36/12/05


تحمیل

الموضـوع:- مسألة ( 16 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

الأمر العاشر:- عرفنا في بداية بحث هذه المسألة أنّ الأقوال فيها أربعة ونحن اخترنا وفاقاً لغير واحدٍ حرمة تصوير ذي الروح بنحو الاحتياط الوجوبي أعمّ من كونه بنحو التجسيم أو بنحو النقش والرسم استناداً إلى رواية محمد بن مروان.

والآن نريد التعرّض إلى الأقوال الثلاثة الباقية ببيان مستندها إن أمكن مع مناقشته:-

القول الثاني:- إنّ الحرام مطلق التصوير من دون قيدٍ - أعمّ من كونه لحيوان أو لغير حيوان بنحو التجسيم أو بنحو النقش - ، وقد ذهب إلى هذا القول ابن البرّاج وأبو الصلاح الحلبي على ما ذكر العلامة(قده)[1] .

ويمكن أن يكون مستند ذلك بعض الروايات المطلقة:-

من قبيل:- رواية السكوني المتقدّمة عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( قال أمير المؤمنين عليه السلام:- بعثني رسول الله صلة الله عليه وآله إلى المدينة فقال لا تدع صورة إلّا محوتها .. )[2] فإنّ قوله صلى الله عليه وآله ( لا تدع صورة إلا محوتها ) مطلقٌ ومقتضى إطلاقه أنّ كلّ صورة يلزم إزالتها وهي بالتالي حرام.

ومن قبيل:- رواية الخصال المتقدّمة عن أمير المؤمنين عليه السلام:- ( إياكم وعمل الصور فإنكم تسألون عنها يوم القيامة )[3] ، وهذه الرواية مطلقة أيضاً حيث ورد فيها ( إياكم وعمل الصور ) من دون تقييدٍ بأن يكون لحيوانٍ أو من دون تقييد بأن تكون تلك الصورة بنحو التجسيم بل تشمل حتى النقش والرسم.

ولعلّه توجد بعض الروايات الأخرى المطلقة.

ويرد عليه:- إنّ الرواية الأولى كما تقدّم هي قضيّة في واقعة ولا يوجد فيها إطلاق ، وقلنا لعل المقصود من الصور فيها هو أنّ الصور الموجودة عندهم هي صور الأوثان والأصنام وما شاكل ذلك ، فلا يستفاد الإطلاق من هذه الرواية.

ولو سلّمنا أنّه يوجد إطلاق - كما في الرواية الثانية - ولكن يرد عليه:- إنّ هذا مقيّدٌ لوجود روايات أخرى دلّت على أنّ المحرّم هو حصّة خاصّة وليس مطلق الصورة كما في سائر موارد الاطلاق والتقييد ، ومن جملة الروايات المقيّدة ما يلي:-

الأولى:- صحيحة محمد بن مسلم:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن تماثيل الشجر والشمس والقمر ، فقال:- لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان )[4] ، ودلالتها على جواز رسم غير الحيوان صريحة في الجملة ، ومقتضى الاطلاق - أي اطلاق نفي البأس عن تصوير ما ليس بحيوان - أنّ تصوير كلّ شيءٍ غير الحيوان جائز من دون فارقٍ بين فردٍ وفردٍ.

ويلزم أن يُلتفت إلى هذه النكتة التي أشرنا إليها ، فنحن تمسّكنا بالصراحة مع الإطلاق ، فالصراحة تمسكنا بها لإثبات الجواز بالجملة لأنّ قوله عليه السلام ( لا بأس ما لم يكن من الحيوان ) نستفيد منه الجواز بالصراحة حيث قال عليه السلام ( لا بأس ) ، ولكن هذه الصراحة تثبت لنا القضيّة الموجبة الجزئية أو المهملة - إي هو جائز في الجملة - أمّا أنّ الجائز ما هو ؟ هل هو رسم وتصوير جميع غير الحيوان أو بعض أفراده دون بعض ؟ إنّ هذا نثبته بالإطلاق ، فالتعميم لجميع أفراد الحيوان نثبته بالإطلاق أمّا جواز تصوير غير الحيوان بالجملة فهذا نثبته بالصراحة وليس بالإطلاق.

إذن هذه الرواية واضحة في جواز تصوير غير الحيوان ، وأيضاً إطلاقها يعمّ التجسيم والنقش.

الرواية الثانية:- موثقة أبي العباس وسندها:- (محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام ) ، ومحمد بن يحيى هو الأشعري القمّي الثقة ، وأحمد بن محمد هو ابن عيسى أو ابن خالد وكلاهما ثقة ، وعليّ بن الحكم لا بأس به ، وأبان بن عثمان فهو من أصحاب الاجماع غايته أنّه ليس بإماميّ اثني عشري ولذلك عبرنّا بالموثقة ، وأبي العباس هو الفضل بن عبد الملك البقباق وهو من ثقات أصحابنا ، ونصها:- ( عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عليه السلام عزّ وجلّ " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل " فقال:- والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنّها الشجر وشبهه )[5] .

وقد تسأل تقول:- لماذا لم تذكر هذه الرواية سابقاً ولكنك ذكرتها هنا فما هي النكتة في ذلك ؟

قلت:- نحن فيما سبق كنّا نريد أن نذكر الروايات التي تدلّ على منع التصوير أمّا هذه الرواية فليس فيها دلالة على منعه ، نعم إذا أردت أن تسفيد منها فأقصى ما يستفاد هو أنّ تصدّي الإمام عليه السلام يظهر منه أنّه يدفع شبهةً وإشكالاً وهو أنّه إذا كان التصوير ليس بجائزٍ فكيف كانت الجن تصنع لسليمان عليه السلام التماثيل ؟ فالإمام قال ( والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ) ، وهذا أقصى ما يدلّ عليه هو الحزازة والمبغوضيّة الأعمّ من الحرمة والكراهة ولا يمكن أن تستفيد منها الحرمة ، وهذه نكاتٌ ينبغي الالتفات إليها.

أمّا الآن فنحن نذكرها لكي نستفيد الجواز في غير الحيوان ، فالإمام عليه السلام قال كانوا يصنعون لسليمان عليه السلام تماثيل الشجر وشبهه فهي تدلّ على جواز صنع الشجر وشبهه وبذلك يتقيّد الإطلاق المتقدّم.

الرواية الثالثة:- صحيحة زرارة المتقدّمة:- ( عن أبي جعفر عليه السلام:- لا بأس بتماثيل الشجر )[6] ، فإنها دلّت بالصراحة على جواز تمثال الشجر ، نعم ليس فيها سعة لجميع أفراد غير الحيوان لكنّه نستفيد منها في الجملة ولو بالنسبة إلى الشجر فتقيّد ما سبق.

إذن هذا القول الثاني الذي قد يستدل له بالإطلاق قابل للمناقشة بسبب وجود المقيّدات.

القول الثالث:- هو حرمة تصوير ذي الروح بنحو التجسيم - يعني سوف تصير دائرة الحرمة أضيق أي خصوص مجسّمة ذي الروح أمّا الصورة فلا مشكلة فيها -.

وقد ذكر الشهيد الثاني(قده) هذا القول في المسالك[7] من دون تعيين قائله ، من جملة من اختاره صاحب الجواهر(قده)[8] ، كما اختاره من المتأخرين السيد الحكيم(قده) في منهاجه.

وما هو الدليل عليه ؟

والجواب:- ذكر صاحب الجواهر(قده) ثلاثة أدلّة فإذا ضممنا إليها اثنين من غير ما ذكره صاحب الجواهر صار المجموع خمسة:-

الدليل الأوّل:- ما ذكره في الجواهر حيث قال إنّه ورد في كتاب الصلاة أنّ المصلّي إذا أراد أن يصلّي وكان هناك صور أو تماثيل فليغيّر رؤوسها أو لقطع رؤوسها - على اختلاف تعبير الروايات-:-

من قبيل:- صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام:- ( لا بأس بأن تكون التماثيل في البيوت إذا غيّرت رؤوسها منها وترك ما سوى ذلك )[9] .

وهذه الرواية لم ترد في خصوص الصلاة بل هي مطلقة من هذه الناحية.

والوارد هنا هو تعبير ( إذا غيرت رتهؤوسها ) فيقال إنّ هذا فيه نوع إشعارٍ باختصاص الحرمة بالمجسّم لأنّ تغيير الرأس إنما يكون في المجسّم.

أمّا من أين نستفيد ذي الروح ؟

لعلّه من جهة كلمة ( رؤوس ) فإنّ الرأس مثلاً يكون لذي الروح ولا يكون لغيره كالسيف والشجرة وغيرهما.

ومن قبيل:- صحيحة عليّ بن جعفر عليه السلام عن أبي الحسن عليه السلام:- ( سألته عن الجدار والحجرة فيها التماثيل أيصلى فيها ؟ فقال:- لا تصلّ فيها وفيها شيءٌ يستقبلك إلّا أن لا تجد بدّاً فتقطع رؤوسها وإلاّ فلا تصلّ فيها )[10] .

وهذه الرواية أيضاً فيها إشعار بالاختصاص بما ذكره لأنّه عبّر بقوله ( تقطع رؤوسها ) وقطع الرؤوس يدلّ على أنّ هذا مجسّم وإلّا فالرسم لا معنى للقطع في حقّة ، فإذن هي فيها إشعار وليس فيها دلالة.

ولكونها مختصّة بالحيوان لأنّ الرؤوس لا تكون إلّا في الحيوان فأيضاً يوجد إشعارٌ بذلك.

إذن هذا الصنف من الروايات فيها إشعار بالاختصاص بما ذكره(قده).

وفيه:- إنّ هذا كما ذكر هو إشعارٌ والإشعار عبارة عن الدلالة الضعيفة بحيث لا ترتقي إلى مستوى الحجّية وإلّا كان المورد ظهوراً ، والاشعار ليس بحجّة في مقابل الاطلاقات الموجودة التي تدلّ على أنّه ( ثلاثة يعذبون يوم القيامة الأوّل من صوّر صورة حيوان .... )[11] ، وهذا فيه إطلاق ولا يختصّ بالتجسيم بل يعمّ حتى النقش والرسم وهذه الدلالة حجّة فكيف ترفع اليد عن الإطلاق بالإشعار ؟!!


[1] المختلف، العلامة، ج5، ص13.
[8] جواهر الكلام، الجواهري النجفي، ج22، ص42.