر بتطبيق التعاليم الاقتصادية وقاية وعلاجاً كما تسلم من مرض الشرذمة والتمزق بالاعتصام بحبل الله سبحانه عملاً بقوله سبحانه :
( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا) (2) .
وهكذا وقف الإسلام من المرض المادي الجسمي نفس الموقفين اللذين وقفهما مع مرض الفقر ومشكلته .
____________
(1) سورة الحشر ، الآية : 9 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 103 .


( 20 )


موقف الإسلام الوقائي والعلاجي من الامراض الجسمية:
أما الموقف الوقائي فقد تمثل بنظام الصحة الذي وضعه الله سبحانه وبلغه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام كتاباً وسنة قولاً وعملاً ويتجلى ذلك بوضوح في كل المحرمات من الاطعمة والاشربة التي اثبت الطب الحديث كما اثبت الواقع ـ مدى اضرارها واخطارها الصحية ويأتي نظام النظافة في الإسلام ليكون مؤكداً لذلك ومتكاملاً معه وهذا النظام على نوعين واجب ومستحب وكلاهما يساهمان في تحقق هدف الصحة والجمال .
أما الواجب فهو يتمثل بالاغسال التي اوجبها الله سبحانه مقدمة لعمل واجب تتوقف صحته عليها كالصلاة والصوم ويلحق بها الوضوء الواجب من حيث سبب الوجوب والفائدة الصحية المترتبة عليه ـ كما يلحق بها طهارة البدن والثوب الذي يصلي به المكلف بعد ملاحظة اشتراط صحة الغسل والوضوء بطهارة البدن كله ـ في الغسل واعضاء الوضوء بالنسبة اليه اي الوضوء من النجاسات المعهودة او الاعيان المتنجسة بها ـ مع ملاحظة ما تشتمل عليه هذه النجاسات من انواع المكروبات التي تؤدي بطبعها الى الإصابة بالامراض الخطيرة .
أجل : إن ملاحظة ما يترتب على تناول الاطعمة والاشربة المحرمة من الاضرار وما يترتب على المكروبات الكامنة في الاعيان النجسة والمتنجسة بها ـ من الامراض مع ملاحظة ان الإسلام لم يحرم تلك الا ليقينا من اضرارها ولم يوجب علينا الطهارة من الحدث والخبث الا ليسلمنا من تلك الامراض .


( 21 )


هذه الملاحظة الواعية توحي لنا بما قدمه لنا الإسلام من نظام صحي شامل يتناول الجانب الوقائي بدقة واهتمام كامل .
أما الجانب العلاجي فقد اولاه الله سبحانه العناية الفائقة في مجالين احدهما تكويني والآخر تشريعي ـ أما التكويني فهو يتمثل في الكثير من النباتات والاعشاب التي اودع الله فيها برحمته وحكمته الكثير من الادوية والعلاجات المساعدة على التخلص والشفاء من الامراض التي يتعرض الإنسان للإصابة بها هذا مضافاً الى الكثير من الفواكه والمأكولات النباتية التي تحمل في طيها عنصري الغذاء والدواء معاً .
أما المجال التشريعي فيظهر بما اودعه الله سبحانه في الإسلام من التشريع الباعث للمكلف او لولي المريض الى مراجعة الطبيب المختص لغاية تشخيص الداء واستعمال ما يصفه له من الدواء ولا يتنافى هذا مع الاعتقاد بأن الله سبحانه هو المعافي والطبيب الواقعي الذي يستند اليه الشفاء .
وذلك لأن الله سبحانه قد شاءت حكمته ان تنال المسببات بأسبابها وحيث جعل سبب الشفاء بدواء خاص لا يعرف به الا الطبيب المتخصص .
لذلك يأمرنا بالرجوع إليه من اجل تحصيل السبب واما المسبب وهو الشفاء المطلوب فهو يرجع الى إرادة الله سبحانه وحكمته فإن شاء رتبه عليه وإن شاء بقي كل شيء على حاله والمؤمن الواعي المتوكل عليه يترك النتيجة اليه ويرضى بكل ما يقدره له فإن قدر له نجاح سعيه وحصول مطلوبه شكره على ذلك وإن قدر له عكس مراده ـ صبر ـ وقال


( 22 )


بلسان الثقة والتسليم : ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمه بعاقبة الامور .
وبملاحظة المنهج الحكيم والتدبير السليم الذي اعتمده الإسلام في مقام انقاذ البشرية من اضرار واخطار المشكلات الثلاث موضوع الحديث بصفته تشريعاً كاملاً صادراً من الإله العادل الكامل خالق الإنسان العارف بما يصلحه ويصلح له من التشريعات في مختلف الميادين والمجلات .
أجل : بالملاحظة الموضوعية العميقة لمصدر هذا التشريع العظيم والغاية السامية التي شرعه الله سبحانه من اجل تحيقيقها وهي سعادة الإنسانية وتقدمها في مختلف المجالات وفي كل العصور ، ندرك جيداً قابليته وقدرته على مسايرة التطور ومواكبة الاوضاع الطارئة ليجد فيه الانسان حكماً لكل موضوع وحلاً لكل مشكلة وتحقيقاً لكل حاجة فلاً يجد نفسه مضطراً لاستجداء الحلول من النظم المستوردة كما توهم الكثيرون حتى من أبناء الامة الإسلامية نتيجة تأثرهم بالشبهات التي أثيرت حول تشريع السماء من قبل اعدائه وانه افيون الشعوب وان الالتزام به عقيدة وعملاً يمثل الرجعية والتخلف .

الإسلام دين الحضارة والتطور :
وقد رد الشاعر الإسلامي الكبير على هذه الدعاوي الفارغة بأبيات مليئة بالحكمة والمنطق والواقعية وهي كما يلي :


يقــولون في الإسلام نقص لأنه * يعيق ذويه عن ضـروب التقدم
فإن كـان ذا حقــاً لماذا تقدمت * أوائلنا فـي عـصرها الـمتقدم
إذا كـان ذنب الـمسلم اليوم جهله * فماذا على الإسلام من ذنب مسلم

 


( 23 )


وانسجاماً مع هذا الجو الشعري والشعوري أحببت ان اختم حديثي هذا بمقطوعة شعرية تلتقي بالمضمون والاسلوب مع المقطوعة التي كانت الافتتاحية والمفتاح لباب الحديث حول الموضوع الخاص المحدد له وهي كما يلي :


الديـن أفضل ما يرقى بـه البشر * نحو الكمال وما يجنى به الوطر
أوحى به الله منهاجاً تشع بـــه * مقاصد الخير والآمال تــزدهر
تزهو الحقيقة في ميزان شـرعته * ويخلد الجوهر الوضاء لا الصور
فالمنــهج الحق لا أهواء مبتدع * والحاكــم الله لا زيـد ولا عمر
والمقصد الخير خير النـاس كلهــم * لا نفع بعض وإن اودى بنا الضرر
نالت به الفتح أقوام به اعتصمت * وسـار في ركبها التأييـدُ والظفر
واليوم ضل بها الحادي فأوردها * مناهل الغي حيث الجبنُ والخـور
فعاد عاراً لها نصرُ الجدود ومـا * كـــانت تتيه به عزاً وتفتـخر
وتلك حـكمة وحي الله ناطقــة * عبر القرون لمن يصغي ويعتبـر
من ينصـر الله ينصر في مواقفه * ومن يخالف مخذول ومنكـسـر


والسلام عليكم أيها الإخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته .

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام

الجزء الأول
دار الزهراء

( 5 )

مقدمة الطبعة الاولى
من وحي الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
وبعد : قد مضى حين من الدهر على ما سيطلع عليه القارىء الكريم من الخطب في هذا الكتاب وهي سجينة في حبس الأشرطة حتى أراد الله لها ان يطلق سراحها وتنطلق من ظلمات الكتمان إلى نور الظهور والبيان .
وإذا أراد الله أمراً هيأ سببه وكان سبب إطلاقها وانطلاقها مؤخراً طلباً كريماً توجه من قبل جهة كريمة متضمناً الرغبة الملحة في تقديم مقدار من خطب يوم الجمعة لتكون موضوع بحث ودراسة مقدمة لإدراك غاية نبيلة خاصة وكان لا بد من إجابة الطلب وإعداد المطلوب من هذه الخطب تجاوباً مع تلك الرغبة الهادفة وتشجيعاً على حصول مطلب فيه لله رضا وللمجتمع مصلحة وصلاح .
وتحقق بذلك موضوع لإجابة طلب آخر كان قد توجه لي سابقاً من


( 6 )


قبل دار الزهراء متضمنا إبداء الرغبة والاستعداد لطبع ما أقدمه لها من المؤلفات فقدمت الخطب المذكورة لتطبع وتشكل الجزء الاول من الكتاب المذكور على أمل حصول التوفيق لإعداد خطب ومحاضرات أخرى لتشكل الجزء الثاني وهكذا بتسلسل لأن الباقي من الخطب كثير والمحاضرات الملقاة حول مواضيع إسلامية توجيهية كثيرة أيضاً وكل ما احتاجه هو عامل الزمن وفرصة الفراغ المساعدة على إنجاز هذا المشروع الديني المربي ـ ولا يفوتني أن أنبه بدافع الواقعية والمحافظة على الموضوعية على أن هذه الخطب قد أدخلت عليها مقداراً من التعديل بحذف بعض الخصوصيات التي لا حاجة لها فعلاً وزيادة ما يناسب الموضوع من الإضافات التوجيهية مع المحافظة على جوهر الموضوع وخطوطه العريضة .
والملاحظ هو عدم التقيد في مقام تحرير الخطب بتقديم المتقدم منها تاريخا على المتأخر كما هو المناسب من الناحية الفنية المرغوبة لي إلا أن عدم وقوع الأشرطة في متناول يدي حين النقل لحالة استثنائية طارئة من جهة وعدم وجود ترتب وارتباط بعضها مع الآخر من حيث المضمون والمحتوى من جهة أخرى اقتضى الترسل وعدم التقيد بالترتيب التاريخي وسأحاول مراعاة ذلك في الأجزاء القادمة إن شاء الله تعالى وهو ولي التوفيق والمسؤول أنه يتفضل بالعون والمساعدة على القيام بما فيه رضاه ونصر ونشر الرسالة وخدمة الامة وما ذلك على رحمته تعالى بعزيز .

حسن طراد
3 ـ 5 ـ 1417 هـ
16 ـ 9 ـ 1996 م

( 7 )

 

مقدمة الطبعة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبيين .
وبعد : قد ذكرت في مقدمة الطبعة الاولى للجزء الاول من وحي الإسلام ، أن الدافع لجمع خطبه الدينية ومحاضراته التربوية كان طلبا كريماً صادراً من جهتين كريمتين وعزيزتين راغبتين في أن تخرج هذه الخطب الى عالم النور ليستفيد منها الجيل المعاصر ومن بعده من الاجيال القادمة ، دروساً تربوية تساهم في ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تثمر الاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة وتوصل الإنسان إلى ما اراد الله سبحانه ان يصل اليه ويحصل عليه من الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة .
واليوم وبعد ان اشرفت نسخ هذه الطبعة على النفاذ أقول :


( 8 )


إن الدافع الى إعادة طبعه هو طلب كريم صادر ممن هو اكرم واعز واعظم وهو الله سبحانه الذي أمر كل مكلف وطلب منه وجوباً او استحباباً التفقه في الدين والاطلاع على ما يجب عليه او يستحب له الاطلاع عليه والالمام به ، من اصوله القويمة وفروعه الحكيمة ونظمه الهادفة التي تنظم سير الإنسان وحركته العبادية في هذه الحياة لتصل به الى الهدف الرفيع والغاية السامية التي اراد الله سبحانه وصوله اليها وهي الكمال والسعادة تمهيداً لنيلهما هناك في دار الخلود بدرجة ارقى وابقى .
وكما اوجب سبحانه التفقه في الدين وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ، اوجب ايضا على المتعلم المتفقه ، ان يعلم غيره بالطريقة التي تساعده على تأدية هذه الفريضة الإسلامية المقدسة ، وحيث ان الكتابة والتأليف ونشر ما يؤلف على نطاق واسع ، يمكن العالم من القيام بدور التعليم والإفادة بأنجح اسلوب وانفع وسيلة كما هو واضح .
كان لهذه الوسيلة اهميتها في نظر التشريع الإسلامي لذلك ورد في الحديث المشهور عن الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ما حاصله : أن الإنسان إذا مات انقطع عمله الا من ثلاثة : علم ينتفع به وصدقة جارية وولد صالح يدعو له .
والذي يؤكد اهمية التجاوب مع هذا الطلب السماوي والتكليف الشرعي هو الشعور بالمسؤولية نحو الجيل الجديد الذي استيقظ من غفلته واستعد للنهوض من كبوته التي عرضت له نتيجة الشبهات الكثيرة والإشاعات المغرضة التي اثيرت واطلقت حول الدين وان الالتزام به ايمانا وعملاً ، رجعية وتأخر عن ركب الحضارة المعاصرة الزاحف الى الامام ، او انه افيون يخدر الشعور ، ويمنع الشعوب من الثورة على الظلم والظالمين بما يدعو اليه من الصبر على البلاء والرضا بالقدر والقضاء


( 9 )


لتنال بذلك جزاء الصابرين يوم الرحيل والانتقال الى جوار رب العالمين .
إلا ان قليلاً من الدراسة والاطلاع الواعي على الرسالة الإسلامية وملاحظة نجاحها الرائع في تجربتها الرائدة على يد الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم حيث استطاعت خلال فترة قصيرة ان تخرج الامة العربية من الظلمات الى النور وتجعل منها خير امة اخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه .
أجل : إن الملاحظة الواعية لهذه الحقيقة التاريخية البارزة ، تزيل تلك الشبهات وتوحي للإنسان الواعي بما تتمتع به تلك الرسالة الخالدة من قدرة ومرونة تساعدها على التجاوب مع حاجات كل عصر ومطالب كل جيل لانها منزلة من قبل الإله الخالق للإنسان العالم بما يصلحه ويصلح له من التشريعات في جميع المجالات .
وحيث أنها جاءت خاتمة الشرائع ورسالة الخلود كان ذلك مقتضياً اشتمالها على جميع ما تحتاجه البشرية في جميع العصور حتى لا يحتاج الإنسان المعاصر والآتي لان يضع تشريعا من قبله ليملأ به الفراغ ويتمم النقص ، ويؤكد هذه الحقيقة الإيمانية الموضوعية النص القرآني الذي يقول الله سبحانه فيه :
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلم ديناً ) (1) .
ويأتي الحديث المشهور القائل : « حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة » ليؤكد هذا النص القرآني ، والحلال والحرام الواردان في هذا الحديث كناية عن مجموع احكام الشريعة
____________
(1) سورة المائدة ، الآية : 3 .


( 10 )


الغراء الناظرة الى جميع قضايا الحياة والإنسان لتعالجها بدقة وحكمة وتعطي لكل موضوع حكمه ولكل مشكلة حلها ولكل حاجة قضاءها بما يناسب طبيعة الإنسان المشرع له وفطرته التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله (1) .
وكما لا مجال للتبديل والتغير في خلق الإنسان وطبيعته من الناحية التكوينية كذلك لا مجال للتبديل والتغيير في نظام الله سبحانه المشرع له ، اي للإنسان من الناحية التشريعة وذلك لان التشريعات السماوية منها ما يمثل الغذاء والدواء معاً ، نظير بعض الفواكه والاطعمة التي تقوم بكلا دوري التغذية والعلاج او الوقاية ، ومنها ما يمثل الدواء المعالج للكثير من الامراض المعنوية او المادية او هما معاً ، ومن المعلوم ان الغذاء الوافي والدواء الشافي لا يعرف به إلا الطبيب الحاذق العارف بطبيعة ومزاج الشخص الذي يراد تقديم الغذاء والدواء له ، فإذا قدم له ما هو مناسب لغذائه والمعالج لدائه تحقق الغرض المطلوب وإذا قدم له ما لايناسبه من الغذاء والدواء لا يتحقق الهدف المنشود ، وكثيراً ما يتحقق عكسه والى هذه الحقيقة التكوينية والتشريعية اشار الله سبحانه بقوله :
( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين ) (2) .
وذلك لانه لا يراد بعدم القبول مجرد الرفض التشريعي المعبر عن الحرمة وارتكاب الإثم بالمخالفة ، بل يراد به الرفض الطبيعي التكويني نظير رفض الجسم لبعض المآكل والمشارب المرة طعماً والمضرة صحة
____________
(1) إشارة الى الآية رقم 30 من سورة الروم وهي قوله تعالى : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون ) .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 85 .


( 11 )


والخسارة والأخروية كناية عن المضرة الدنيوية لان الله سبحانه لا يحكم بالخسران واستحقاق العذاب في الآخرة إلا بسبب ما هو مضر ومحرم في الدنيا ، كما هو معلوم بمنطق الحكمة والعدالة الإلهية .
وانطلاقاُ من الشعور بضرورة تجلية هذه الحقيقة وتوضيحها بالأسلوب العملي والبيان الادبي من اجل ترسيخ العقيدة الصحيحة في افكار الجيل وتقوية إيمانه وثقته برسالة السماء ليدخل في مدرستها التربوية انتماءً بعد دخولها في عقله وعيا وفي قلبه ايمانا ثابتا يدفعه نحو العمل والتطبيق والاستقامة في نهجها القويم التي تؤدي به الى الهدف المنشود والغرض المقصود من خلقه وتكليفه وهو الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة .
أجل : انطلاقا من الشعور بالمسؤولية نحو المهمة الرسالية المذكورة فقد بذلت الجهد المستطاع في سبيل تأدية هذا الواجب المقدس ، ويسجد القارىء الكريم تفصيلا ما اشرت اليه اجمالاً في هذه المقدمة ، من الاهتمام والتركيز في الخطب والمحاضرات الدينية التربوية المنشورة في هذا الجزء اي الجزء الاول من وحي الإسلام ، على إبراز الجانب الحضاري والتربوي في الرسالة الاسلامية الخالدة الذي يصنع الفرد المؤمن الصالح والمجتمع الاسلامي الفاضل بالحضارة السماوية المربية التي تنور العقل بالعلم والعرفان وتضيء القلب بنور العقيدة والايمان ليحلق بجناحي المعرفة الصحيحة والعقيدة السليمة الراسخة الى سماء الرقي والتقدم في مختلف الميادين .
وبذلك تميزت الحضارة السماوية الكاملة عن الحضارة العصرية الناقصة لاعتمادها على الجانب العلمي وحده . بمعزل عن العنصر الايماني الذي يشد المخلوق الجاهل الناقص الضعيف ويربطه بخالقه


( 12 )


العالم الكامل القوي ليستمد منه الوعي الحضاري والكمال الإنساني والقوة المعنوية والمادية ويسخر كل هذه الطاقات والعطاءات التي استمدها من مبدعه تعالى في سبيل خدمة نفسه ومن حوله من أبناء اسرته وافراد مجتمعه ويتجنب استخدامها فيما حرمه الله عليه مما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً .
ومن الوضح ان القوانين السماوية إذا طبقت وسادت حضارتها العادلة الكاملة فهي تنشر الخير والرخاء والامن والاطمئنان لتدخل الانسانية بها جنة السعادة والهناء في هذه الدنيا ومنها تنطلق الى جنة النعيم الخالد والسعادة الابدية في دار الخلود والبقاء ، وهذا ما حاولت لفت النظر اليه والتنبيه عليه بما نشر في هذا الجزء من الخطب والمحاضرات وفيما حررته في الجزء الثاني من وحي الاسلام حول فلسفة فلسفة الصيام وفي كتاب فلسفة الحج في الإسلام ، كل ذلك من اجل تأدية بعض الواجب نحو جيلنا العزيز ورسالتنا الخالدة والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل .

حسن طراد
14 ـ 9 ـ 1419 هـ
2 ـ 1 ـ 1999 م

 


( 13 )


الخطبة الاولى (1)

موقف الإسلام من أعداء
الإنسانية الجهل والفقر والمرض

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على أشرف الانبياء واعز المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم أيها الإخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته وبعد :
حيث ان اسلامنا الخالد والصامد كان منذ فجر الدعوة الإسلامية ولا يزال الى يومنا هذا ـ يخوض جهاداً مريراً ضد اعداء الإنسانية الثلاثة وهي الجهل والفقر والمرض ـ وذلك من اجل اسعادها والسير بها على درب التقدم والكمال والفضيلة .
أجل : حيث ان الإسلام وهو شرع الله العادل الكامل ـ قد نهض
____________
(1) القيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي (عج ) في 12 ـ 2 ـ 1982 م .


( 14 )


بهذا الدور ولا يزال مستعداً للنهوض به في كل زمان ومكان فقد احببت ان اكشف الستار عن وجه هذه الحقيقة وازيل بذلك بعض الشبهات التي اثيرت حوله وانه استنفذ اغراضه واصبح غير قادر على مواكبة التطور ومعالجة المشكلات الطارئة في الآونة الاخيرة .
وقبل الشروع بالحديث حول هذا الموضوع احب ان افتتحه بالمقطوعة الشعرية التالية وهي جزء من قصيدة اسلامية نظمت ونشرت في مجلة الاضواء الإسلامية التي كانت تصدر في النجف الاشرف والخطاب فيها موجه لإسلامنا الخالد .


حلق فــأنـت الـكوكب السيار * واسـطـع فـهديك بالسنا موار
وابعث اريجك في الحياة فأنت في * حقل الـسعادة روضــة معطار
واصمد أمام الحادثــات فـإنها * ظلــم تــبدد ظلها الانــوار
واخلد بأعمـاق الوجود فلن يُرى * لسواك من نــظم الضلال قرار
أفهل يقر الليل في افـــق به * ينساب من سامي هداك نــهار
فاصدع فوعيك ثورة فكـــرية * واصمد فصانع مجدك القـهـار
واحكم فنهجك عادل لا ينطـوي * في حكمه ضرر ولا إضــرار
قد ابدعتك يد السمـاء واين مـن * صنع الســما ما يصنع الاغيار
موَّجت ابــعاد الحياة فأشـرقت * من نور فجــرك عزة وفـخار
ورفعت مجد المسلمين بشــرعة * سمحاء تـدرك عندها الاوطـار
فسموا بها نحو المعالي وارتـقوا * شأناً تــطـلع نحوه الاحـرار
وإذا اعتدى خــصم لئيم غـادر * فالله اكـبر مدفــع هـــدار



بيان محاربة الإسلام للجهل والتخلف :
أجل : إن إسلامنا العظيم الذي شرعه الله العظيم جاء لسعادة


( 15 )


البشرية عبر القرون ومن هنا انطلق بقوة وحزم في سبيل إزالة كل الاسباب والعوامل التي تعيق مسيرة الانسانية وتصنع لها تأخرها وشقاءها وهي كثيرة اهمها الاسباب الثلاثة التي مر ذكرها وهي الجهل والفقر والمرض .
اما الجهل فقد حاربه الاسلام وحاول القضاء عليه بالحث على طلب العلم بالكثير من آيات القرآن الكريم وسنة النبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ومن جملة الآيات الواردة في هذا المجال قوله تعالى :
( يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات ) (1) .
وقوله سبحانه : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون ) (2) .
وقوله تعالى : ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء ) (3) .
ومن الاحاديث الواردة في هذا المقام ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : « من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين » .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : في حديث آخر ما حاصله « فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر » .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « العلماء ورثة الانبياء » وقول الامام علي عليه السلام :
قيمة كل امرىء ما يحسنه ونسب إليه قوله شعراً في مدح العلم والعلماء :

الناس من جهة التمثال اكفـاء * أبوهم آدم والام حـــواء
فإن يكن لهم في اصلهم شرف * يفاخرون به فالطين والماء


____________
(1) سورة المجادلة ، الاية : 11 .
(2) سورة الزمر ، الاية : 9 .
(3) سورة فاطر ، الاية : 28 .


( 16 )

 

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم * على الهدى لمن استهدى أدلاء
ففز بعلم تعش حياً به أبـداً * الناس موتى وأهل العلم أحياء


وينقسم العلم بحسب المعلوم الى قسمين :
الاول : العلم بأصول الدين خمسة وهي التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد .
الثاني : العلم بفروع الدين وهي ما عدا اصول الدين من الوجبات الشرعية والاحكام الدينية المتفرعة على تلك الاصول .
ويفترق الاول عن الثاني بأنه ـ أي الأول ـ لا بد ان يكون علماً جازماً ناشئاً عن دليل قاطع وبرهان ساطع ولا يجوز تحصيله عن طريق التقليد للآخرين ومتابعتهم بدون تدبر واقتناع ذاتي وهذا بخلاف العلم بالفروع فإن المكلف يكون مخيراً بين ان يدرس ويحصله عن دليل واجتهاد ـ وان يعتمد فيه على قول غيره بالتقليد والمتابعه .
وقد شرح ذلك في مكانه من الكتب المؤلفة حول هذا الموضوع فمن اراد الاطلاع التفصيلي فليرجع إليها .

بيان معالجة الإسلام لمشكلة الفقر :
اما المرض الثاني الذي يفتك بكيان الإنسان فرداً ومجتمعاً وهو الفقر فقد وقف الإسلام منه موقفين الاول موقف الوقاية وذلك بالحث على العمل والكسب بمختلف الوسائل والاسباب التي تساعد العامل على تحصيل الثروة والوصول بها الى الحياة العزيزة الكريمة بعيداً عن الفقر وشقائه .
ومن الآيات الواردة في هذا المجال قوله تعالى :


( 17 )


( هو الذي جعل لكم الارض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) (1) .
وقوله تعالى :
( وأن ليس للإنسان إلا ماسعى * وأن سعيه سوف يُرى ) (2) .
والرويات الحاثة على العمل في سبيل الكسب وتحصيل المال من المصدر الحلال كثيرة :
منها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : « من طلب الدنيا حلالاً وتعففاً عن المسألة وسعياً على عياله وتعطفاً على جاره لقي الله وجهه كالقمر ليلة البدر » .
ومنها : ما روي عن الإمام الحسن بن علي عليه السلام .
من قوله : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً وما روي عن أهل البيت عليهم السلام من قولهم : ليس منا من ترك دنياه لآخرته .
وهناك روايات كثيرة اعتبرت العمل في سبيل الكسب الحلال من اجل القيام بما يطلب من المكلف ان يقوم به نحو نفسه وعياله ومجتمعه من افضل العبادات التي يتقرب بها الى الله زلفى وان العامل في هذا السبيل افضل عند الله من العابد الذي يقصر طاقته البدنية على العبادات المستحبة .
وذلك لأن الأول ـ اي العامل ينفع نفسه واسرته ومجتمعه بكسبه
____________
(1) سورة الملك ، الآية : 15 .
(2) سورة النجم ، الآية : 39 ـ 40 .


( 18 )


وعمله ـ بينما العابد لا ينفع إلا نفسه ـ وقيمة كل عمل تكون بقدر ما يترتب عليه من آثار إيجابية وخدمات إنسانية ويستفاد ذلك بوضوح من الحديث المشهور القائل :
« الخلق عيال الله واحبهم إلى الله أنفعهم لعياله » .
وأما الموقف العلاجي الذي وقفه الإسلام من مشكلة الفقر ومرضه المؤلم فقد تمثل بما فرضه الله سبحانه من الحق المعلوم في اموال الاغنياء للسائل والمحروم بواسطة فريضتي الزكاة والخمس مضافاً الى حثه على القيام بأفضل المستحبات وهو التصدق على الفقراء والمساكين الذين عاكستهم ظروفهم وفرضت الحاجة والفقر عليهم إما للعجز عن الكسب والعمل او لعدم توفره لهم ليحصلوا به على ما هم مضطرون له ومحتاجون اليه من النفقات الضرورية لهم ولمن يتعلق بهم .
والروايات الحاثة على التصدق كثيرة .
منها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : « تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسد من الجائع وتطفئ من الخطيئة كما يطفئ الماء النار » .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « صدقة البر تطفيء غضب الرب عز وجل » .
وروي عن الإمام الباقر قوله عليه السلام : البر والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء .
كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : داووا مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالدعاء واستنزلوا الرزق بالصدقة إلخ .
وقد سمت روح فضيلة التصدق عند البعض من المؤمنين حتى بلغت درجة الإيثار وتقديم الآخرين المحتاجين على النفس ومن يتصل بها برابطة القرابة الوثيقة .


( 19 )


وقد روى لنا القرآن الكريم قصة ذلك الإيثار العظيم الذي تجمل به جماعة من أهل بيت الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم تجاه ثلاثة من الجائعين وذلك بقوله سبحانه في سورة الإنسان ، الآية : 8 ـ 9 :
( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاءً ولاشكوراً )
كما اشار الى قصة مماثلة حصلت من بعض افراد هذا البيت الطاهر او من بعض الاشخاص الذين اقتدوا بهم وساروا على خطهم وذلك بقوله تعالى :
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شُح نفسه فأولئك هم المفلحون ) (1) .
ولو ان الأمة الإسلامية طبقت تعاليم الإسلام في مجال الاقتصاد وغيره من المجالات الحياتية لكانت كما اراد الله لها ان تكون حاضراً ومستقبلاً ـ خير امة اخرجت للناس ـ في جميع المجالات ومن جميع الجهات ـ كما بلغت في التاريخ ـ وسلم الكثيرون من مأساة الفقر بتطبيق التعاليم الاقتصادية وقاية وعلاجاً كما تسلم من مرض الشرذمة والتمزق بالاعتصام بحبل الله سبحانه عملاً بقوله سبحانه :
( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا) (2) .
وهكذا وقف الإسلام من المرض المادي الجسمي نفس الموقفين اللذين وقفهما مع مرض الفقر ومشكلته .
____________
(1) سورة الحشر ، الآية : 9 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 103 .


( 20 )


موقف الإسلام الوقائي والعلاجي من الامراض الجسمية:
أما الموقف الوقائي فقد تمثل بنظام الصحة الذي وضعه الله سبحانه وبلغه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام كتاباً وسنة قولاً وعملاً ويتجلى ذلك بوضوح في كل المحرمات من الاطعمة والاشربة التي اثبت الطب الحديث كما اثبت الواقع ـ مدى اضرارها واخطارها الصحية ويأتي نظام النظافة في الإسلام ليكون مؤكداً لذلك ومتكاملاً معه وهذا النظام على نوعين واجب ومستحب وكلاهما يساهمان في تحقق هدف الصحة والجمال .
أما الواجب فهو يتمثل بالاغسال التي اوجبها الله سبحانه مقدمة لعمل واجب تتوقف صحته عليها كالصلاة والصوم ويلحق بها الوضوء الواجب من حيث سبب الوجوب والفائدة الصحية المترتبة عليه ـ كما يلحق بها طهارة البدن والثوب الذي يصلي به المكلف بعد ملاحظة اشتراط صحة الغسل والوضوء بطهارة البدن كله ـ في الغسل واعضاء الوضوء بالنسبة اليه اي الوضوء من النجاسات المعهودة او الاعيان المتنجسة بها ـ مع ملاحظة ما تشتمل عليه هذه النجاسات من انواع المكروبات التي تؤدي بطبعها الى الإصابة بالامراض الخطيرة .
أجل : إن ملاحظة ما يترتب على تناول الاطعمة والاشربة المحرمة من الاضرار وما يترتب على المكروبات الكامنة في الاعيان النجسة والمتنجسة بها ـ من الامراض مع ملاحظة ان الإسلام لم يحرم تلك الا ليقينا من اضرارها ولم يوجب علينا الطهارة من الحدث والخبث الا ليسلمنا من تلك الامراض .


( 21 )


هذه الملاحظة الواعية توحي لنا بما قدمه لنا الإسلام من نظام صحي شامل يتناول الجانب الوقائي بدقة واهتمام كامل .
أما الجانب العلاجي فقد اولاه الله سبحانه العناية الفائقة في مجالين احدهما تكويني والآخر تشريعي ـ أما التكويني فهو يتمثل في الكثير من النباتات والاعشاب التي اودع الله فيها برحمته وحكمته الكثير من الادوية والعلاجات المساعدة على التخلص والشفاء من الامراض التي يتعرض الإنسان للإصابة بها هذا مضافاً الى الكثير من الفواكه والمأكولات النباتية التي تحمل في طيها عنصري الغذاء والدواء معاً .
أما المجال التشريعي فيظهر بما اودعه الله سبحانه في الإسلام من التشريع الباعث للمكلف او لولي المريض الى مراجعة الطبيب المختص لغاية تشخيص الداء واستعمال ما يصفه له من الدواء ولا يتنافى هذا مع الاعتقاد بأن الله سبحانه هو المعافي والطبيب الواقعي الذي يستند اليه الشفاء .
وذلك لأن الله سبحانه قد شاءت حكمته ان تنال المسببات بأسبابها وحيث جعل سبب الشفاء بدواء خاص لا يعرف به الا الطبيب المتخصص .
لذلك يأمرنا بالرجوع إليه من اجل تحصيل السبب واما المسبب وهو الشفاء المطلوب فهو يرجع الى إرادة الله سبحانه وحكمته فإن شاء رتبه عليه وإن شاء بقي كل شيء على حاله والمؤمن الواعي المتوكل عليه يترك النتيجة اليه ويرضى بكل ما يقدره له فإن قدر له نجاح سعيه وحصول مطلوبه شكره على ذلك وإن قدر له عكس مراده ـ صبر ـ وقال


( 22 )


بلسان الثقة والتسليم : ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمه بعاقبة الامور .
وبملاحظة المنهج الحكيم والتدبير السليم الذي اعتمده الإسلام في مقام انقاذ البشرية من اضرار واخطار المشكلات الثلاث موضوع الحديث بصفته تشريعاً كاملاً صادراً من الإله العادل الكامل خالق الإنسان العارف بما يصلحه ويصلح له من التشريعات في مختلف الميادين والمجلات .
أجل : بالملاحظة الموضوعية العميقة لمصدر هذا التشريع العظيم والغاية السامية التي شرعه الله سبحانه من اجل تحيقيقها وهي سعادة الإنسانية وتقدمها في مختلف المجالات وفي كل العصور ، ندرك جيداً قابليته وقدرته على مسايرة التطور ومواكبة الاوضاع الطارئة ليجد فيه الانسان حكماً لكل موضوع وحلاً لكل مشكلة وتحقيقاً لكل حاجة فلاً يجد نفسه مضطراً لاستجداء الحلول من النظم المستوردة كما توهم الكثيرون حتى من أبناء الامة الإسلامية نتيجة تأثرهم بالشبهات التي أثيرت حول تشريع السماء من قبل اعدائه وانه افيون الشعوب وان الالتزام به عقيدة وعملاً يمثل الرجعية والتخلف .

الإسلام دين الحضارة والتطور :
وقد رد الشاعر الإسلامي الكبير على هذه الدعاوي الفارغة بأبيات مليئة بالحكمة والمنطق والواقعية وهي كما يلي :


يقــولون في الإسلام نقص لأنه * يعيق ذويه عن ضـروب التقدم
فإن كـان ذا حقــاً لماذا تقدمت * أوائلنا فـي عـصرها الـمتقدم
إذا كـان ذنب الـمسلم اليوم جهله * فماذا على الإسلام من ذنب مسلم

 


( 23 )


وانسجاماً مع هذا الجو الشعري والشعوري أحببت ان اختم حديثي هذا بمقطوعة شعرية تلتقي بالمضمون والاسلوب مع المقطوعة التي كانت الافتتاحية والمفتاح لباب الحديث حول الموضوع الخاص المحدد له وهي كما يلي :


الديـن أفضل ما يرقى بـه البشر * نحو الكمال وما يجنى به الوطر
أوحى به الله منهاجاً تشع بـــه * مقاصد الخير والآمال تــزدهر
تزهو الحقيقة في ميزان شـرعته * ويخلد الجوهر الوضاء لا الصور
فالمنــهج الحق لا أهواء مبتدع * والحاكــم الله لا زيـد ولا عمر
والمقصد الخير خير النـاس كلهــم * لا نفع بعض وإن اودى بنا الضرر
نالت به الفتح أقوام به اعتصمت * وسـار في ركبها التأييـدُ والظفر
واليوم ضل بها الحادي فأوردها * مناهل الغي حيث الجبنُ والخـور
فعاد عاراً لها نصرُ الجدود ومـا * كـــانت تتيه به عزاً وتفتـخر
وتلك حـكمة وحي الله ناطقــة * عبر القرون لمن يصغي ويعتبـر
من ينصـر الله ينصر في مواقفه * ومن يخالف مخذول ومنكـسـر


والسلام عليكم أيها الإخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته .

الصفحة 1 من 2