الفصل الرابع : الزواج

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب قضايا المجتمع والاسرة ص 137 ـ ص 160



الفصل الرابع
الزواج



( 138 )


( 139 )


ـ 1 ـ
النكاح من مقاصد الطبيعة

أصل التواصل بين الرجل والمرأة مما تبينه الطبيعة الإنسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها ، والإسلام دين الفطرة فهو مجوزه لا محالة .
وأمر الإيلاد والإفراخ الذي هو بغية الطبيعة وغرض الخلقة في هذا الإجتماع هو السبب الوحيد والعامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الأزدواج وإخراجه من مطلق الإختلاط للسفاد والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة ولهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معاً كالطيور في حضانة بيضها وتغذية أفراخها وتربيتها وكالحيوان الذي يحتاج في الولادة والتربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه وحفظه إلى معاونة الذكور ويختار لهذا الشأن الازدواج وهو نوع من الملازمة والاختصاص بين الزوجين الذكور والإناث منه فيتواصلان عندئذ ويتشاركان في حفظ بيض الإناث وتدبيرها وإخراج الأفراخ منها وهكذا إلى أخر مدة تربية الأولاد ثم


( 140 )

ينفصلان إن انفصلا ثم يتجدد الازدواج وهكذا فعامل النكاح والإزدواج هو الإيلاد وتربية الأولاد ، وأما إطفاء نائرة الشهوة أو الإشتراك في الأعمال الحيوية كالكسب وجمع المال وتدبير الأكل والشرب والاثاث وإدارة البيت فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة والخلقة وإنما هي أمور مقدمية أو فوائد مترتبة .
ومن هنا يظهر أن الحرية والاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كل من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد ومهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم ، وكذا الزنا ، وخاصة زنا المحصنة منها .
وكذا تثبيت الازدواج الواقع وتحريم الطلاق والانفصال بين الزوجين ، وترك الزوج واتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما .
وكذا إلغاء التوالد وتربية الأولاد وبناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية ونظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدة للرضاع والتربية ، كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة ، وقد جهز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرت الإشارة إليه .
نعم الحيوان الذي لا حاجة في ولادته وتربيته إلى أزيد من حمل الاُم إياه وارضاعها له وتربيته بمصاحبتها ، فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج والمصاحبة والإختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضر بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل .
وإياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة وما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر والروية مع ما فيه من لذائذ الحياة


( 141 )

والتنعم ، فإن ذلك من أعظم الخبط ، فإن هذه البينات الطبيعية التي منها البنية الإنسانية مركبات مؤلفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به وضعاً هو الملائم لغرض الطبيعة والخلقة وهو المناسب لكمال النوع كالمعاجين والمركبات من الأدوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف ، ومقادير ، وأوزان وشرائط خاصة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج وانحراف سقط الأثر .
فالإنسان مثلاً موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيباً خاصاً يستتبع أوصافه داخلية وخواص روحية تستعقب أفعالاً وأعمالاً فإذا حول بعض أفعاله وأعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافاً وتغيراً في صفاته وخواصه الروحية وانحرف بذلك جميع الخواص والصفات عن مستوى الطبيعة ، وصراط الخلقة ، وبطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي ، والغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة .
وإذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الإنسانية وتحبط أعمال الناس ومساعيهم لنيل الراحة والحياة السعيدة وتهدد الإنسانية بالسقوط ، والإنهدام وجدنا أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى وتمكن الخرق والقسوة والشدة والشره من نفوس المجتمعات البشرية ، وأعظم أسبابه وعلله الحرية والاسترسال والإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية وتربية الأولاد ، فإن سنة المجتمع المنزلي ( الأسرة ) وتربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة والرحمة والعفة والحياء والتواضع من الإنسان من أول حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش .
وأما تدارك هذه النواقص بالكفر والروية فهيهات ذلك فإنما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لرد ما خرج وانحرف عن صراط الطبيعة والتكوين اليه لا لابطال سعي الطبيعة والخلقة


( 142 )

وقتلها بنفس السيف الذي أعطته للإنسان لدفع الشر عنها ، ولو استعمل الفكر الذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضاً فاسدة منحرفة كسائر الوسائل ، ولذلك ترى أن الإنسان اليوم كلما أصلح بقوة فكره واحداً من المفاسد العامة التي تهدد مجتمعه انتج ذلك ما هو أمر وأدهى وزاد البلاء والمصيبة شيوعاً وشمولاً .
نعم ربما قال القائل من هؤلاء : إن الصفات الروحية التي تسمي الفضائل النفسانية هي بقايا من عهد الأساطير والتوحش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفة والسخاء والحياء والرأفة والصدق فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه ، والسخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال وما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب وبسط يده لذل السؤال ، والحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه وإظهار ما في ضيمره ، والرأفة تضعف القلب ، والصدق لا يلائم الحياة اليومية ، وهذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذي ذكرناه .
ولم يدر هذا القائل أن هذه الفضائل في المجتمع الإنساني من الواجبات الضرورية التي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع ولا ساعة .
فلو ارتفعت هذه الخصال وتعدى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق والأموال والأعراض ، ولم يسخ أحد ببذل ما مست اليه حاجة المجتمع ، ولم ينفعل أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين ، ولم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال ومن في تلوهم ، وكذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به ويعده وهكذا تلاشى المجتمع الإنساني من حينه .


( 143 )

فينبغي لهذا القائل أن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل ولن ترتحل عن الدنيا وأن الطبيعة الإنسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع ، وإنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات وتعديلها بحث توافق غرض الطبيعة والخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة ، ولو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقي اليوم فضائل للإنسانية معدلة بما هو الحري من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد والهلكة ولأقر الناس في مستقر أمن وراحة وسعادة .
ولنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول : الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي ، فأحل النكاح وحرم الزنا والسفاح ، ووضع علقة الزوجية على أساس جواز المفارقة وهو الطلاق ، ووضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما سنشرحه ، ووضع عقد هذا المجتمع على أساس التوالد والتربية ، ومن الأحاديث النبوية المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم : تناكحوا تناسوا تكثروا ( الحديث ) .


ـ 2 ـ
استيلاء الذكور على الاناث

ثم إن التأمل في سفاد الحيوانات يعطي أن للذكور منها شائبة الاستيلاد على الاناث في هذا الباب ، فإنا نرى أن الذكر منها كأنه يرى نفسه مالكاً للبضع مسلطاً على الأنثى ، ولذلك ما ترى أن الفحولة منها تتنازع وتتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الأنثى على مثلها إذا مال اليها الذكر بخلاف العكس ، وكذا ما يجري بينها مجرى الخطبة في الإنسان إنما يبدأ من ناحية الذكران دون الاناث ، وليس إلا أنها ترى بالغريزة بأن الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي والإناث كالقابل الخاضع ، وهذا المعنى غير ما


( 144 )

يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل اليه نفسها ويستلذه طبعها فإن ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق والشهوة واستزادة اللذة ، وأما نحو الإستيلاء والاستعلاء المذكور فإنه عائد إلى قوة الفحولة وإجراء ما تأمر به الطبيعة .
وهذا المعنى أعني لزوم الشدة واليأس لقبيل الذكور واللين والانفعال لقبيل الإناث مما يوجب الاعتقاد به قليلاً أو كثيراً عند جميع الأمم حتى سرى إلى مختلف اللغات فسمى كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر ، وكل لين سهل الانفعال بالانثى يقال : حديد ذكر وسيف ذكر ونبت ذكر ومكان ذكر وهكذا .
وهذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة والأمم المتنوعة في الجملة وإن كان ربما لم يخل من الإختلاف زيادة ونقيصة .
وقد اعتبره الإسلام في تشريعه قال تعالى : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ) (1) .
فشرع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها .


ـ 3 ـ
تعدد الزوجات

وأمر الوحدة والتعدد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحد الأناث وتختص بالذكور لما أن الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل وحضانة الأفراخ وتربيتها وربما تغير الوضع الجاري بينها بالصناعة والتدبير والكفالة أعني بالتأهل والتربية
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 34 .
( 145 )

كما يشاهد من أمر الديك والدجاج والحمام ونحوها .
وأما الإنسان فاتخاذ الزوجات المتعددة كانت سنة جارية في غالب الامم القديمة كمصر والهند والصين والفرس بل الروم واليونان ، فإنهم كانوا ربما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها بل وكان ذلك عند بعض الامم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود والعرب فكان الرجل منهم ربما تزوج العشرة والعشرين وأزيد ، وقد ذكروا أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء .
وأغلب ما كان يقع تعدد الزوجات إنما هو في القبائل ، ومن يحذو حذوهم من سكان القرى والجبال فإن لرب البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع وكثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم وليكون ذلك وسيلة يتوسلون بها إلى الترؤس والسؤدد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثر الأقرباء بالمصاهرة .
وما ذكره بعض العلماء أن العامل في تعدد الزوجات في القبائل وأهل القرى إنما هو كثرة المشاغل والأعمال فيهم كأعمال الحمل والنقل والرعي والزراعة والسقاية والصيد والطبخ والنسج وغير ذلك فهو وإن كان حقاً في الجملة إلا أن التأمل في صفاتهم الروحية يعطي أن هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمية عندهم ، وما ذكرناه هو الذي يتعلق به قصد الإنسان البدوي أولاً وبالذات كما أن شيوع الادعاء والتبني أيضاً بينهم سابقاً كان من فروع هذا الغرض .
على أنه كان في هذه الأمم عامل أساسي آخر لتداول تعدد الزوجات بينهم وهو زيادة عدد النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإن هذه الأمم


( 146 )

السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب والغزوات وقتل الفتك والغيلة فكان القتل يفني الرجال ، ويزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلا بتعدد الزوجات . هذا .
والإسلام شرع الازدواج بواحدة ، وأنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكن من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهة إلى التعدد على ما سنشير إليها قال تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) (1) .
وقد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات :
أولاً : أنه يضع آثاراً سيئة في المجتمع فإنه يقرع قلوب النساء في عواطفهن ويخيب أمالهن ويسكن فورة الحب في قلوبهن فينعكس حس الحب إلى حس الانتقام فيهملن أمر البيت ويتثاقلن في تربية الأولاد ، ويقابلن الرجل بمثل ما أساؤوا اليهن فيشيع الزنا والسفاح الخيانة في المال والعرض ، فلا يلبث المجتمع دون أن ينحط في أقرب وقت .
وثانياً : ان التعدد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإن الإحصاء في الأمم والإجيال يفيد أن قبيلي الذكورة والإناث متساويان عدداً تقريباً فالذي هيأته الطبيعة هو واحدة لواحد ، وخلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة .
وثالثاً : أن في تشريع تعدد الزوجات ترغيباً للرجال إلى الشره والشهوة وتقوية لهذه القدرة في المجتمع .
ورابعاً : أن في لك حطاً لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهن بواحد من الرجال ، وهو تقويم جائر حتى بالنظر إلى مذاق الإسلام الذي سوي فيه بين امرأتين ورجل كما في الارث والشهادة وغيرهما ، ولازمه
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 228 .
( 147 )

تجويز التزوج باثنتين منهن لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أي حال من غير وجه ، وهذه الإشكالات مما اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال والنساء في المجتمع .
والجواب عن الأول ما تقدم غير مرة في المباحث المتقدمة أن الاسلام وضع بنية المجتمع الإنساني على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فالمتبع عنده هو الصلاح العقلي في السنن الإجتماعية دون ما تهواه الإحساسات وتنجذب إليه العواطف .
وليس في ذلك إماتة العواطف والإحساسات الرقيقة وإبطال حكم المواهب الإلهية والغرائز الطبيعية فإن من المسلم في الأبحاث النفسية أن الصفات الروحية والعواطف والإحساسات الباطنة تختلف كما وكيفا باختلاف التربية والعادة كما أن كثيراً من الآداب والرسوم الممدوحة عند الشرقيين مذمومة عند الغربيين ، وبالعكس ، وكل أمة تختلف مع غيرها في بعض الأمور .
والتربية الدينية في الإسلام تقيم المرأة الإسلامية مقاماً لا تتألم بأمثال ذلك عواطفها . نعم المرأة الغربية حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة ولقنت بذلك جيلاً بعد جيل استحكم في روحها عاطفة نفسانية تضاد التعدد ، ومن الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الذي شاعت بين الرجال والنساء في الأمم المتمدنة اليوم .
أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل من هووها ، وهوتهم من نسائهم من محارم وغيرها ، ومن بكر أو ثيب ، ومن ذات بعل أو غيرها ، حتى أن الإنسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء


( 148 )

في ذلك الرجال والنساء ولم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعا قل ما يسلم منه فرد حتى بلغ الأمر مبلغاً رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط ( سنة قانونية ) وذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية ، وأما النساء وخاصة الأبكار وغير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهن أغرب وأفظع . فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك ولا يتحرجن ولا تنكسر قلوبهن ولا تتألم عواطفهن حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن ؟ وكيف لا تتألم عواطف الرجال وإحساساته حين يبني بفتاة ثم يجدها ثيباً فقدت بكارتها وافترشت لا للواحد والاثنين من الرجال ثم لا يلبث حتى يتباهى بين الأقران ان سيدته ممن جذبت الرجال إلى نفسها وتنافس عليها العشرات والمئات !! .
إن هذه السيئات تكررت بينهم ونزعة الحرية تمكنت من أنفسهم حتى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف والإحساسات ولا تستنكرها النفوس ؟ فليس إلا أن السنن الجارية تميل العواطف الإحساسات إلى ما يوافقها ولا يخالفها .
وأما ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهن في تدبير البيت وتثاقلهن في تربية الأولاد وشيوع الزنا والخيانة فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإن هذا الحكم جرى في صدر الإسلام وليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس .
على أن هذه النساء اللاتي يتزوج بهن على الزوجة الأولى في المجتمع الإسلامي وسائر المجتمعات التي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية والثالثة والرابعة إنما يتزوج بهن عن رضاء ورغبة منهن وهن من نساء هذه المجتمعات ، ولم يسترققهن الرجال من مجتمعات اخرى ، ولا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا وإنما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية ،


( 149 )

فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدد الزوجات ، ولا قلوبهن تتألم منها بل لو كان شيء من ذلك فهو من لوازم وعوارض الزوجية الأولى أعني أن المرأة إذا توحدت للرجل لا تحب أن ترد عليها وعلى بيتها اخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد ونحو ذلك فعدم الرضا والتألم فيما كان إنما منشأه حالة عرضية ( التوحد بالبعل ) لا غريزة طبيعية .
والجواب عن الثاني أن الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال والنساء في العدد مختل من وجوه .
منها أن أمر الازدواج لا يتكي على هذا الذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل وشرائط اخرى لهذا الأمر فأولاً الرشد الفكري والتهيؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء وخاصة في المناطق الحارة إذاجزن التسع صلحن للنكاح ، والرجال لا يتهيؤون لذلك غالباً قبل الست عشرة من السنين ( وهو الذي اعتبره الإسلام للنكاح ) .
ومن الدليل على ذلك السنة الجارية في فتيات الامم المتمدنة ، فمن الشاذ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سن البلوغ القانوني فليس إلا أن الطبيعة هيأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك .
ولازم هذه الخاصة أن لو اعتبرنا مواليد ست عشرة سنة من قوم ( والفرض تساوي عدد الذكورة والإناث فيهم ) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال وهي سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة وهم مواليد السنة الأولى المفروضة ، والصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين وهي مواليد السنة الأولى إلى السابعة ، ولو اعتبرنا مواليد خمسة وعشرين سنة وهي سن بلوغ الأشد من الرجال حصل في السنة الخامسة


( 150 )

والعشرين على الصلوح في الرجال مواليد عشرة سنين ، ومن النساء مواليد خمس عشرة سنة ، وإذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة .
وثانياً : أن الإحصاء كما ذكروه يبين أن النساء أطول عمراً من الرجال ، ولازمه أن تهيئ سنة الوفاة والموت عدداً من النساء ليس بحذائهن رجال .
ومما يؤيد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيام ( جريدة الإطلاعات المنتشرة في طهران المؤرخة بالثلاثاء 11 ديماه سنة 1335 هـ ش ) حكاية عن دائرة الاحصاء في فرنسا ما حاصله : قد تحصل بحسب الاحصاء أنه يولد في فرنسا حذاء كل ( 100 ) مولودة من البنات ( 105 ) من البنين ، ومع ذلك فإن الإناث يربو عدتهن على عدة الذكور بما يعادل ( 1765000 ) نسمة ونفوس المملكة ( 40 مليوناً ) والسبب فيه أن البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض ويهلك بها « 5% » الزائد منهم إلى سنة « 19 » من الولادة .
ثم يأخذ عدة الذكور في النقص ما بين 25 ـ 30 من السنين حتى إذا بلغوا سني 60 ـ 65 لم يبق تجاه ( 1500000 ) من الاناث إلا ( 750000 ) من الذكور .
وثالثاً : أن خاصة النسل والتوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء ، فالأغلب على النساء ان يئسن من الحمل في سن الخمسين ويمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك ، وربما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي وهي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجل للتوليد وهو ثمانون سنة تقريباً ضعفه في المرأة وهو أربعون تقريباً ، وإذا ضم هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أن الطبيعة والخلقة أباح للرجال التعدي من الزوجة


( 151 )

الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوة التوليد والمنع عن الاستيلاد من محل شأنه ذلك فإن ذلك مما تأباه سنة العلل والأسباب الجارية .
ورابعاً : أن الحوادث المبيدة لأفراد المجتمع من الحروب والمقاتل وغيرهما تحل بالرجال وتفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدم أنه كان أقوى العوامل لشيوع تعدد الزوجات في القبائل ، فهذه الأرامل والنساء العزل لا محيص لهن عن قبول التعدد أو الزنا أو خيبة القوة المودعة في طبائعهن وبطلانها .
ومما يتأيد به هذه الحقيقة ما وقع في المانيا الغربية قبل عدة شهور من كتابة هذه الأوراق : أظهرت جمعية النساء العزل تحرجها من فقدان البعولة وسألت الحكومة أن يسمح لهن بسن تشريع تعدد الزوجات الاسلامية حتى يتزوج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة ويرتفع بذلك غائلة الحرمان ، غير أن الحكومة لم تجبهن في ذلك وامتنعت الكنيسة من قبوله ورضيت بفشو الزنا وشيوعه وفساد النسل به .
ومنها أن الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال والنساء في العدد مع الغض عما تقدم إنما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكن الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك ولا يسع ذلك بالطبع إلا لبعضهم دون جميعهم ، والاسلام لم يشرع تعدد الزوجات بنحو الفرض والوجوب على الرجال بل إنما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم ، ومن أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجاً ولا فساداً أن سير هذه السنة بين المسلمين ، وكذا بين سائر الاٌمم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجاً من قحط النساء وإعوازهن على الرجال ، بل بالعكس من ذلك أعد تحريم التعدد في البلاد التي فيها ذلك ألوفاً من النساء حرمن الأزواج والاجتماع المنزلي ( الأسرة )


( 152 )

واكتفين بالزنا .
ومنها أن الاستدلال المذكور مع الإغماض عن ما سبق إنما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم ولم يعدل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهمة فقد شرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف وفي القسم والفراش وفرض عليهم نفقتهن ثم نفقة أولادهن ولا يتيسر الإنفاق على أربع نسوة مثلاً ومن يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك إلا لبعض أولى الطول والسعة من الناس لا لجميعهم .
على أن هناك طرقاً دينية شرعية يمكن أن تستريح اليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها والاغماض عن التكثير .
والجواب عن الثالث : أنه مبني على عدم التدبر في نحو التربية الإسلامية ، ومقاصد هذه الشريعة فإن التربية الدينية للنساء في المجتمع الإسلامي الذي يرتضيه الدين بالستر والعفاف والحياء وعدم الخرق تنمي المرأة وشهوة النكاح فيها أقل منها في الرجال ( على الرغم مما شاع أن شهوة النكاح فيها أزيد وأكثر واستدل عليه بتولعها المفرط بالزينة والجمال طبعاً ) وهذا أمر لا يكاد يشك فيه رجال المسلمين ممن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية فشهوة النكاح في المتوسط من الرجال تعادل ما في أكثر من أمرأة واحدة بل والمرأتين والثلاث .
ومن جهة اخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع ومشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل ولا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدي إلى الفجور والفحشاء والمرأة الواحدة ربما اعتذرت فيما يقرب من ثلث أوقات المعاشرة والمصاحبة كأيام العادة


( 53 )

وبعض أيام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك ، والإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم ما تكرر منا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أن الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فبقاء الإنسان على حالة الإحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء والخواطر السوء كحال التعزب ونحوه من أعظم المخاطر في نظر الإسلام .
ومن جهة اخرى من أهم المقاصد عند الشارع الإسلام تكثر نسل المسلمين وعمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك والفساد .
فهذه الجهات وأمثالها هي التي اهتم بها الإسلام في تشريع تعدد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة وترغيب الناس إلى الانكباب عليها ولو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الإجتماعية المعروفة بين هؤلاء البانين للإجتماع على أساس التمتع المادي أولى بالرمي بترويج الفحشاء والترغيب إلى الشره من الإسلام الباني لإجتماع على أساس السعادة الدينية .
على أن في تجويز تعدد الزوجات تسكيناً لثورة الحرص التي هي من لوازم الحرمان فكل محروم حريص ، ولا هم للممنوع المحبوس إلا أن يهتك حجاب المنع والحبس ، فالمسلم وإن كان ذا زوجة واحدة فإنه على سكن وطيب نفس من أنه ليس بممنوع عن التوسع في قضاء شهوته لو تحرجت نفسه يوماً إليه ، وهذا نوع تسكين لطيش النفس ، وإحصان لها عن الميل إلى الفحشاء وهتك الأعراض المحرمة .
وقد أنصف بعض الباحثين من الغربيين حيث قال : لم يعمل في إشاعة الزنا والفحشاء بين الملل المسيحية عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدد


( 154 )
الزوجات .
والجواب عن الرابع أنه ممنوع فقد بينا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق المرأة في الإسلام : أنه لم يحترم النساء ولم يراع حقوقهن كل المراعاة أي سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهن الاسلام وسنزيد في ذلك وضوحاً .
وأما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبني على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعي وإماتة حقوقهن والاستخفاف بموقفهن في الحياة وإنما هو مبني على جهات من المصالح تقدم بيان بعضها .
وقد اعترف بحسن هذا التشريع الإسلامي ، وما في منعه من الفاسد الاجتماعية والمحاذير الحيوية جمع من باحثي الغرب من الرجال والنساء مَن أراده فليراجع إلى مظانه .
وأقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب وزوقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة :
ضرتان أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة لا تلبث الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى انهم سموا الحسد بداء الضرائر ، وعندئذ تنقلب جميع العواطف والإحساسات الرقيقة التي جلبت عليها النساء من الحب ولين الجانب والرقة والرأفة والشفقة والنصح وحفظ الغيب والوفاء والمودة والرحمة والإخلاص بالنسبة إلى الزوج وأولاده من غير الزوجة وبيته ، وجميع ما يتعلق به إلى أضدادها ، فينقلب البيت الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي وتألم الروح والجسم من مشاق الأعمال


( 155 )

والجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه ، لا يؤمن فيه من شيء لشيء ، ويتكدر فيه صفو العيش وترتحل لذة الحياة ، ويحل محلها الضرب والشتم والسب واللعن والسعاية والنميمة والرقابة والمكر والمكيدة ، واختلاف الأولاد وتشاجرهم وربما انجر الأمر إلى هم الزوجة باهلاك الزوج وقتل بعض الأولاد بعضاً أو آبائهم ، وتتبدل القرابة بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت ، أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء وفساد الأخلاق والقسوة والظلم والبغي والفحشاء وانسلاب الأمن والوثوق وخاصة إذا اُضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدد الزوجات والطلاق ينشئان في المجتمع رجالاً ذواقين مترفين لا هم لهم إلا اتباع الشهوات والحرص والتولع على أخذ هذه وترك تلك ، ورفع واحدة ووضع اخرى ، وليس فيه إلا تضييع نصف المجتمع وإشقاؤه وهو قبيل النساء ، وبذلك يفسد النصف الآخر .
هذا محصل ما ذكروه ، وهو حق غير أنه إنما يرد على المسلمين لا على الإسلام وتعاليمه ، ومتى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته اليهم تعاليم الاسلام حتى يؤخذ الإسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم ؟ وقد فقدوا منذُ قرون الحكومة الصالحة التي تُربي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار التي أسدلها الدين ونقض قوانينه وإبطال حدوده هي طبقة الحكام والولاة على المسلمين ، والناس على دين ملوكهم ، ولو اشتغلنا بقص بعض السير الجارية في بيوت الملوك والفضائح التي كان يأتي بها ملوك الإسلام وولاته منذ أن تبدلت الحكومة الدينية بالملك والسلطنة المستبدة لجاء بحياله تأليفاً مستقلاً ، وبالجملة لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمن سعادة


( 156 )

عيشتهم ونحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط .
والذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء ، والأولاد وإن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم ، وذلك أن سيرة هؤلاء الرجال وتفديتهم سعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم وصفاء جو مجتمعهم في سبيل شرههم وجهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد والمنبت لكل هذه الشقوة المبيدة .
أما الاسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الايجاب والفرض على كل رجل ، وإنما نظر في طبيعة الأفراد وما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة ، واعتبر الصلاح القاطع في ذلك ( كما مر تفصيله ) ثم استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره واحصاها فأباح عند ذلك التعدد حفظاً لمصلحة المجتمع الإنساني ، وقيده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة وهو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن ويعدل فمن وثق من نفسه بذلك ووفق له فهو الذي أباح له الدين تعدد الزوجات وأما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم ولا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم وفروجهم ، ولا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذته ، فلا شأن للإسلام فيهم ، ولا يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه .
على أن في أصل الإشكال خلطاً بين جهتين مفرقتين في الاسلام ، وهما جهتا التشريع والولاية .
توضيح ذلك أن المدار في القضاء بالصلاح والفساد في القوانين الموضوعة والسنن الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار والنتائج المرضية أو غير المرضية الحاصلة من جريانها في الجوامع وقبول الجوامع لها بفعليتها


( 157 )

الموجودة وعدم قبولها ، وما أظن أنهم على غفلة من أن المجتمع ربما اشتمل على بعض سنن وعادات عوارض لا تلائم الحكم بالمبحوث عنه وأنه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافي الحكم أو السنة المذكورة حتى يرى إلى ما يصير أمره ؟ وماذا يبقى من الأثر خيراً أو شراً أو نفعاً أو ضراً ؟ إلا أنهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده ويستدعيه المجتمع بحاضر إرادته وظاهر فكرته كيفما كان ، فما وافق إرادتهم ومستدعياتهم فهو القانون الصالح وما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح .
ولذلك لما رأوا المسلمين تائهين في أودية الغي فاسدين في معاشهم ومعادهم نسبوا ما يشاهدونه منه من الكذب والخيانة والخنى وهضم الحقوق وفشو البغي وفساد البيوت واختلال الإجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم زعماً منهم أن السنة الإسلامية في جريانها بين الناس وتأثيرها أثرها كسائر السنن الإجتماعية التي تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم ويستنتجون من ذلك أن الإسلام هو المولد لهذه المفاسد الإجتماعية ومنه ينشأ هذا البغي والفساد ( وفيهم أبغى البغي وأخنى الخنى ، وكل الصيد في جوف الفراء ) ولو كان ديناً واقعياً ، وكانت القوانين الموضوعة فيه جيدة متضمنة لصلاح الناس وسعادتهم لأثرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة ، ولم ينقلب وبالاً عليهم .
ولكنهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة ، وبين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة ، والاسلام مجموع معارف أصلية وأخلاقية وقوانين عملية متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء ، إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع وانحرافها في التأثير كالأدوية والمعاجين المركبة التي تحتاج في تأثيرها الصحي إلى سلامة أجزائها وإلى محل معد مهيأ لورودها وعملها ، ولو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط


( 158 )

الاستعمال بطل عنها وصف التأثير ، وربما أثرت ما يضاد أثرها المترقب منها .
هب أن السنة الإسلامية لم تقو على إصلاح الناس ومحق الذمائم والرذائل العامة لضعف مبانيها التقنينية فما بال السنة الديمقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في البلاد الأوروبية ؟ وما بالنا كلما أمعنا في السير والكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى ولا يشك شاك أن الذمائم والرذائل اليوم أشد تصلباً وتعرقاً فينا ونحن مدنيون متنورون منها قبل نصف قرن ونحن همجيون وليس لنا حظ في العدل الاجتماعي وحياة الحقوق البشرية والمعارف العامة العالية وكل سعادة اجتماعية إلا أسماء نسميها وألفاظاً نسمعها .
فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلا بأن هذه السنن المرضية إنما لم تؤثر أثرها لأنكم لا تعملون بها ، ولاتهتمون باجرائها فما بال هذا العذر يجري فيها وينجع ولا يجري في الاسلام ولا ينجع ؟
وهب أن الإسلام لوهن أساسها ( والعياذ بالله ) عجز عن التمكن في قلوب الناس والنفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته ولم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلامي فلم يلبث دون أن عاد مهجوراً فما بال السنة الديمقراطية وكانت سنة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى عن روسيا وانمحت آثارها وخلقتها السنة الشيوعية ؟ وما بالها انقلبت إلى السنة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى الثانية في ممالك الصين ولتوني واستوني وليتواني ورومانيا والمجر ويوغسلافيا وغيرها ، وهي تهدد سائر الممالك ، وقد نفذت فيها نفوذاً .
وما بال السنة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة ،


( 159 )

وانبسطت وحكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنساني ، ولم يزل دعاتها وأوليائها يتباهون في فضيلتها أنها المشرعة الصافية الوحيدة التي لا يشوبها تحكم الاستبداد ولا استثمار الديمقراطية ، وان البلاد التي تعرقت فيها هي الجنة الوعودة ثم لم يلبث هؤلاء الدعاة والأولياء انفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدهم الوحيد ( ستالين ) الذي كان يتولى إمامتها وقيادتها منذ ثلاثين سنة ، وأوضحوا أن حكومته كانت حكومة تحكم واستبداد واستعباد في صورة الشيوعية ، ولا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة وإجرائها وسائر ما يتعلق بذلك فلم ينتش شيء من ذلك إلا عن إرادة مستبدة مستعبدة وحكومة فردية تحيي ألوفاً وتميت ألوفاً وتسعد أقواماً وتشقي آخرين ، والله يعلم من الذي يأتي بعد هؤلاء ويقضي عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم .
والسنن والآداب والرسوم الدائرة في المجتمعات ( أعم من الصحيحة والفاسدة ) ثم المرتحلة عنها لعوامل متفرقة أقواها خيانة أولياؤها وضعف إرادة الأفراد المستنين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ .
فليت شعري ما الفرق بين الاسلام من حيث إنها سنة إجتماعية وبين هذه السنن المتقلبة المتبدلة حيث يقبل العذر فيها ولا يقبل في الإسلام ؟ نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية وجهالة تقليد شرقية فلا سماء تظلها ولا أرض تقلها وعلى أي حال يجب أن يتنبه مما فصلناه أن تأثير سنة من السنن أثرها في الناس وعدمه وكذا بقاؤها بين الناس وارتحالها لا يرتبط كل الارتباط بصحتها وفسادها حتى يستدل عليه بذلك بل لسائر العلل والاسباب تأثير في ذلك فما من سنة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار والعهود إلا وهي تنتج يوماً وتعقم آخر وتقيم بين الناس برهة من الزمان وترتحل عنهم في اخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها ، وتلك الأيام


( 160 )

نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء .
وبالجملة القوانين الاسلامية والأحكام التي فيها ، تخالف بحسب المبنى والمشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس فإن القوانين الاجتماعية التي لهم تختلف باختلاف الأعصار وتتبدل بتبدل المصالح لكن القوانين الاسلامية لا تحتمل الاختلاف والتبدل من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه أو مباح غير أن الأفعال التي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها وكل تصرف له أن يتصرف به أو يدعه فلولي الأمر أن يأمر الناس بها أو يناهم عنها ويتصرف في ذلك كأن المجتمع فرد والوالي نفسه المتفكرة المريدة .
فلو كان للإسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم تعدد الزوجات وغير ذلك من غير أن يتغير الحكم الإلهي بإباحته ، وإنما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لأنه حكم إباحي له أن يعزم على تركه .