جلسة 124

كفارة الصوم

وقريب منه روايته الأُخرى عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: سألته عن رجل كان عليه صيام شهرين متتابعين فلم يقدر على الصيام، ولم يقدر على العتق، ولم يقدر على الصدقة؟ قال: «فليصم ثمانية عشر يوماً، عن كلّ عشرة مساكين ثلاثة أيّام» [1]، ودلالتها وإن كانت واضحة إلاّ أن السند ضعيف بإسماعيل بن مرّار وعبد الجبّار بن المبارك فإنهما لم يوثقا.

هذا مضافاً إلى احتمال اتحاد الروايتين، فإن كلتيهما عن أبي بصير، والمضمونان متقاربان سؤالاً وجواباً، وما دام يحتمل الاتحاد فيطرح هذا التساؤل، وحاصله: أنه في مورد احتمال اتحاد الروايتين احتمالاً معتداً به من دون أن يبلغ درجة الاطمئنان ـ إذ لو بلغ إلى درجة الاطمئنان فلا إشكال في الحكم بالاتحاد ـ هل يبنى على التعدد أو على الوحدة؟

والجواب: حيث إن مدرك حجية الأخبار هو السيرة ولا يجزم بانعقادها على التعدد فلا يمكن آنذاك الحكم بالتعدد ولابدّ أن يُبنى على الاتحاد، وفي مقامنا بعد عدم إمكان البناء على التعدد وكان الاتحاد محتملاً فلا يمكن التمسك بإطلاق الرواية الثانية والحكم بالتعميم لغير باب الظهار، إذ من المحتمل صدور رواية واحدة خاصة بالظهار، ومعه فلا يمكن الجزم بالإطلاق والشمول لغير باب الظهار، والمهم فيما أشرنا إليه هو الكبرى الكلية وهي أنه في موارد احتمال اتحاد الروايتين يمكن أن يُدعى أن الصحيح هو الحكم بالاتحاد، وأن المدرك للحجية هو السيرة ولا يجزم بانعقادها على الحكم بالتعدد، أمّا كون مقامنا مصداقاً لهذه الكبرى أو لا فهذا ليس مهماً.

الثانية: ما دلّ على لزوم التصدق بما يطيقه المكلف، كما في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: في رجل أفطر من شهر رمضان متعمّداً يوماً واحداً من غير عذر، قال: «يعتق نسمة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً، فإن لم يقدر تصدّق بما يطيق» [2].

وكصحيحته الأُخرى عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: في رجل وقع على أهله في شهر رمضان فلم يجد ما يتصدّق به على ستّين مسكيناً، قال: «يتصدّق بقدر ما يطيق» [3] .

الثالثة: ما دلّ على أن الوظيفة هي الاستغفار، كما في صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ قال: سألته عن رجل نكح امرأته وهو صائم في رمضان، ما عليه؟ قال: «عليه القضاء وعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستّين مسكيناً، فإن لم يجد فليستغفر الله» [4] .

هذه طوائف ثلاث في المسألة، وقد جمع بعض الفقهاء كالعلامة الحلي قدّس سرّه[5] بينها بالتخيير بين صوم ثمانية عشر يوماً والتصدق بما يطيق، حيث ذكر ـ قدّس سرّه ـ ما نصه: (لنا: أنهما وردا معاً وليس الجمع مراداً، والأصل عدم الترتيب، فوجب القول بالتخيير).

وكان من المناسب إضافة الاستغفار حيث ورد في الطائفة الأخيرة كما أشرنا، فلو اخترنا الحكم بالتخيير يكون المناسب إيقاع التخيير بين الأطراف الثلاثة.

هذا ولكن يمكن أن يقال: إن الطائفة الأُولى كانت تشتمل على روايتين، الأُولى منها خاصة بالظهار، والجزم بعدم ثبوت الخصوصية له أمر مشكل، والرواية الثانية ضعيفة السند بشخصين، على أنه قد يبرز احتمال وحدتهما ويتمسك بالكبرى المتقدمة التي أشرنا إليها، ولابدّ آنذاك من حذفها من الحساب، ويبقى الأمر دائراً بين التصدّق بما يطيق والاستغفار.

وقد ذكر السيد الخوئي ـ قدّس سرّه [6] أن العرف يجمع بينهما بلزوم فعلهما معاً، فيقول: يجب الإتيان بكليهما ولا يحكم بالتخيير وكفاية أحدهما، فإنه إنما يحكم بذلك لو فرض أننا أحرزنا وحدة المطلوب بحيث نجزم بأن المطلوب شرعاً واحد، ولكن اختلفت الروايات في تشخيص ذلك الواحد كما في باب الصلاة، حيث لا يجب على المكلف إلاّ صلاة واحدة، فإذا قالت بعض الروايات بلزوم أدائها قصراً، وبعضها الآخر بلزوم أدائها تماماً جمع العرف بينهما بالتخيير، إذ لا يحتمل كون المطلوب صلاتين في وقت واحد، أمّا إذا لم نجزم بوحدة المطلوب واحتملنا تعدده فيلزم الحكم باعتبار الجمع بينها، ومقامنا من هذا القبيل حيث نحتمل أن المطلوب متعدد، وهو التصدق بما يطيق والاستغفار، فيحكم العرف آنذاك باعتبار الجمع بينها، هذا ما ذكره قدّس سرّه.

ويمكن التأمل في ذلك ببيان أن لازم وجوب الجمع بينهما أن الإمام قد ترك بيان أحد الفردين الواجبين تعييناً، بينما لو كان الحكم هو التخيير كان الإمام قد ترك بيان فردٍ يجب تخييراً، ومن الواضح أن ترك بيان أحد الفردين الواجبين تخييراً أمر لا محذور فيه، فلا محذور في أن يذكر المشرّع أحد الفردين ويترك الفرد الآخر من باب أنه فرد تخييري، وبالتالي لا يلزم إيقاع المكلف في محذور؛ لأنه سوف يرتكب أحد الفردين المخيرين وهو مجزئٌ، وهذا بخلاف ما إذا كان الفرد الثاني واجباً بنحو التعيين، أي يلزم ضمه إلى الفرد الأول، فإنه يلزم بيانه، إذ لو ترك المشرّع بيانه واقتصر على بيان الفرد الأوّل فسوف يكتفي المكلف بفرد واحد وهو غير مجزئ حسب الفرض، وعليه يدور الأمر بين جمعين من هذا القبيل، ولا اشكال في كون الأرجح هو الجمع الذي لا يلزم منه محذور.

وبهذا يكون المناسب هو التخيير بين التصدّق بما يطيق والاستغفار، ويبقى الاحتياط بالجمع بينهما أمراً في محله، وأحوط من ذلك الجمع بين الثلاثة.

النقطة الرابعة: يلزم التكفير عند التمكن على الأحوط وجوباً، فلو فرض أن المكلف كان عاجزاً عن الخصال الثلاث واستغفر الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتصدق بما يطيق ثم بعد ذلك وسّع الله عليه فهل يلزمه التكفير بشكله الاختياري أو لا؟

وقد يجاب بالإيجاب، باعتبار أن الاستغفار وظيفة العاجز عن الخصال الثلاث وقد انكشف أن المكلف ليس عاجزاً، بل هو متمكن من ذلك فلا يكفيه ما أتى به من الفرد الاضطراري ويلزمه الإتيان بالفرد الاختياري بعد اتضاح تمكنه منه.

نعم، لو فرض أن الفرد الاختياري حُدّد بوقت وفُرض العجز عنه في تمام وقته المحدد له سقط ولا يلزم فعله بعد ذلك، ولكن الأمر في المقام ليس كذلك، إذ لم يحدّد بوقت، ومعه يلزم الإتيان به بعد ذلك.

_________________________

[1] الوسائل 10: 381، أبواب بقية الصوم الواجب، ب9، ح1.

[2] الوسائل 10: 44 ـ 45، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب8، ح1.

[3] الوسائل 10: 46، أبواب ما يمسك عنه، ب8، ح3.

[4] الوسائل 10: 48، أبواب ما يمسك عنه، ب8، ح9.

[5] المختلف 3: 445.

[6] مستند العروة الوثقى ج1 كتاب الصوم ص353.