36/11/20


تحمیل

الموضـوع:- مسألة ( 16 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

وفيه:- إنّ هذا مبنيّ على تفسير كلمة الحلال في المقدّمة الثانية في قولنا ( إنّ أمير المؤمنين لم يكن يكره الحلال )[1] أي مقابل الحرام ، فالنتيجة إذن تتمّ بناءً على هذا حيث إنّه إذا كان الإمام يكره الصور في البيوت فهذا ليس بحلالٍ بل هو حرام.

ولكن يحتمل أنّ يكون المقصود هو عبارة عن متساوي الطرفين - يعني المباح بالمعنى الأخصّ - فكراهة الإمام غابة ما تدلّ عليه هو أنّ هذا ليس من المباح المتساوي الطرفين أمّا أنّه حرامٌ فلا يثبت إذ لعلّه ليس بحرامٍ وإنما هو مكروهٌ بالكراهة الشرعيّة المصطلحة.

بل يمكن أن نصعّد اللهجة ونقول:- إنّ هذا ليس مجرّد احتمال بل هو مرادٌ جزماً ، فإنه لو أخذنا بتفسير الحلال بما يقابل الحرام فالنتيجة سوف تصير أنّ الإمام سوف يكره الحرام فقط ، يعني أنَّ المكروه بالكراهة المصطلحة لا يكرهه وهذا شيءٌ غير محتمل ، فإذن لابد من تفسر الحلال بالمتساوي الطرفين يعني المباح الذي تساوى طرفاه ، فالرواية إذن لا تنفعنا.

وقبل أن نختم الحديث عن هذه الأدلّة بقيت أمورٌ في المقام ، ولكن قبل الانتقال إليها نشير إلى قضيّة جانبيّة:- وهي أنّه في هذه الرواية الأخيرة لاحظنا أنّ الإمام عليه السلام يقول لأبي بصير حينما سأله عن استبدال قوصرتين فيهما بُسْرٌ مطبوخٌ بقوصرة فيها تمر مشقّق - مشقح - والإمام قال ( هذا مكروه ) وأبو بصير عاود السؤال فقال ( ولِــمَ يُكره ؟ ) ، هذا شيء.

والشيء الثاني هو أنّنا نقرأ في رواية تبيّن أحوال عبد الله بن أبي يعفور فإنّه كان عند الإمام[2] [3] في يومٍ من الأيام وكانت بيد ابن أبي يعفور رمّانة فقال سيدي لو قسمت أنت هذه الرمّانة إلى نصفين بشكلٍ متساوٍ وقلت لي هذا النصف حلال وذاك النصف حرم فأنا أيضاً أقول كما تقول ولا أعترِض على ذلك وأقول لماذا صار هذا النصف حلالاً وذاك صار حراماً والامام عليه السلام ترحّم عليه مرّتين وقال:- ( رحمك الله رحمك الله ).

فهذا مسلكٌ ، ومسلك أبو بصير مسلكٌ آخر ، فأيهما نتبعه ؟ وواضح أنّ هذا نقوله بعد أن ثبت عندنا سنداً وهو حكم مسلّمٌ وليس ضعيفاً.

ففي مثل هذه هل نخضع بالكامل أو نسأل ونقول لــِمَ ذلك ؟

الجواب:- الصحيح هو الخضوع الكامل من دون اعتراض ، ولا أريد الآن نقد أبو بصير بل هو أراد أن يعرف طريقة الاستنباط ولم يكن معترضاً ، ولكن المقصود هو أنّ القرآن الكريم أو النبي صلى الله عليه وآله أو الامام عليه السلام إذا أراد شيئاً فلابد وأن نخضع خضوعاً كاملاً.

ولا تقل:- إنّ هذا عين الدكتاتوريّة ؟

إذ نقول:- إذا كان الطرف عالما بكلّ شيءٍ ، وحكيماً - يعني لا يفعل إلّا على طبق المصلحة الثابتة عنده - ، وهو أيضاً لا يُخطئ ولا يشتبه ولا غير ذلك فبناءً على هذا لماذا أناقشه ؟!! كلّا بل أطبّق ما طلبه من دون مناقشةٍ ، ومناقشته تعني أنّك تشكّك في واحدةٍ من هذه المقدّمات ، ومفهوم لتسليم هو الاخبات الخضوع لكلّ ما جاء به الإسلام والنبي أهل بيته عليهم السلام ، وهو من المفاهيم المهمّة التي يلزم أن نلتفت إليها ونربي أنفسنا على ذلك فإنّ القران الكريم يؤكد هذه القضيّة وكذلك السنّة

أما القرآن الكريم:- فتوجد آيات كريمة متعدّدة:-

منها:- قوله تعالى:- ﴿ الم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب .... ﴾[4] ، فمن أوّل صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب ، يعني يؤمنون بالشيء الغائب عنهم ولا يعرفونه ولكن أخبر به الله عزّ وجلّ أو النبي صلى الله عليه وآله.

ومنها:- قوله تعالى:- ﴿ فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً ، وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾[5] .

ومنها:- قوله تعالى:- ﴿ إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما ﴾[6] ، وتفسير ( وسلموا تسليما ) أي الخضوع الكامل.

ويمكن ملاحظة آياتٍ أخرى تدلّ على ذلك.

وأمّا السنة الشريفة:- فالشيخ الكليني(قده) يعقد في الكافي باباً باسم ( باب التسليم وفضل المسلّمين ) ننقل منه روايةً واحدة:-

وهي صحيحة - أو موثقة - الكاهلي:- ( قال:- قال أبو عبد الله عبد الله عليه السلام:- لو أنّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجّوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله أَلا صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين ، ثم تلى هذه الآية " فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مّما قضيت ويسلّموا تسليما " ، ثم قال أبو عبد الله السلام:- عليكم بالتسليم )[7] .

وقد قرأت كتباً متعدّدة للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(قده) منها كتابي جنة المأوى والفردوس الأعلى وغيرهما فأنّه كان يُسأل مثلاً عن الرجل لماذا يجوز له أن يتزوّج بأربع نساء ؟ ولماذا لم يكن حقّ الطلاق بيد المرأة ؟ وهو(قده) يبيّن بعض النكات ، وهي نكاتٌ جيّدة ، ولكنه لم يسلّط الأضواء على مفهوم التسليم.

وأنا اعتقد أنّ الجواب الصحيح هو بيان مفهوم التسليم فإنّ هذا حكمٌ إلهيٌّ ، فسواء عرفنا الحكمة أو بم نعرفها فهذا غير مهمّ ، ومَن قال أنّ هذه النكات صحيحة ، فلعلها تُنقض من قِبل الطرف الآخر وحينئذٍ لا تنتهي هذه المسألة.

إذن لابد وأن نبيّن مفهوم التسليم أوّلاً ويكون هو الجواب الأساسي ، ثم نبيّن له بعض النكات فتكون على الهامش.

فإذا كان طرفنا يريد أن يشكل فننظر هل هو مسلم أو لا فإن لم يكن مسلماً وسألنا عن تعدّد الزوجات مثلاً فلابد وأن يصير نقاشنا في أصل الإسلام ولا نناقش معه في هذا الشيء.

وكما قلت سابقاً في مناقشاتنا مع المخالفين لمذهبنا فإنّه لابد وأن نذهب إلى الأساس وهو أن النبي صلى الله عليه وآله هل ترك الناس هكذا من دون أو يفعل شيئاً أو لا ؟ ولا نناقش في أمورٍ أخرى مثل المتعة وغيرها من تلك الأمور ، فهم قد يفرّون من ذاك ويحوّلون النقاش إلى هذا وحينئذٍ لا تنتهي هذه المناقشة.

فلو كان المناقش مسلماً فلا معنى لاعتراضه هذا . نعم إذا أردت السؤال والاستفهام فهذا لا بأس به ولكن لا يكون على مستوى إبراز التشكيك . ومن كان مسلّماً للنبيّ صلى الله عليه وآله فلابد وأن يسلّم بجميع ما جاء ، وإن شكّكت فهذا معناه أنّك لم تسلّم بكلّ ما جاء به ، يعني أنَّ اسلامك فيه تأمّل.

فمفهوم التسليم لابد وأن نبيّه للناس ونمثّل لهم ببعض الأمثلة:-

من قبيل أنّ نقول:- لو دخلنا إلى مشروعٍ كبيرٍ ودخل المهندسون ورأوه دقيقاً من كلّ النواحي ولكن توجد فيه قضيّة لم يعرفوا نكتتها فهل يقولوا بأن من أنشأه لا يفهم أو يقولون إنّ هناك حكمة نحن لا نعرفها ؟! المناسب أن يقولوا أنَّ هناك نكتة وحكمة نحن لا نعرفها لا أنهم يقولون هو لا يفهم لأنّهم يعترفون بأنّ هذا الشخص دقيقٌ وأفهم منهم جميعاً.

وهكذا الطبيب ، فلو أجرى عمليّةً وكان الأحذق ، ولكن رأى الأطباء أنّ هناك قضيّة لم يعفوا أنّه لماذا فعلها فهل قولون بأنّه فعل ذلك بلا نكتةٍ أو يقولون هو قد فعل ذلك لنكتة ؟!! إنهم لابد وأن يقولوا أنّه فعل ذلك لأجل نكتة نحن لا نعرفها.

وكذلك مقامنا ، فإذا جهلنا بعض الأحكام فلا ينبغي أن نشكك في أصل الحكم ، بل أصل الحكم صحيحٌ ولكن لا نعرف نكتته.


[2] وهذه الرواية تنقها الكشي.
[3] سفينة البحار، المجلسي، ج6، ص42.