جلسة 133

كفارات الصوم

هذا ما أُفيد، وجميع المقدمات المذكورة قابلة للتأمل:

أمّا المقدمة الأُولى فربما نسلّم ما أُفيد فيها من استفادة وجوب الإمساك، وهذا المطلب وإن لم يذكر له تقريب في كلمات العلمين ـ ولعله لشدة وضوحه لديهما ـ إلاّ أنه يمكن تقريبه بأن ظاهر الآية المباركة أن من كان متلبساً بالسفر فعلاً فحكمه (فَعِدةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، أمّا الذي لم يتلبس بالسفر فعلاً فيدور حكمه بين احتمالات ثلاثة لا رابع لها، وهي:

الاحتمال الأوّل: أن يكون حكمه وجوب الصوم.

الاحتمال الثاني: أن يكون حكمه جواز الإفطار بارتكاب أحد المفطرات.

الاحتمال الثالث: أن يكون حكمه وجوب الإمساك.

أمّا الاحتمال الأوّل فهو باطل، إذ الصوم بالمعنى الشرعي عبارة عن الإمساك ما بين الحدين عن المفطرات، والمفروض في المقام أن المكلف ليس قادراً على الإمساك عن جميع المفطرات ما بين الحدين، فكيف يجب عليه الصوم بالمعنى الشرعي بعد فرض علم المولى بأنه سوف يطرأ عليه مانع يمنعه من الإتيان بالصوم الشرعي كالسفر والمرض وغيرهما، فالخطاب الواقعي بذلك أمر غير ممكن.

وأمّا الاحتمال الثاني فباطل أيضاً، باعتبار أننا نجزم من الخارج بأن المكلف لا يمكن أن يباح له الإفطار وارتكاب المفطرات من دون أن يثبت في حقه وجوب القضاء، إنه ما دام لا يجب القضاء في حق هذا الإنسان فإباحة ارتكاب المفطرات ليس ثابتة في حقه أيضاً.

وإذا استبعدنا الاحتمالين الأوّلين يتعين الاحتمال الثالث، وهو أن يكون الثابت في حق المكلف وجوب الإمساك، وهو المطلوب.

هكذا يمكن أن تُقرّب استفادة وجوب الإمساك من الآية الكريمة.

وهناك فتوى معروفة، وهي أن الإنسان إذا أراد السفر في شهر رمضان فلا يجوز له ارتكاب المفطر ما دام في بيته وبلده قبل أن يتحقق منه السفر، والمدرك لهذه الفتوى قد اتضح من خلال ما أشرنا إليه في البيان المتقدم، حيث يقال: إن الآية ناظرة إلى المتلبس بالسفر بالفعل وان حكمه (فَعِدَةٌ مِنْ أيَّامٍٍ أُخَرَ)، أمّا الذي سيتلبس وهو الآن بعد في بيته فليس حكمه (فَعِدَةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وإنما حكمه وجوب الإمساك، إذ وجوب الصوم لا يمكن أن يخاطب به بعد علم الله ـ عزّ وجلّ ـ أنه سيسافر، كما أنه لا يمكن أن يخاطب بجواز ارتكاب المفطر من دون وجوب القضاء، فيتعين أن يكون مخاطباً بوجوب الإمساك.

وعليه لا يمكن المناقشة في المقدمة الأُولى من هذه الناحية، ولا يمكن التشكيك في استفادة وجوب الإمساك من الآية المباركة، ولكن يمكن المناقشة من جهة أُخرى، وذلك بأن يقال: إن في الآية الكريمة احتمالين:

الأوّل: أن يكون المقصود خطاب المكلفين بلحاظ الأيام، فكأن الآية المباركة تقول هكذا: يا أيها الناس إذا كنتم في يوم من الأيام مرضى أو على سفر فحكمكم العدة من أيام أُخر.

الثاني: أن يكون الخطاب متوجهاً إلى المكلفين بلحاظ الساعات واللحظات، فيكون التقدير هكذا: أيها الناس في أي لحظة من اللحظات إذا اتصفتم بالسفر فحكمكم العدة من أيام أُخر، وعلى هذا لا يكون المنظور في الآية الكريمة هو اليوم بل كل ساعة وكل لحظة.

وما أفاده العلمان مبني على أن يكون المقصود من الآية الكريمة هو الاحتمال الثاني، حيث يصير التقدير بناءً عليه هكذا: في الساعة العاشرة صباحاً إذا تلبستم بالسفر فعلاً فحكمكم عدة من أيام أُخر، وأمّا إذا لم تتلبسوا بذلك بل سوف تتلبسون بعد ذلك ففي الساعة الأُولى ليس حكمكم (فَعِدَةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، بل حكمكم الإمساك حسب التقريب المتقدم.

وأمّا لو كان المقصود هو الاحتمال الأوّل فما ذكراه لا يتم، إذ الآية الكريمة ناظرة إلى اليوم وكأنها تقول: في كل يوم إذا كنتم مرضى أو على سفر فيه فحكمكم وجوب القضاء، ولكن متى يلزم الاتصاف بالمرض أو السفر؟ إن الآية الكريمة من هذه الناحية مطلقة، فمتى ما كنتم على سفر في أي ساعة من ساعات اليوم من دون تخصيص بساعة معينة فحكمكم العدة من أيام أُخر، فإذا فرض أني أُسافر في الساعة الحادية عشر ففي الساعة العاشرة يوجّة إلي خطاب (فَعِدَةٌ مِنْ أَيَّامٍ أَُخَرَ)؛ لأن المهم وجود السفر في جملة اليوم، إذ الملحوظ هو اليوم دون كل ساعة ولحظة.

وما دمنا نحتمل كون المقصود هو الأوّل ـ وإن كنّا لا نجزم به ويكفينا الاحتمال ـ فلا يمكن أن نستفيد من الآية الكريمة وجوب الإمساك، فإن استفادة ذلك موقوفة على كون المقصود هو الاحتمال الثاني، وحيث لا نجزم بذلك ونحتمل كون المقصود هو الاحتمال الأوّل، فلا يمكن استفادة وجوب الإمساك كما أراده العلمان.

_______________________

[1] البقرة: 185.