32/06/14


تحمیل

ورابعاً:- فلو تنزلنا وسلمنا أن النهي عن التظليل قد ورد في كلام الإمام عليه السلام بأن فرض أنه قال ( التظليل محرم على المحرم ) انه رغم هذا يشكل التمسك بالإطلاق ، ويتضح ذلك من خلال بيان مقدمة صغيرة من المناسب الإشارة إليها في مبحث حجية الظهور وحاصلها ؛ أن المولى إذا تكلم بكلام وكان ذلك الكلام ظاهراً في معنى معين فنأخذ بذلك الظهور ولا نعير أهمية لاحتمال وجود القرينة المتصلة أو المنفصلة ، فان العقلاء قد جرت سيرتهم على عدم الاكتراث بذلك ، وإلا لتعذر التمسك بأي ظهور إلا في حالات نادرة نجزم فيها بعدم القرينة المتصلة والمنفصلة ، أن هذا كلام ينبغي أن يكون واضحاً .

 ولكن ينبغي أن يستثنى من ذلك ويقال ؛ صحيح لا تُعار أهمية لاحتمال القرينة المتصلة أو المنفصلة ، بيد أن القرينة المحتملة إذا كانت سنخ قرينة لا تسترعي انتباه الراوي بحيث لا يكون الراوي ملزماً بنقلها ، فمثل هذه القرينة لا يمكن نفيها ، بل يكون احتمالها قادحاً ومضراً بالظهور .

 ونتمكن أن نمثل لهذا النحو من القرينة بنحوين من القرينة المتصلة :-

الأول:- ما إذا كانت القرينة المحتملة قرينة متصلة لبية ارتكازية ، كأن تكلم الإمام عليه السلام بكلامٍ ونحتمل انه لم يقيد لوجود ارتكاز واضح بين الأصحاب ، والراوي لم ينقل اعتماداً على وضوح الارتكاز ، ومثله لا ينقل عادة ، فان أمانة الناقل تستدعي أن ينقل القرائن المتصلة أو المنفصلة التي ليست من هذا القبيل ، فان ما كان من هذا القبيل لا يلتفت إليه الراوي عادة حتى ينقله ، ولا يعد خائناً في النقل حينما لا ينقله ، فمثله يضر في انعقاد الظهور ، أو لا أقل في حجيته.

والثاني:- ما إذا كانت القرينة متصلة أيضاً بيد أنها ليست ارتكازية وإنما هي حالية ، بأن كانت هناك حالة واضحة بين المتكلم والسامع ولأجل وضوح تلك الحالة فلا يلتفت الراوي إلى ذلك وبالتتالي لا ينقله ، وآنذاك لا يعد خائناً لو لم ينقل مثل هذه القرينة لأنه سنخ قرينة لا يلتفت إليها الراوي كما قلنا.

 وإذا عرفت هذه المقدمة نقول ؛ أن مقامنا من هذا النحو الثاني ، يعني لو فرض أن الإمام عليه السلام قال ( التظليل حرام ) فرغم هذا لا يصح التمسك بالإطلاق ، لأننا نحتمل وجود قرينة متصلة حالية ، بمعنى أن الحالة المتعارفة في تلك الفترة كانت هي عدم السير في الليل ، أو يفترض أنه كان يُسار في الليل ولكن الحالة جارية على كشف القبة وعدم التظليل ، انه إذا كان يحتمل وجود قرينة حالية من هذا القبيل فلا يمكن آنذاك التمسك بالإطلاق ، فانه إنما يمكن نفي القرائن فيما إذا لم تكن من أحد هذين النحوين ، وهذه قضية ظريفة جداً يجدر الالتفات إليها.

أن قلت:- من أين لك أن الناس كانوا لا يسيرون في الليل ، بل يمكن من خلال بعض الشواهد إثبات أنهم كانوا يسيرون في الليل ، ومن هنا جاء المثل المعروف ( عند الصباح يحمد القوم السرى ) .

قلت:- نحن لا نقول أن السير في الليل لم يكن موجوداً ، كلا ، بل لعله كان موجوداً ، وإنما ندعي أنه في فصل الحج لعل ذلك لم يكن متعارفاً بين قوافل الحجيج ، كما نجده الآن في الزيارة الأربعينية حينما يسير الناس مشياً على الأقدام إلى الإمام عليه السلام ، فان المتعارف أن الناس عندما يحل الليل يذهبون إلى المضائف ولا يمشون ، هذه هي العادة العامة ، ولعله بالنسبة إلى قوافل الحج كان أمرها كذلك .

 أو نقول نسلم أنهم كانوا يسيرون ، ولكن في الليل لا حاجة لهم عادةً إلى التظليل ، انه لأجل كون الحالة كذلك ولو على سبيل الاحتمال دون الجزم لا يمكن التمسك بالإطلاق ، فلا يمكن أن يقال أن الإمام عليه السلام قد أطلق وقال ( التظليل حرام ) ولم يقيد ذلك بخصوص النهار ، انه ندفع مثل هذا الإطلاق من جهة احتمال وجود القرينة الحالية المتصلة التي أشرنا إليها ، والقرائن التي يمكن نفيها في باب الإطلاق هي خصوص القرائن التي لا تكون من هذا القبيل .

 نعم من كان مبناه أنه يمكن نفي القرائن حتى الحالية فذاك شيء آخر ، أما إذا قبلنا بهذا المبنى وان الإطلاق لا يمكن به نفي القرائن الحالية فلا يمكن التمسك به آنذاك . هذه أربع مناقشات لما أفاده السيد الخوئي (قده) في الوجه الأول .

الوجه الثاني :- ما تمسك به السيد الخوئي (قده) أيضاً وحاصله ؛ أن روايات القبة والكنيسة مطلقة ، فالإمام عليه السلام قد نهى عن ركوب ذلك ولم يقيد بما إذا كان الركوب في النهار ، فنستفيد من عدم التقييد المذكور أنه منهي عنه حتى في الليل .

والجواب:- أن نفس القبة والكنيسة هما منهي عنهما بما هما ، فالشرع لا يرضى بركوبهما من دون ملاحظة مسالة التظليل أو الليل أو النهار ، بل نفس القبة بما هي قبة شيء يبغض ركوبه شرعاً ، ومعه فالنهي يكون عاماً وشاملاً لليل أيضاً إذ المردوع عنه هو القبة بما هي قبة أو الكنيسة بما هي كنيسة . إذن الروايات يمكن أن تقرب دلالتها بأحد هذين البيانين.

والجواب :-

أولاً :- فلما أشرنا إليه سابقاً من أن النهي عن ركوب القبة أو الكنيسة لم يذكر في كلام الإمام عليه السلام ابتدءاً ، أي هو لم يقل ( لا يجوز للمحرم ركوب القبة أو الكنيسة ) حتى يتمسك بالإطلاق ، وإنما الراوي قد سأل ، فلا بد من ضم فكرة عدم الاستفصال ، وقد ذكرنا سابقاً أن فكرة ترك الاستفصال إنما يصح التمسك بها فيما إذا لم نحتمل أن عدم استفصال الإمام قد نشأ من عدم تعارف السير في الليل ، أو انه كان متعارفا ولكن لم يكن من المتعارف التظليل في الليل .

وثانياً :- لو تنزلنا وسلمنا أن النهي عن ركوب القبة أو الكنيسة قد ورد في كلام الإمام عليه السلام ، ولكن رغم هذا لا يصح التمسك بالإطلاق لما أشرنا إليه سابقاً من أن الإطلاق يصح التمسك به فيما إذا لم نحتمل وجود قرينة حالية متصلة ، وفي المقام حيث يحتمل ذلك فلا يصح التمسك بالإطلاق.

الوجه الثالث:- موثقة عثمان بن عيسى عن أبي الحسن الأول عليه السلام حيث سأله عن علي بن شهاب حيث يشكو رأسه والبرد الشديد ويريد أن يحرم فقال ( أن كان كما زعم فليظلل وأما أنت فاضح لمن أحرمت له ) بتقريب أنه يفهم من الرواية المذكورة أن التظليل المحرم لا يختص بما إذا كان من الشمس ، بل يعم ما إذا كان من البرد وهو صادق في الليل ، فإذا أراد المحرم أن يظلل في الليل من البرد كان ذلك محرماً بمقتضى الرواية المذكورة .

وفيـه:- أن الدلالة المذكورة تتم إذا فرض أن السير في الليل كان أمراً متعارفاً ، أما إذ احتملنا أن الراوي كان يسأل عن السير في النهار وان علي بن شهاب أراد أن يظلل في النهار ، بيد أن تظليله لم يكن لأجل الشمس بل لأجل البرد الشديد والإمام عليه السلام لم يجوز ، ولكن لم يجوز لا لأجل البرد بل لأجل وجود الشمس ، فهو قد منع من التظليل باعتبار أنه لو ظلل من البرد فقد ظلل من الشمس ، فيعود آنذاك المحذور من جهة التظليل من الشمس .

 إذن الرواية لم يفترض فيها أن السير كان في الليل وإنما افترض أن ابن شهاب يحتاج إلى التظليل من جهة البرد ، ولعل المانع هو ليس البرد بل الشمس ولأجل أن التظليل يلازم التظليل من الشمس نهى الإمام عليه السلام عنه.

 إذن هذه الرواية لا يمكن أن يستفاد منها أن التظليل من البرد ولو لم تكن شمسً يكون منهياً عنه.

اللهم إلا أن تقول:- أن البرد الشديد يكون عادة في الليل وليس في النهار وهذا بنفسه قرينة على أن الرواية ناظرة إلى الليل وليست ناظرة إلى النهار ، وبذلك تتم دلالتها على ما أراده السيد الخوئي (قده) .

ولكن في المقابل يمكن أن يقال:- إذا كان البرد شديداً في الليل فمن الوجيه وجود هذا البرد بدرجة أقل في النهار أيضاً ، وبالتالي لا يمكن الجزم بأن هذا البرد الشديد يختص بالليل ، بل لعله في الصباح الباكر يكون الجو بارداً أيضاً ، فاحتاج ابن شهاب إلى التظليل من البرد ، ولكن حيث أن ذلك مقارن للتظليل من الشمس فنهى الإمام عليه السلام عنه . وبالجملة التمسك بالرواية المذكورة لإثبات التعميم شيء مشكل.