جلسة 84

المفطّرات

كما لا بأس بما يصل إلى الجوف من غير طريق الحلق ممّا لا يسمّى أكلاً أو شرباً، كما إذا صبّ دواءً في جرحه أو أذنه أو في إحليله أو عينه فوصل إلى جوفه، وكذا إذا طعن برمح أو سكّين فوصل إلى جوفه، وغير ذلك. نعم، إذا فرض إحداث منفذ لوصول الغذاء إلى الجوف من غير طريق الحلق كما يحكى عن بعض أهل زماننا فلا يبعد صدق الأكل والشرب حينئذٍ فيفطر به كما هو كذلك إذا كان بنحو الاستنشاق من طريق الأنف، وأمّا إدخال الدواء بالإبرة في اليد أو الفخذ أو نحوهما من الأعضاء فلا بأس به، وكذا تقطير الدواء في العين أو الأذن [1].

__________________________________

بعد ما ذكر الماتن ـ قدّس سرّه ـ المفطِّر التاسع وهو الاحتقاق بالمائع، أردف به مسألة إيصال الطعام والشراب إلى الجوف من غير طريق الحلق ممّا يجعل القارئ يتصوّر أنّ ذلك مرتبط به، ولكنّ الأمر ليس كذلك، بل هو مرتبط بالمفطِّر الأوّل والثاني ـ الأكل والشرب ـ فكان من المناسب ذكره بعدهما مباشرة.

وعلى أي حال يشتمل المتن المذكور على النقاط التالية:

النقطة الاُولى: لا بأس بما يصل إلى الجوف إذا لم يصدق عليه عنوان الأكل والشرب، كما إذا جُرح الصائم وصُبّ الدواء في جرحه ووصل إلى جوفه، وهكذا لو صُبَّ من المنافذ الاُخرى الموجودة في البدن، فإنّ ذلك لا يضرّ بصومه؛ لعدم صدق عنوان الأكل والشرب عليه، إذ المستفاد من الآية المباركة: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [2] أنّ المفطِّر هو عنوان الأكل والشرب، والزائد على ذلك تنفي مفطريته بالبراءة.

وقد خالف في المسألة العلاّمة في (المختلف) [3]، حيث ذكر ـ قدّس سرّه ـ أنّ صبّ الدواء في الإحليل إذا أوجب ذلك الوصول إلى الجوف مفطر، وهكذا مَنْ طعن نفسه بسكين فوصلت إلى جوفه، فإنّ ذلك مفطر أيضاً، واستدل على ذلك بأنّه قد أوصل إلى جوفه مفطِّراً، وهذا يفهم منه أنّ كلّ ما يصل إلى الجوف يكون مفطراً، وقد وافقه على ذلك من المتأخرين الشيخ عليّ بن الشيخ باقر الجواهري ـ قدّس سرّه ـ في حاشيته على العروة الوثقى [4].

وقد يستدل على هذا الرأي بوجهين:

الوجه الأوّل: صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة، قال: سمعت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ يقول: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب، والنساء، والارتماس في الماء »[5] ، فإنّ الصحيحة المذكورة لم تأخذ عنوان الأكل والشرب، بل عنوان الطعام والشراب، وعلى هذا كلّما وصل الطعام والشراب إلى الجوف حكم بالمفطرية وإن لم يصدق عليه عنوان الأكل والشرب.

وفيه: أنّ الأخذ بالإطلاق أمر غير ممكن، بل لابدّ من تقدير شيء، إذ لازم الإطلاق مفطرية مثل مشاهدة الطعام والشراب أو شمّ رائحته؛ لأنّ الصحيحة مطلقة، ومقتضى الإطلاق مفطرية كلّ ما يرتبط بالطعام والشراب سواءً كان أكلاً أو شرباً أو رؤيةً أو شماً، فلابدّ إذاً من الالتزام بالتقدير ، وذلك المقدّر هو الأكل والشرب، إمّا لأنّ مناسبات الحكم والموضوع العرفية تقتضي ذلك، أو أنّه مع تردد المقدر يلزم الاقتصار على القدر المتيقّن، وليس ذلك إلا الأكل والشرب، فالاستدلال بالصحيحة إذاً مبني على التمسّك بالإطلاق.

أمّا إذا اعترفنا بلزوم التقدير فيلزم تقدير الأكل والشرب للنكتتين المتقدّمتين، ومعه فلا يضرّ الوصول إلى الجوف إذا لم يصدق عنوان الأكل والشرب.

الوجه الثاني: التمسّك بما دلّ على المنع من الاحتقان، بالمائع، والمنع من صبّ الدهن في الأذن إذا كان يصل إلى الحلق، والمنع من الغبار والاستنشاق إذا وصل الغبار أو الماء إلى الحلق، فإنّه يستفاد من مجموع النصوص الدالة على ذلك أنّ المفطِّر هو مطلق وصول شيء إلى الجوف، ولا خصوصية لعنوان الأكل والشرب.

وفيه: أنّ الروايات المذكورة وردت في موارد خاصّة فيقتصر على مواردها، واستفادة القاعدة الكلية منها أمر مشكل.

على أنّ الثلاثة الأخيرة قُيِّد فيها المنع بالوصول إلى الحلق، وقد تقدّم منا ـ سابقاً ـ أنّ الشيء إذا وصل إلى الحلق فلا يبعد صدق عنوان الأكل والشرب حتّى وإن لم تكن البداية هي الفم.

والنتيجة من كلّ هذا عدم الدليل على مفطِّرية ما سوى الأكل والشرب.

النقطة الثانية: إذا فتح للإنسان ـ لعارض من العوارض ـ فتحة في جسمه لإيصال الطعام والشراب، فهل يكون ذلك مفطراً؟ نعم، يكون كذلك إذا صار ذلك أمراً معتاداً للشخص المذكور، فإنّه آنذاك يصدق أنّ هذا الإنسان قد أكل وشرب، إذ أكل كلّ إنسان بحسبه، وهو بحسب هذا الإنسان يصدق بإدخال الطعام من خلال الفتحة المذكورة.

وهكذا يمكن الحكم بالمفطّرية إذا لم تصل الفتحة إلى حدّ الطريق المعتاد، بأن فُتحت لفترة يوم أو يومين مثلاً، فإنّه أيضاً يصدق إذا أوصل الغذاء في الفترة المذكورة من خلال الفتحة أنّه في هذا اليوم قد أكل هذا الإنسان وشرب، غايته من هذه الفتحة وليس من فمه.

والمهم هو البحث عن حالة الشك؛ لأنّ حالة الجزم بصدق الأكل والشرب لا إشكال فيها فيحكم بالمفطرية، وهكذا حالة الجزم بعدم الصدق لا إشكال فيها فيحكم بعدم المفطرية، والمهمّ معرفة حكم حالة الشكّ، أي ما إذا شكّ عرفاً في صدق عنوان الأكل والشرب.

وهل الشكّ المذكور مفهومي أو مصداقي؟ لا شكّ أنّه في المفهوم حيث يشكّ في سعة وضيق مفهوم الأكل والشرب، فهل هو واسع يشمل مثل ذلك، أو ضيّق لا يشمله؟ وليس الشكّ مصداقياً؛ لأن لازم الشكّ المصداقي كون المفهوم محدّداً ولبعض العوارض يشكّ في المصداق، وفي مقامنا المفهوم غير محدّد حيث لا يُدرى هل يعتبر في مفهوم الأكل عرفاً كون الفتحة معتادة أو لا؟ فلأجل الشكّ في اعتبار القيد المذكور يشكّ في صدق عنوان الأكّل والشرب، وهذا يعني أنّ المفهوم في نفسه مجمل وغير واضح، وما دام الشكّ في سعة المفهوم وضيقه فالمناسب إجراء البراءة بلحاظ المقدار الزائد على المتقيّن، فالذي يجزم بصدق الأكل عليه يجزم بتوجّه النهي إليه وأنّه مفطِّر، وأمّا الزائد على ذلك ـ كإيصال الدواء من الفتحة ـ فحيث يشكّ في صدق عنوان الأكل والشرب بلحاظه فيلزم أن يشكّ في توجّه النهي إليه فينفى بالبراءة.

إن قلت: إنّنا مكلّفون بعنوان الصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [6]، ونشك في أنّ العنوان المذكور هل يتحقق إذا لم نجتنب عن إدخال الطعام في الفتحة المذكورة، أم لا فيلزم الاحتياط، فإنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وقد اشتغلت ذمتنا يقيناً بعنوان الصوم بين الفجر والغروب، ونشكّ هل يتحقّق امتثال ذلك إذا لم نجتنب عن إدخال الطعام في الفتحة المذكورة أم لا؟ فالمورد ليس من موارد الشكّ في توجّه التكليف الزائد، بل مصبّ التكليف معيّن وهو الصوم بين الحدّين، ولكن يشك في محصله وأنّه يحصل إذا لم يجتنب عن إدخال الطعام في الفتحة، أو لا فيلزم الاحتياط.

قلت: إنّ عنوان الصوم لا مدخلية له، وإنّما المطلوب واقعه وليس عنوانه، وواقعه عبارة عن الإمساك عن المفطرات، والدليل على أنّ عنوانه لا مدخلية له هو أنّ المكلّف لو أمسك عن المفطّرات بدون قصد الصوم كفى ذلك إذا كان بقصد القربة، وما دام المطلوب هو الصوم بالحمل الشائع، أي واقع الصوم فنقول: نشكّ أنّ واقع الصوم هل هو ترك الأكل بمفهومه الواسع، أو ترك الأكل بمفهومه الضيق؟ والقدر المتيقن وجوب الإمساك عن الأكل بمفهومه الضيّق، وأمّا بمفهومه الواسع فيشكّ في تعلّق التكليف بلحاظه، فتجري البراءة عنه.

________________________

[1] منهاج الصالحين 1: 267.

[2] البقرة: 187.

[3] المختلف 3: 414.

[4] حواشي العروة الوثقى 3: 543.

[5] الوسائل 10: 31، أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، ب 1، ح 1.

[6] البقرة: 183.