01-08-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/08/01

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-مسألة ( 429 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
مسألة ( 429 ):- من ترك المبيت بمنى فعليه كفّارة شاة عن كلّ ليلة . والأحوط التكفير فيما إذا تركه نسياناً أو جهلاً منه بالحكم أيضاً . والأحوط التكفير للمعذور عن المبيت ولا كفّارة على الطائفة الثانية والثالثة ممّن تقدّم.

تتضمن المسألة المذكورة مجموعة نقاط:-
النقطة الأولى:- من ترك المبيت بمنى - والمقصود إذا لم يكن من أحد الطوائف المستثناة السابقة - فعليه كفّارة شاة.
والحكم المذكور من حيث الفتوى لم يعرف خلافٌ فيه، قال في المدارك:- ( هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب وأسندها العلامة في المنتهى إلى علمائنا مؤذناً بدعوى الاتفاق عليه )[1]، وقال في الجواهر:- ( وفاقاً للمشهور بل عن صريح الخلاف والغنية وغيرهما وظاهر المنتهى وغيره الاجماع عليه )[2].
وأمّا من حيث المستند:- فهناك ستّ روايات ثلاث منها صحاحٌ تدلّ على ذلك-
الأولى:- صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام:- ( عن رجلٍ بات بمكة في ليالي منى حتى  أصبح، قال:- إن كان أتاها نهاراً فبات بها حتى أصبح فعليه دمٌ يهريقه )[3]، ودلالتها واضحة في ذلك، نعم الوارد فيها أنّه ( بات بمكة في ليالي منى حتى أصبح ) وهل المقصود جميع الليالي أو المقصود ما يعمّ الليلة الواحدة ؟ إنَّه ليس من البعيد أن المقصود من قوله ( في ليالي منى ) يعني ليس المقصود مجموعها بل الأعم من مجموعها أو واحدة منها.
الثانية:- صحيحة صفوان قال:- ( قال أبو الحسن عليه السلام:- سألني بعضهم عن رجلٍ بات ليالي منى[4] بمكة فقلت لا أدري، فقلت له:- جعلت فداك ما تقول فيها ؟ فقال عليه السلام:- عليه دم شاة[5] إذا بات )[6].
الثالثة:- صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( لا تبِت ليالي التشريق إلا بمنى فإن بِتَّ في غيرها فعليك دم )[7]، ودلالتها واضحة أيضاً.
الرابعة:- رواية جعفر بن ناجية:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عمّن بات ليالي منى بمكة، فقال:- عليه ثلاثة من الغنم يذبحهن )[8]، ودلالتها واضحة، ويستفاد منها أنّ لكلّ ليلةٍ شاة، ولكنّها ضعيفة السند بجعفر بن ناجية فإنه لم تثبت وثاقته اللهم إلا على من يرى تماميّة كبرى وثاقة كلّ من ورد في أسانيد كامل الزيارات . هذا مضافاً إلى ورود محمد بن سنان في الطريق أيضاً فمن يبني على عدم وثاقته فتكون المشكلة آنذاك من ناحيتين.
الخامسة:- رواية عليّ عن أبي إبراهيم عليه السلام قال:- ( سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم رجع فغلبته عينه في الطريق فنام حتى أصبح، قال:- عليه شاة )[9]، ودلالتها واضحة ولعله يستفاد منها أنّ الليلة الواحدة حكمها ذلك - أعني وجوب الشاة -، ولكن هي قد رواها عليّ ولا يبعد أن لمقصود منه هو البطائني بقرينة قوله ( عن أبي إبراهيم ) وحينئذٍ يأتي الخلاف فيه في أنه ثقة أو لا، مضافاً إلى أنه ورد في السند القاسم بن محمد وهو لم تثبت وثاقته أيضاً . إذن المشكلة إمّا من جهتين أو من جهةٍ واحدةٍ وهي من جهة القاسم بن محمد.
السادسة:- رواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( من زار فنام في الطريق فإن بات بمكة فعليه دم )[10]، ودلالتها واضحة أيضاً ويمكن أن يستفاد منها أن المبيت ليلة واحدة حكمه هو الشاة وليس خصوص مجموع الليالي الثلاث.
وسند هذه الرواية بطريق الشيخ لا إشكال فيه كما تقدّم، بيد أنها بطريق الشيخ الكليني هي مرسلة حيث رواها عن جميل عن بعض أصحابنا وقد قلنا سابقاً حيث أنه من البعيد أنها صدرت من الإمام مرّتين بنفس الألفاظ فحينئذٍ لا ندري أن الصادر صدر بهذا السند أو ذاك وعلى هذا الأساس لا مثبت لصحّة الرواية.
هذه ستّ روايات وإذا كان بعضها ضعيفاً من حيث السند فيكفينا البعض الآخر وهي الثلاث الأُوَل.
بل ربما يقال:- إنه حتى لو كانت جميعاً ضعيفة السند يمكن الأخذ بها باعتبار أن العدد هو ستّ روايات وهذا الرقم لا يبعد أنه يشكّل عنوان الاستفاضة الموجب للاطمئنان بصدور المضمون المذكور، فهناك مضمونٌ مشترك بين هذه الروايات جميعاً وأنه من بات في غير منى فعليه شاة فهذا المضمون لا يبعد استفاضته يعني بالتالي يحصل الاطمئنان بصدور المضمون المذكور لأن عدد ست روايات ليس من البعيد أنه يشكل الاستفاضة الموجبة للاطمئنان.
وعلى هذا الأساس بهذا المقدار لا إشكال في الحكم المذكور.
ولكن توجد روايات ثلاث توحي بالخلاف:-
الأولى:- صحيحة العيص بن القاسم قال:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ فاتته ليلة من ليالي منى، قال:- ليس عليه شيء وقد أساء )[11]، إنه يستفاد منها عدم ثبوت الكفارة لأنه عليه السلام قال:- ( ليس عليه شيء ) فيثبت عدم الكفارة إمّا بإطلاق قوله ( ليس عليه شيء ) لأنه بإطلاقه يشمل الكفّارة أو يقال إنّ الكفارة هي القدر المتيقّن من عنوان ( شيء ) فلا نحتاج آنذاك إلى التمسّك بالاطلاق فإن المصداق البارز لكلمة شيء حينما يقال ( عليه الشيء ) هو الكفارة، فتعارض آنذاك الروايات السابقة الدالة على ثبوت لكفارة فماذا نصنع ؟
والجواب :- هناك أجوبة ثلاثة:-
الجواب الأوّل:- ما ذكره الشيخ الطوسي(قده) على ما أشار إليه صاحب الوسائل(قده) في ذيل الحديث المذكور حيث قال نحمل هذه الرواية الدالة على أنه لا شيء عليه على من بات في غير منى ولكن مشتغلاً بالعبادة أو نحملها على من خرج من منى بعد منتصف الليل، وعليه فلا تكون منافية لما سبق.
وأشكل السيد الخوئي(قده) في المعتمد[12]:- بأن التعبير بقوله ( وقد أساء ) يتنافى مع هذا الحمل لأنه إذا كان مشتغلاً بالعبادة فهو لم يُسِء في مبيته في غير منى بل هو قد أتى بالبدل، وهكذا لو فرض أنه خرج بعد منتصف الليل لا يصدق عليه أنه أساء لأنه بات النصف الأوّل . إذن ما ذكره الشيخ الطوسي(قده) يتمّ لو لم تكن فقرة ( وقد أساء ) ثابتة أمّا بعد ثبوتها فالحمل المذكور يكون بعيداً.
ولكن نقول:- هذا شيء وجيه إلّا أن يقال إنّ التعبير بالإساءة باعتبار ترك الأفضل فإن الأفضل هو المبيت بمنى طيلة الليلة فإذا خرج إلى مكة مشتغلاً بالعبادة فقد أساء حيث ترك الأفضل، وهكذا إذا خرج بعد منتصف الليل قد أساء باعتبار أنه ترك الفرد الأفضل وهو المبيت طيلة الليلة . فإذن ما ذكره الشيخ الطوسي لا يتنافى مع التعبير  بقول الإمام ( وقد أساء ) بناءً على أنّه قد ترك الفرد الأفضل.
وقد يقول قائل:- من أين لك أنّ الفرد الأفضل هو ذلك فإنه لا مثبت له ؟
قلت:- لا أحتاج إلى مثبتٍ فإنّه يكفيني الاحتمال إذ بالتالي نحتمل أنّ الفرد الأفضل هو المبيت بمنى طيلة الليل والإمام عليه السلام عبّر بكلمة ( أساء ) لأجل ذلك، فالاحتمال يكفينا بلا حاجة إلى أن نثبت أنّ المبيت في منى طيلة الليلة هو الفرد الأفضل . إذن ما ذكره السيد الخوئي(قده) ربما يناقش بما أشرنا إليه.
والأجدر أن يناقش ما ذكره الشيخ الطوسي(قده):- بأنّ ما ذكره(قده) يتمّ لو كان الإمام عليه السلام قد بيّن المطلب المذكور ابتداءً، يعني لو كان الإمام هو يقول ( من فاتته ليلة من ليالي منى فليس عليه شيء وقد أساء ) فإنه إذا كان يعبّر هذا التعبير ابتداءً من دون سبق سؤالٍ من قبل الراوي لكان ما أفاده الشيخ الطوسي(قده) وجيهاً حيث يحمل كلام الإمام على من اشتغل بالعبادة أو خرج بعد نصف الليل ولكن المفروض أنه لم يصدر هذا من الإمام وإنما هناك سؤالٌ فالسائل سأل الإمام وقال ( رجلٌ فاتته ليلية من ليالي منى ) وحينما يسأل الشخص هكذا فهذا يقصد منه أنّها فاتته من دون اشتغالٍ بالعبادة وإلا إذا كانت مع الاشتغال لسلّط السائل الأضواء على ذلك فيقول ( فاتته ليلة من ليالي المبيت في منى ولكن كان مشتغلاً بالعبادة أو خرج بعد منتصف الليل ) فلو كان يقصد هذا لأشار إليه، وجرّب ذلك بنفسك فإنك لو أردت السؤال فلابد وأن تشير إلى هذه القضيّة - يعني لو كنت قد أتيت بالبدل لكنت تشير إليه وتقول ( ولكن اشتغل بالعبادة ) - فعدم التنبيه يكون واضحاً في أنّه لم يشتغل بالعبادة ولم يخرج بعد منتصف الليل فالحمل على ذلك حملٌ على ما يرفضه سؤال السائل فسؤال السائل لا يتحمّل الحمل على ما ذُكِر وإنّما يتمّ هذا لو فرض أنّ الإمام عليه السلام قد بيّن المطلب المذكور ابتداءً . وهذه القضيّة التي أشرت إليها قضيّة كليّة يمكن الانتفاع بها في موارد أخرى فالتفت إلى ذلك.
هذا هو الجواب الأوّل عن هذه الرواية وهو ما ذكره الشيخ الطوسي(قده) مع مناقشته واتضح أنّه ليس بتام.
الجواب الثاني:- ما أفاده السيد الخوئي(قده)[13] وحاصله:- إنها وإن دلّت على نفي الكفارة بيد أنّ هذه الدلالة هي بالاطلاق وما دامت بالاطلاق فهي قابلة للتقييد فيقيّد ( لا شيء عليه ) يعني من أيّ ناحيةٍ إلّا من حيث الكفارة، فحيث إنّ الدلالة بالاطلاق فهي إذن قابلة بأن يجمع بينها وبين تلك الروايات بالحمل على التقييد.
وفيه:- إنّ القدر المتيقّن من كلمة ( شيء ) هو الكفّارة، فإذن لا يمكن أن نقيّدها بغير الكفارة بعد فرض أنّ القدر المتيقّن من كلمة ( شيء ) هو الكفارة وإنّما يتمّ هذا لو كانت الكفارة كسائر الأفراد وليست هي الفرد المتيقّن أمّا بعد كونها هي الفرد المتيقّن فهذا التقييد يكون مرفوضاً لأنّه إخراجٌ للقدر التيقّن، وهذه قضية واضحة أيضاً . إذن الجواب للمذكور ليس بتامٍّ أيضاً.


[12]  المعتمد في شرح العروة الوثقى، ج5، ص392.
[13]  المعتمد في شرح العروة الوثقى، ج5، ص391.