39/08/21


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/08/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- أصالة اللزوم - مسألة ( 52 ) – المكاسب المحرمة.

أصالة اللزوم:-المعاملة تارة يشك في لزومها بعد الجزم بصحتها ، وأخرى يشك في صحتها ، وهذا الشك في الصحة ينقسم إلى قسمين ، فتارة يشك في الصحة نتيجة احتمال فقدان شرط أو جزء ، كما في المعاطاة ، فإنه يشك في صحتها لاحتمال اعتبار الصيغة اللفظية وأخرى يشك في الصحة لا من ناحية احتمال اعتبار شرط أو جزء بل يشك في الصحة في حدّ نفسها ، فالمعاملة هي ككل يشك في صحتها لا من ناحية احتمال فقدان شرط أو جزء ، وذلك من قبيل معاملة التأمين على الحياة أو على أمور أخرى غير الحياة كالصحة أو السيارة فمعاملة التأمين يشك في اصل صحتها من باب أنها معاملة جديدة يشك انها محكومة بالصحة شرعاً أو لا ، ومن قبيل اجارة الرحم يستأجر رحم امرأة توضع فيه البويضة الملقحة وبعد ذلك يؤخذ منها الطفل وهي مجرد وعاء لا أكثر من ذلك فهل هذه الاجارة صحيحة أو ليست صحيحة فهنا الشك في الصحة بقطع النظر عن فقدان جزء أو شرط ، ومن قبيل معاملة الاستصناع كان يذهب إلى النجار فتارة يذهب إليه بالخشب ويطلب منه صناعة كرسياً من هذه الأخشاب فهذه اجارة على عمل هذا الخشب كرسياً وهذا لا مشكلة فيه فإنَّ هذه اجارة ولكنه يريد منه أن يصنع له كرسياً من عنده فهل ليس بيعاً ولا اجارة فهل هذه المعاملة صحيحة او لا ؟ ولا أريد أن أقول هي باطلة ولكن ادخالها تحت البيع فيه صعوبة لأنه لا يوجد شيء حتى يبيعه له ، ولا تدخل تحت الاجارة لأنه لم يعطه الخشب ، فهذه معاملة جديدة يصطلح عليها الاصطناع ، وربما أشير إليها في بعض كلمات علمائنا المقدمين ، فهذه معاملة نشك في أصل حصتها بقطع النظر عن فقدان جزء أو شرط.إذن صارت أنحاء الشك في المعاملة ثلاثة الشك في اللزوم بعد الفراغ من الصحة والشك في الصحة وهو ينقسم إلى نحوين فتارة يشك في الصحة من ناحية احتمال جزء أو شرط كما في المعاطاة ، وأخرى يشك في الصحة لا من ناحية فقدان جزء أو شرط بل من ناحية أنَّ أصل المعاملة يشك في صحتها أو فسادها ، فإذن لابد من عقد مسائل ثلاث.

أما بالنسبة للشك في الصحة لاحتمال فوات جزء أو شرط:- فقد تقدمت الاشارة إليه حيث ذكرنا أنَّ الأصل اللفظي كما في المعاطاة مثلاً يقتضي الصحة مادام يصدق عنوان تلك المعاملة فتلك المعاطاة يصدق عليها بيع فيشملها عموم ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فنتمسك بالأصل اللفظي إن كان هناك أصل لفظي ، وإن لم يمكن التمسّك بالأصل اللفظي لسبب وآخر فنرجع إلى الأصل العملي وقد عرفنا أنه يقتضي الفساد بمعنى عدم ترتب الأثر ، وينبغي أن يكون واضحاً أن المرحلة الأولى هي للأصل اللفظي فإن لم يكن تصل النوبة إلى الأصل العملي ، فإذا سألنا سائل وقال ماذا يقتضي الأصل عند الشك في جزء أو شرط في المعاملة ؟ فلا نجيبه بأنَّ الشيخ بين في المكاسب قال أنَّ الأصل عدم ترتب الأثر - أي الأصل الفساد – فإن هذا جواب وإن كان لا بأس به ولكنه ليس هو الجواب العلمي ، ولا تقل أيضاً إنَّ الأصل يقتضي الصحة بضرسٍ قاطع فهذا أيضاً ليس جواباً علمياً ، إنما الجواب العلمي هو أن تقول إن كان هناك أصل لفظي فنتمسّك به وتثبت بذلك الصحة وإن لم يكن فتصل النوبة إلى الأصل العملي وهو يقتضي الفساد .

إذن هذا النحو قد تقدّم الحديث عنه ولا نكرر.

وأما بالنسبة إلى الشك في أصل الصحة بقطع النظر عن الجزء أو الشرط:- فهذا عرفنا الحال فيه من خلال ما تقدم ولا نحتاج إلى عقد حديث مستقل له ، فمثلاً إذا شككنا أنَّ اجارة الرحم صحيحة أو لا وفرضنا أنه لا يوجد مانع من الصحة من هنا وهناك ، لأنه قد يكون هناك مانع بأن تشترط صاحبة الرحم وزوجها بأنَّ يكون الطفل لهم وليس لصاحبة البويضة الملقحة وقالوا نحن رأينا مثل رأي السيد الخوئي(قده) حيث قال إنَّ الطفل الذي يولد يكون لصاحبة الرحم فهي الأم وقد استدل بالآية الكريمة ﴿ إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ﴾ ، ونحن لا يهمنا استدلال السيد الخوئي(قده) وأنه تام أو لا ولكن لو بنينا على أنَّ الطفل يكون لهذه المرأة المستأجرة ، فحينئذٍ اشتراط أن يكون الطفل ليس لها هو شرط مخالف للشرع ، فحينئذٍ لا يمكن أن نحكم بالصحة لأجل هذا ، ولكن لو فرض أننا تجاوزنا هذه الناحية وقلنا لصاحبة الرحم دعي هذا الطفل لنا لكنه يبقى ابنك وصاحب الحيمن يكون هو الأب له واكتفينا بهذا المقدار فهل هذه الاجارة صحيحة أو لا ؟

اتضح من خلال ما سبق أنه إذا لم يكن هناك مانع من هنا وهناك نتمسّك بعموم ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإنَّ هذا عقدٌ من العقود وقد ذكرنا سابقاً في مسألة المعاطاة أنَّ عموم ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ يدل على أنَّ كل عقد محكوم بحكمين أحدهما اللزوم لأنَّ ( أوفوا ) يدل على اللزوم ، والحكم الثاني أنه يدل على الصحة ، فكل عقد محكوم بهذين الحكمين ، فإذن نثبت صحة هذه الاجارة بعموم ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ، وهكذا الاستصناع إذا شككنا في صحته نتمسّك بعموم ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ لا ثبات الصحة ، فعملية الاستصناع لا يصدق عليها تجارة فنتمسّك بـ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ، وكذلك التأمين على الحياة لا يصدق عليها تجارة فنتمسك لإثبات صحتها بـ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ، فـ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ عموم جيد يمكن التمّسك به في معاملة لإثبات الصحة ، هذا اتضح أيضاً من خلال ما سبق ولا نحتاج إلى الاطالة.

فإذن عموم ( أوفوا ) بل ربما غير عموم ( أوفوا ) كما ننتفع به لنفي جزئية الجزء المشكوك أو الشرط المشكوك ونصحح المعاملة كما في المعاطاة لأنها فاقدة للفظ التي نحتمل شرطيتها ونصححها بـ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ كذلك بـ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ نصحّح الاجارة على الرحم ، ونصحّح الاصطناع ونصحّح الموارد الأخرى من هذا القبيل .

إذن اتضح من خلال ما سبق أنَّ الشك في الصحة بكلا نحويه يمكن فيه التمسّك بالعمومات المذكورة لا ثبات الصحة.البحث عن أصالة اللزوم:-الشك في اللزوم تارة يكون بنحو الشبهة الحكمية وأخرى يكون بنحو الشبهة الموضوعية ، ومعنى الشك في اللزوم بنحو الشبهة الحكمية يعني أن المعاملة هذه نعرفها أنها صلح أو هبة و اجارة فنحن نعرف المعاملة بعنوانها ولكن نشك هل هي محكومة شرعاً باللزوم أو بالجواز ، فهذا شك بنحو الشبهة الحكمية اي الحكم الشرعي الكلي بعد معرفة المعاملة بشخصها ، فنحن نعرف أنها هي معاملة صلح جزماً ولكن لا ندري أنَّ الصلح في الاسلام لازم أو جائز ؟ ، وآخر بنحو الشبهة الموضوعية ، يعني أننا نعرف أنَّ الصلح لازم والهبة غير المعوّضة أنها جائزة ولكن لا نعلم أن المعاملة التي وقعت هل هي به أو صلح كان وضع شيئاً بيدي ولكنه بعد ذلك قال فسخت فإن كانت هبه غير معوَّضة لغير ذي الرحم فهي جائزة فله الحق في الفسخ وإن كانت صلحاً فهي لازمة فهنا الشك في الزوم والجواز ليس بنحو الشبهة الحكمية لأنه لا توجد معاملة مشخّصة بعينها وأشك في حكمها الشرعي وإنما توجد معاملتان أحداهما جائزة جزماً وهي الهبة والثانية لازمة وهي الصلح من دون عوض مثلاً ونشك أن المعاملة التي وقعت بيننا هل هي به أو هي صلح فهذا شك في اللزوم والجواز بنحو الشبهة الموضوعية ، فإذن مرّة نتكلم عن أصالة اللزوم في الشبهات الحكمية وأخرى نتكلم عن أصالة اللزوم في الشبهات الموضوعية.

أصالة اللزوم في الشبهة الحكمية:- يمكن الاستدلال على أصالة الزوم في الشبهات الحكمية بالوجوه التالية:-

الوجه الأول:- التمسّك بعموم ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ، وذلك بتقريبين:-

التقريب الأوّل:- أن يقال إنَّ ( أوفوا ) يدل على وجوب الوفاء بالعقد ، يعني بترتيب آثاره إلى الأبد وبالتالي لا يجوز ان يقول في الاثناء أو يقول فسخت لأن هذا خلاف أمر ( أوفوا ) فإن الآية قالت ( أوفوا ) ولم تقيدها بفترة وإنما إلى الأبد وهذا معناه أنه لا يجوز الفسخ في الأثناء ، ثم نقول: وحيث لا نحتمل أنَّ الفسخ لا يجوز تكليفاً ، يعني بأنَّ أقول فسخت فإنَّ هذا لا يحتمل أنَّ هذا اللفظ محرّم تكليفاً فإنه يوجد ارتكاز متشرعي أنَّ هذا اللفظ في ذاته ليس حراماً فإذا لم يكن حراماً تكليفاً فهو إذن حرام بالحرمة الوضعية يعني بمعنى أنه لا يترتب أثر على الفسخ وذلك ثبت المطلوب.

التقريب الثاني:- أن نقول إنَّ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ يدل على وجوب ترتيب أثر العقد إلى الأبد ويلزم اتمام العقد إلى الأبد - وهذه مقدمة مشتركة - ثم نقول وعلى هذا الأساس لا يجوز أخذ أحد العوضين من دون رضا الآخر لأنَّ ذلك خلف وجوب الوفاء إلى الأبد ومادام لا يجوز أخذ العوض إلى الأبد حينئذٍ نقول مقتضى اطلاق الآية الكريمة أنه لا يجوز حتى لو قال فسخت ، فإنه بعد قال فسخت رغم ذلك لا يجوز أن يطالب بالعوض وأخذه من دون رضا الطرف الآخر ، وإذا لم يجز أخذ العوض بعد قوله فسخت نستنتج من ذلك أنَّ العقد لازمٌ والفسخ لا يتحقق بكلمة ( فسختُ ).

الفارق الأساسي بين التقريبين هو أنه في التقريب الأوّل أثبتنا اللزوم من خلال الحكم الوضعي يعني قلنا إنَّ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ يدل على أنه يجب الوفاء إلى الأبد ، يعني لا يجوز لك أن تقول ( فسخت ) في وسط الطريق ، وحيث إنَّ عدم الجواز لا يحتمل أن يكون من المحرّمات تكليفياً بالارتكاز المتشرعي ، فهو عدم جواز وضعي ، فإذ اثبتنا عدم الجواز الوضعي الذي هو المطلوب ابتداءً من الآية الكريمة ، لا أننا انتقلنا إلى الجواز الوضعي من خلال الجواز التكليفي ، بل الآية الكريمة دلت ابتداءً على الجواز الوضعي.

وهذا بخلافه عل التقريب الثاني ، فأوّلاً أثبتنا حرمة أخذ العوض من دون رضا الطرف ، وهذه حرمة تكليفية ، ثم قلنا إنَّ مقتضى الاطلاق هو أنه يحرم أخذ العوض حتى لو قال الشخص ( فسخت ) ، ثم بعد ذلك قلنا: إذا كان لا يجوز أخذ العوض حتى بعد فسخت فهذا معناه أن فسخت باطل ولا ينفع ، ولكن استفدنا فساد الفسخ وبطلانه ولزوم المعاملة من جوب الوفاء إلى الأبد حتى بعد قول ( فسخت ) ، فمن هذا الوجوب التكليفي انتزعنا الحكم الوضعي وقلنا إذن المعاملة لازمة.إذن الفارق بين التقريب الأول والتقريب والثاني هو أنَّ الأوّل يثبت اللزوم مباشرة لا أنه نستفيد من الحكم التكليفي ، أما التقريب الثاني نحن نستفيد فيه اللزوم من الحكم التكليفي.