39/07/20


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/07/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- وقوع البيع بالمعاطاة - مسألة ( 51 ) - المكاسب المحرّمة.- المكاسب المحرمة.

أما بالنسبة إلى الاشكال الأول:- أعني ( إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام ) ، ومحل كلامنا في سيرة العقلاء ، وأقول شيئاً: وهو أنه حينما نتمسّك بسيرة العقلاء لا نقصد منها سيرة العقلاء في زمانا هذا بقطع النظر عن زمان المعصوم عليه السلام ، كلا بل المهم هو سيرة عقلاء في عهد المعصوم عليه السلام حتى يكون السكوت دالاً على الامضاء وهذه قضية ينبغي أن تكون واضحة ، ولعل الشيخ الأعظم(قده) لم يبدِ هذا الاحتمال باعتبار أنه لو نظرنا إلى زمن المعصوم ونظرنا إلى زرارة وأمثاله فيمكن أن يقال إنَّ هؤلاء متشرعة فهذه السيرة هي سيرة متشرعة ، فأشكل(قده) بأنه يحتمل أنها ناشئة عن تسامح وسكت عن سيرة العقلاء لاحتمال أنَّ تلك السيرة هي سيرة متشرعة ، وهذه قضية جانبية ليست مهمة.

فسيرة العقلاء قد أشكل عليها بإشكالين:-

الاشكال الأوّل:- هو حديث ( إنما يحل الكلام ويحرّم الكلام ) ، فلنقرأ هذا الحديث ونلاحظ سنده ودلالته ، وقد نقله عليّ بن إبراهيم[1] عن أبيه عن ابن أبي عمير عن يحيى بن الحجاج عن خالد بن الحجاج قال:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- الرجل يجيء فيقول اشترِ هذا الثوب واربحك كذا وكذا ، قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ ؟ قلت: بلى ، قال: لا بأس ، إنما يُحِلّ[2] [ يحلّل[3] ] ويحرّم الكلام )[4] .

والكلام مرة يقع من حيث الدلالة وأخرى من حيث السند:-

أما من حيث الدلالة فيقال:- إنها قالت في ذيلها ( إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام ) يعني أنَّ المدار على الكلام فهو الذي يحلل الأشياء ، فوجوده يحلل وعدمه مثلاً يحرّم ، وحيث إنَّ المعاطاة لا كلام فيها فلا تحليل ، فالمعاطاة لا تفيد الملك لأنه لا يوجد فيها كلام وصيغة ، ولعل صاحب الوسائل(قده) فهم هذا المعنى ، لأنه ذكر في الهامش: ( فيه دلالة على عدم انعقاد البيع بغير صيغةٍ فلا يكون بيع المعاطاة معتبراً فتدبّر ).

ونلفت النظر إلى أنَّ هذه الرواية قد يتمسّك بها لإثبات الردع عن السيرة كما حاولنا أن نصع هكذا ، وقد يتمسّك بها لمعارضة أدلة صحة المعاطاة بقطع النظر عن السيرة ، وسيأتينا فيما بعد أدلة أخرى نتمسّك بها لإثبات صحة المعاطاة كـ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإنَّ العقد لا يشترط أن يكون لفظاً وإنما هي نحو من المعاقدة فإذا قيل إنه عقد ويشمله ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ يقال يوجد معارض وهو ( إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام ) ، فإنَّ هذا الحديث يتمسّك به لإثبات الردع عن خصوص السيرة لا أكثر كما نحن الآن نحاول هذا المعنى ، وأخرى نتمسّك به لمعارضة أدلة صحة المعاطاة غير السيرة فيقال إنَّ تلك الأدلة لها معارض ، هذه قضية جانبية ينبغي الالتفات إليها.

وأما من حيث السند:- فإنه لا مشكلة فيه إلا من ناحية ( يحيى بن الحجاج عن خالد بن الحجاج ) ، وفي بعض النسخ يحيى بن الحجاج يوجد بدله خالد بن الحجاج ، وهما أخوة ، ويحيى يوجد توثيق في حقه حيث وثقه النجاشي ، أما خالد فلم يرد في حقه توثيق ، ولكن إذا كان ابن أبي عمير هو الراوي عن خالد كما في بعض النسخ فسوف تثبت وثاقته بناء كبرى وثاقة كل من روى عنه أحد الثلاثة ، ولكن كما قلت هذه نسخة أما النسخة الأخرى الموجودة في الوسائل فإنَّ ابن أبي عمير يروي عن يحيى ويحيى يروي عن أخيه خالد بن الحجاج ، فالسند لا يمكن الجزم باعتباره.

وهذا ليس بمهم لنا فنحن نذكر هذه النكتة كلّها مقدّمة إلى نكتةٍ أخرى:- وهي أنه حينما نريد أن نتمسّك بهذه الرواية كرادع عن السيرة فهل يمكن أن يقال إنَّ هذه الراعية مدفوعة وباطلة بسبب عدم تمامية السند لأنَّ السند ليس من المعلوم أنه حجة فتبقى السيرة العقلائية بلا رادع ، فهل هذه الكلام علمي أو أنه قابل للمناقشة ؟

والجواب:- إنَّ هذه الرواية وإن لم تكن حجة سنداً ولكن بالتالي يحتمل صدورها ، فإنَّ الذي ليس بحجة ليس معناه أنه لم يصدر حتماً وإنما احتمال الصدور موجود ، ومادام يحتمل الصدور فهذ السيرة العقلائية لا نجزم بعدم وجود الرادع لها ، بل نحتمل وجود الرادع وهو هذه الرواية ، فإذن لا يمكن التمسّك بالسيرة.

وهذه فائدة مهمة:- هي إنَّ سيرة العقلاء لا تكون حجة إلا إذا لم يصدر ردع عنها وعدم الصدور لابد وأن يكون بنحو الجزم ، أما إذا احتمل صدور الردع فلا تكون حجة ، فإذا كان لدينا رواية ضعيفة السند وهي بقطع النظر عن السند صالحة للردع فعلى هذا الأساس لا تكون سيرة العقلاء حجة لاحتمال وجود الرادع عنها ، فإذن وجود الخبر الضعيف سنداً يكفي لسقوط السيرة عن الاعتبار.

وقد يقول قائل:- إنَّ السيرة المستحكمة تحتاج إلى رادع مساوٍ لها لا أنه ردع ضعيف ، فإذا كانت السيرة مستحكمة لدى العقلاء على المعاطاة فنحتاج إلى أكثر من رواية للردع عنها.

ولكن نقول:- إنَّ هذا كلام مقبول ولكنه لا يرد هنا ، فهنا حتى لو كانت هذه الرواية معتبرة السند فعلى الكلام الذي ذكرناه نقول هي لا تصلح للرادعية رغم صحة سندها ، لأنَّ السيرة المستحكمة تحتاج إلى رادع قوي وهذا الخبر وحده أو وجود عمومٍ واحد قد يقال بأنه لا يكفي للردع ، وأنا لا أريد أن أقول حتماً ولكن أريد أن أفتح الآفاق ، فإذا أراد شخص أن يناقش هكذا فهذه قضية ثانية ولكن هذه قضية لا ترتبط بضعف السند ، فالفائدة التي نريد أن نقولها هي أنَّ ضعف سند الرواية لا يمنع من التمسّك بها لإبطال السيرة العقلائية الردع عنها ، لأنه بالتالي يحتمل صدور هذه الرواية فيحتمل وجود الرادع ، أما هذه الجملة الثانية التي ذكرتها فتلك قضية لا ترتبط بضعف السند وإنما ترتبط بأنَّ الفعل لابد أن يكون ردَّ الفعل له مساوٍ في القوّة ومعاكس له في الاتجاه لا أنك تأتي لنا بخبرٍ واحد فإنَّ هذا لا ينفع مادامت السيرة مستحكمة.

إذن في مقامنا هذه الرواية حتى لو كانت ضعيفة السند هي صالحة للردع عن السيرة العقلائية ولإبطالها عن الحجية.

نعم لو أردنا أن نستعين بهذه الرواية فنحن نستعين بها لردّ أدلة المعاطاة الأخرى مثل ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ، فأيضاً تأتي هذه الرواية وتقف كمعارض أمام الآية الكريمة ، وهناك نقول حيث إنَّ هذه الرواية ضعيفة السند وأنَّ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ تام السند فلا تصلح لمعارضة ما هو تام السند ، فتبقى عمومات ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ و ﴿ تجارة عن تراض ﴾ و﴿ أحل الله البيع ﴾ صالحة للرجوع إليها مادام لا يوجد مخصّص أو معارض حجة.

إذ اتضح الفارق ، فإنَّ حجية سند هذ الرواية لا نحتاج إليه إذا فرض أنَّ هذه الرواية ذكرت كرادعٍ عن السيرة ، ونحتاج إلى حجيتها سنداً إذا أبرزت كمعارض إلى عمومات ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ و ﴿ أحل الله البيع ﴾ و ﴿ تجارة عن تراض ﴾ ، هذه فائدة ثانية.

إذن هي صالحة للردع عن السيرة رغم أنها ضعيفة السند ، وقد قلنا إنَّ هذا بقطع النظر عن الجواب الآخر وهو أنه نحتاج إلى رادع بروايات أخرى أكثر فإنَّ تلك مناقشة أخرى ، ولكن لو غضضنا النظر عن تلك المناقشة فهذه المناقشة من أنها ضعيفة السند .فإذن من هذه الناحية لا مشكلة من حيث السند ، فهي صالحة للرادعية .ولكن هل يستفاد من دلالتها الرادعية عن السيرة ؟

والجواب:- إنَّ هذه الرواية فيها احتمالات أحدها ينفعنا أما البقية فلا تنفعنا ، والاحتمال الذي ينفعنا هو أن نفسّر فقرة ( إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام ) بأنَّ ثبوت الأثر في كل مورد يحصل بوجود الكلام أما بعدم الكلام فينعدم الأثر وهو البيع في موردنا ، فإذا فسّرنا هذه الفقرة بهذا التفسير فحينئذٍ تفيد الرادعية عن هذه السيرة العقلائية ، ولكن توجد احتمالات أخرى ، فالاحتمال الثاني هو أن يكون المقصود أنَّ المضمون الواحد قد يؤدّى بكلامٍ فيثبت الأثر وقد يؤدى بكلام آخر فلا يثبت الأثر ، مثل حلّية المرأة ، فإذا فرض أنه كان من خلال لفظ ( انكحتك نفسي ) و( قبلت ) فتترتب حلّية البضع ، وأما إذا كان من خلال لفظ ( آجرتك نفسي ) أو ( بذلت لك نفسي ) أو ( لنشكّل صداقة بيننا ) فهذا لا ينفع ، فالمقصود من ( إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام ) هو أنَّ المضمون الواحد قد يؤدّى بكلامٍ فيثبت الأثر وقد يؤدّى بكلام آخر فلا يثبت الأثر ، وبناءً على هذا لا تكون الرواية رادعة عن السيرة بل هي أجنبية عنها ، والاحتمال الثالث هو أنه إذا فرض أنَّ هذا الذي قال لي ( اشتر لي هذا الثوب ) تارة يصدر ايجاباً قبل أن أذهب واشتري الثوب فيقول ( أنا اشتريت منك الثوب ) - أي الذي لا يوجد عندي ولكني سوف أذهب ويشتريه - ، فإذا فرضنا أنَّ هذا الشخص الذي عشق هذا الثوب جاء وسأل البائع فقال له هل يوجد عند الثوب فقال له كلا لا يوجد عندي وإنما سوف أشتريه وأعطيه لك فقال له المشتري ( أنا اشتريت منك الثوب ) فهذا باطل ، وإذا فرض أنه واعده مجرّد مواعدة فيذهب ويشتري الثوب ثم يبيعه منه فهذا حلال ، فيحتمل أن يكون المقصود من فقرة ( إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام ) هذا المعنى ، وقرينته موجودة في الرواية ، فإنَّ ألفاظ الرواية تساعد عليه حيث ورد فيها: ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يجيء فيقول اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا ، قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء اخذ ؟ قال: بلى ) ، يعني مادام لا يوجد ايجاب فلا مشكلة وإنما المشكلة فيما لو فرضنا أنه صدر الايجاب والقبول قبل أن يشتريه البائع من المخزن ، ولعله يوجد احتمال رابع وخامس في الرواية ، وهذا الاحتمال الثالث لا ينفعنا للردع عن السيرة أيضاً.

فإذن الذي ينفعنا هو الاحتمال الأولى ، ولكن لا تقل هو مجرّد احتمال لا مثبت له فإنَّ هذا ليس فنياً ، لأنه بالتالي سوف يبقى احتمال الرادعية ، يعني يحتمل أنَّ هذا هو المقصود فيحتمل أنَّ هذه الرواية رادعة عن السيرة ، يعني وجود هذا الاحتمال الأوّل مجرّد كونه احتمال له وجاه في حدّ نفسه ومحتمل بدرجة خمسين بالمائة يكفي في الردع ، فلابد أن تبطله لا أنك تقول هو لا مثبت له ، بل لابد أن تأتي بمثبتٍ للعدم ، فتقول إنَّ هذا الاحتمال عدمه ثابت وإلا فمجرد الاحتمال يكفي للردع عن السيرة .وكيف نبطله ؟

يمكن إبطاله على ما ذكر الشيخ الأعظم(قده) في الكاسب حيث قال:- إنه يمكن ابطاله بما يلي:-

أوّلاً:- إنَّ أصل مضمونه باطل - يعني كل الأشياء لا تحل إلا بالكلام فإنَّ هذا غير مقبول - ، فإنَّ الكثير من الأشياء تحل بغير الكلام ، كأن أمشي في غابة ورأيت تفاحة فيحلّ لي أخذها من دون كلام ، أو اتصرف في مال الغير بطيب نفسه فإن هذا من دون كلام ، وهكذا أشياء كثيرة هي حلال من دون كلام ، فلا ينحصر المحلل بالكلام[5] .

ولكن يمكن أن يقال:- أنتم فسرتم ( إنما يحلل الكلام ) بعرضه العريض ، ولكن نقول إن المقصود من ( إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام ) هو في باب المعاملات لا أنّ كل شيء يحلّ بالكلام حتى تضرب هذه الأمثلة ، فليس المقصود هو في كل الأشياء وإنما المقصود هو في المساحة الضيقة - أي في باب المعاملات - ، فإذا أردنا أن نقول هكذا فهذا سوف تصير له وجاهة في الجملة.


[1] يعني نقله الشيخ الكليني واتفاقاً الشيخ الطوسي نقل هذا الحديث أيضاً والسند واحد.
[2] هكذا موجود في الوسائل.
[3] وهكذا موجود في الكافي.
[4] وسائل الشيعة، العاملي، ج18، ص50، ابواب أحكام العقود، ب8، ح4، ط آل البيت.
[5] المكاسب المحرمة، الأنصاري، ج2، ص60.