37/06/06


تحمیل

الموضوع:- الولاية للجائر – مسألة ( 36 ) – المكاسب المحرمة.

وأمّا ما أفيد في الوجه الثاني - من لزوم الحرج على الوالي الذي فرضناه مكرهاً لو لم يجز له حبس الآخرين أو غير ذلك - فيردّه:- إن الالزام بالضرر المتوجه إلى الشخص لا يعدّ حرجاً لأنه ضرر متوجه إليه فلابد أن يتحمله هو والإلزام بتحمله لا يعدّ حرجاً ، والمفروض في المقام أنّ السلطان قد ألزم الوالي بالولاية وهدده بالحبس إن لم ينفّذ أوامره من حبس هذا أو ضرب ذاك وهذا يعني أنّ ضرر الحبس قد توجّه إلى نفس الوالي فإذا أراد الشارع أن يقول له لابد وأن تتحمّل هذا الضرر الذي توجّه إليك من قبل الظالم ولا توجهه إلى الآخرين في سبيل أن تدفعه عن نفسك لا يعدّ هذا حرجاً فإنه ضرر قد توجّه إليه ، نعم لم يقل السلطان بشكلٍ مباشري للوالي إني سوف أحبسك إن لم تضرب فلان أو تأخذ ماله أو غير ذلك ، فالسلطان لم يوجّه الضرر إلى الوالي مباشرة وفي المرحلة الأولى بل قال له اضرب فلاناً فإن لم تفعل فسوف أحبسك فالضرر كأنه توجه ابتداءً إلى الغير وليس إلى نفس الوالي ، فلو كان الضرر متوجهاً إلى الوالي ابتداءً فالكلام الذي ذكرناه يكون وجيهاً.

هذا ما قد يخطر إلى الذهن فيقال إنَّ الضرر ابتداءً هو قد توجه إلى الوالي ويصير ذلك كمثال السيل المتوجه إلى شخصٍ بعينه ، ولكن المفروض أنّ الضرر لم يتوجه ابتداءً إلى الوالي حتى نقول إنَّ الإلزام بأن يتحمّله ليس حرجاً ، وإنما توجه إلى الغير ابتداءً.

وجوابه:-

أوّلاً:- إن هذا لا يغيّر في الحساب شيئاً ، إذ بالتالي الوالي حينما يفعل ذلك فهو يفعله بإرادته ومجرّد أن طلب السلطان نمه ذلك أوّلاً لا يعني أن الضرر قد توجه إليه وإنما توجه إلى الغير فقط ، بل الضرر توجه إليه أيضاً ولكنه يريد أن يدفعه عن نفسه باختياره وذلك بتوجيهه إلى الغير ، إنّ الإلزام بأن يتحمّل هذا الضرر نفس الوالي لا يعدّ حرجاً ، والقضية وجدانية والعقلاء ببابك ، فلو فرضنا أن المحافظ مثلاً قال لي إني مجبر على ضربك أو أخذ مالك وإن لم أفعل ذلك فسوف أعاقب بالحبس مثلاً ، فنقول له:- فلتدخل أنت الحبس ، وإذا قال:- أنا سوف أقع في حرج ، فسوف نقول له:- أي حرجٍ هذا !! فلماذا تريد أن تدفع الضرر عن نفسك باختيارك وتوجهه لي فإنّ هذا المورد ليس حرجاً عليك.

إذن نحن نمنع من صدق الحرج في المقام حتى يتمسّك بقاعدة نفي الحرج بعدما فرض أنّ الضرر متوجه إلى الوالي أيضاً لا أنه متوجه إلى الغير فقط والوالي يريد أن يدفعه عن نفسه بتوجيهه إلى الغير والإلزام بأن يتحمله الوالي لا يعدّ حرجاً.

ثانياً:- ولو تنزّلنا وقلنا إن الحرج صادقٌ فنقول:- إنه كما يصدق الحرج من هذا الجانب يصدق الحرج من ذاك الجانب أيضاً ، يعني أنَّ تجويز حبس الآخرين أو أخذ أموالهم هو حكم يستلزم الحرج على الآخرين وقاعدة نفي الحرج جاءت امتنانية على الأمة حيث قالت الآية الكريمة:- ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾[1] ، وليس من القضية العقلائية أن نرفع الحرج عن شخص ونوقع الآخر فيه.

وأما الوجه الثالث - وهو أن نفس حديث ( إنما شرعت التقية لحقن الدماء فإذا بلغ الدم فلا تقية )[2] هو يدل بنفسه على جواز غير الدم كالحبس والضرب - فيردّه:- إنّ الحديث المذكور له منطوق وله مفهوم ، ومنطوقه واضح وهو أنه في مورد الدم لم تشرّع التقية ، وإنما الكلام في المفهوم ، والمفهوم هو أنه في غير الدم قد شرّعت التقية ، وهذا المقدار نسلّم به ، ولكن هذا المفهوم له مصداقان ، مصداقٌ متيقّن وجزميّ ، ومصداقٌ يشكّ في شمول المفهوم له.

أمّا المصداق الجزمي:- فهو أن يفترض أن الأمر يدور بين أن أسجن أنا الوالي أو أن لا أسجن ، فالأمر يدور بين السجن وعدمه ، فإن قبلت الولاية فلا أُسجن وإن لم أقبلها فسوف أسجن - والسجن أخذناه هنا كمثال - ، فالأمر يدور بين الوجود والعدم ، وهذا فردٌ متيقّنٌ لمفهوم الحديث ، وفي مثل هذه الحالة يقول الحديث يجوز لك الولاية لأنّ التقية مشرّعة ، والمقصود من التقية هنا هو أن التقية قد تستعمل في المعنى العام وهو مورد الخوف وهذا خوفٌ فأنا أخاف من السلطان وظلمه فشرّعت التقية بمعنى أنه يجوز لك ذلك ، لا أنها بمعنى أن تكون في مقابل المذهب المخالف بل هذا أيضاً من مصاديق الخوف ، فهنا أيضاً مصداقٌ من مصاديق الخوف وحينئذٍ يأتي الحديث ويقول لي يجوز لك أن تقبل الولاية في سبيل أن لا تسجن أو لا تُضرَب وتنجو بنفسك ، وهذا مصداق متيقّن للمفهوم.

وأمّا المصداق المشكوك:- هو أن يفترض أن الأمر يدور بين سجنين أو ضربين ، فالسجن لابد منه ، ولكن يدور الأمر بين أن يسجن الوالي إذا لم يقبل الولاية أو لم ينفذ ما أمره به السلطان في حقّ الناس من ضرب هذا أو ذاك وما شاكل ذلك وبين سجن الغير ، فالأمر يدور بين سجنين لا بين السجن وعدمه رأساً ، فهل هذا مشمول للمفهوم ؟ وواضح أنه لو كان ثابتاً ومراداً فهو يكون من قبيل المفهوم لا من قبيل المنطوق ، لكن السؤال هو أنّ هذا الفرد هل يمكن الجزم بأنه داخل تحت المفهوم - لأنّ الشيخ الأنصاري(قده) أراد أن يدخله تحت المفهوم - ؟ إنه ليس داخلاً في المفهوم ، والمفهوم ينحصر بالأوّل.

أما كيف نقول إنَّ هذا ليس مصداقاً للمفهوم وليس داخلاً فيه ؟

والجواب:- ذلك لبيانين:-

البيان الأوّل:- شمول المفهوم لهذا شيء غير عقلائي ، فإنّ الله عزّ وجلّ ليس له قرابة مع أحدٍ حتى يرجّح سجن هذا على سجن ذاك ، فإنّ ترجيح أحد السجنين على الآخر بعد أن كان كلاهما اختيارياً شيء ليس بعقلائي كما في مسألة الدم ، فكما أنه في مسألة الدم إذا كانت إراقة الدم حتمية إمّا دمي أو دم ذاك فهنا التقيّة لم تشرع ، بمعنى أنه فليرق دمك ولا يجوز لك قتل الآخر لأنّ القتل هنا شيء حتميّ ولا تستطيع أن تطبّق التقية ، كذلك يأتي نفس الكلام في صورة السجن الحتمي ، فإذا كان السجن حتمياً فسواء اتقيت أنا أم لم أتقِ فالمؤمن لابد وأن يسجن ولكن إمّا أنا أو ذاك المؤمن فلا معنى لتشريع التقية في هذا المورد وهو ليس شيئاً عقلائياً ، فنحن نجزم بعدم شمول المفهوم لهذا المورد.

البيان الثاني:- إنه يكفي لإشباع حاجة المفهوم دخول المصداق الأوّل تحته ولا يتوقف على إدخال المصداق الثاني تحته أيضاً ، بمعنى أننا نشعر بثبوت مفهومٍ جزماً ، والمفهوم يتحقق ويصدق إذا قلنا بدخول المصداق الأوّل تحته ، ولا يتوقف على دخول المصداق الثاني تحته أيضاً ، فعلى هذا الأساس إنّ الذي يدّعي شمول المفهوم للمصداق الثاني هو الذي يحتاج إلى إقامة الدليل بعدما كانت حاجة المفهوم تتأتّى وتحصل وتُشبَع بالمصداق الأوّل.

وهذا نظير الحديث الشريف الذي يقول:- ( إذا بلغ الماء قدر كرٍّ فلا ينجّسه شيء ) ، فالمفهوم أنه يكفي لإشباع حاجة المفهوم أن نقول هكذا:- ( إذا لم يبلغ قدر الكرّ فيتنجّس في الجملة - لا بالجملة - ) يعني بنحو القضية الجزئية ، والمفهوم لا يتوقّف على أن يثبت بنحو القضيّة الكلّية كما لعلّه في بداية دراستنا كنّا نفهم ذلك بل لعلّ بعض الفقهاء فهم هكذا ، فهو يعني ( إذا لم يبلغ قدر الكرّ فينجسه كلّ شيء سواء كانت الأعيان النجسة أم المتنجّسات ) ، ولكن الصحيح هو أنّ المفهوم تكفي لإشباع حاجته ثبوته في الجملة ، والثبوت في الجملة يتحقّق بأن نقول:- ( إذا لم يبلغ قدر كرٍّ فيتنجس بالأعيان النجسة ) فإن هذا قطعيّ وجزميّ ن أما أنه يتنجّس بغير الأعيان النجسة فهذا هو الذي يحتاج إلى دليل.