39/06/23


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/06/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 49 ) اشتراط الموالاة بين الايجاب والقبول - المكاسب المحرّمة.

وفيه:- إنه بالإمكان أن يقال إننا لا نشعر بالفرق بين هذه العناوين الثلاثة ، فإذا فرض أنَّ العقد كان يعتبر فيه الصورة الاتصالية المتوقفة على الموالاة كما اعترف بذلك الشيخ الأعظم(قده) فنفس الكلام يأتي في عنوان البيع والتجارة ، وإذا لم نعتبر ذلك في عنوان البيع والتجارة لم نعتبره أيضاً في عنوان العقد ، وهذه قضية وجدانية.

وربما يدافع الشيخ الأعظم(قده) ويقول:- إنَّ القعد مأخوذ من المعاقدة يعني شدّ وربط وهذا يتوقف على الاتصال والموالاة ، بخلافه في البيع فإنه لم يؤخذ في مفهومه الشد والعقد والربط.

وجوابه واضح حيث يقال:- إنَّ البيع أيضاً بالنظر العرفي يعتبر فيه نحو من الاتصال فلو فرض أن شخصاً قال ( بعت ) قبل سنة وبعد السنة قال المشتري ( قبلت ) فهل هذا يقال له أنه بيع بعد هذا الفاصل الطويل ؟ فكما يمكن التشكيك في صدق العقد يمكن التشكيك في صدق عنوان البيع.

إذن الفرق بينهما صعب فإن اعتبر الاتصال والمولاة في واحد يلزم أن يعتبر في الثلاثة وإن لم يعتبر فلا يعتبر في الثلاثة ، ونحن في المناقشة الثالثة الآتية سوف نبيّن أنه يمكن أن يقال لا يعتبر ذلك ، فإذن هذه المناقشة الأولى للشيخ الأعظم(قده) وقد عرفت ما فيها ، وفي المناقشة الثالثة سوف يتجلّى الأمر أكثر ، ولكن اكتفينا الآن بأننا لا نشعر بوجود فارقٍ بين هذه العناوين الثلاثة ، هذه هي المناقشة الأولى على الوجه الأوّل.

المناقشة الثانية على الوجوه الأوّل:- ما جاء في مباني منهاج الصالحين[1] ، وحاصله: إنَّ العنوان لا يعتبر في كل مورد فيه تحقق الموالاة ، ألا ترى إذا فرض أنَّ الشخص كان يقرأ القرآن في كل يوم كان يقرأ صفحة أو صفحتين بالتالي يقول قرأت القرآن وختمته مع وجود هذه الفواصل.

إذن في أي عنوان من العناوين لا يلزم فيه في أي مورد اعتبار المولاة ، ونصّ عبارته:- ( لا يلزم في صدق العنوان في كل مورد تحقق الموالاة بين أجزاء ذلك المركّب ولذا نرى أنه يصدق قراءة القرآن وختمه على من فقرأ منه في كل شهر مقداراً بحيث يختمه في طول سنة ).

وفي مقصوده احتمالان:-

الأول:- أن يكون مقصوده أنه لا تعتبر الموالاة أبداً في أي عنوان وفي أي مورد ، فغرضه هو السلب الكلي.

الثاني:- يحتمل أنَّ مقصوده هو السلب الجزئي ، يعني لا أنَّ الموالاة معتبرة دائماً ، بل ربما تكون معتبرة في بعض الموارد ولا تكون معتبرة في بعضها الآخر.

فإذا كان يقصد الأوّل فهذا خلاف الوجدان ، وإذا كان يقصد الثاني فهذا مسلّم ، ومن يدّعي اعتبار الموالاة فهو لا يقول بأنها معتبرة في جميع الموارد بشكل كلّي ، فعلى أيّ حال هذا الكلام لم نفهم المقصود منه.

المناقشة الثالثة للوجه الأوّل:- أن يدّعى أنَّ العقد يصدق من دون موالاة بين الايجاب والقبول ، والعرف أو الوجدان ببابك ، فلو فرض أنَّ شخصاً قال لآخر بعتك داري بكذا وأراد الثاني أن يقول قبلت ولكن أخذه السعال إلى أن مضت نصف ساعة مثلاً قم بعد أستقر قال ( قبلت ) ألا يصدق العقد في مثل هذه الحالة ؟! إنه يصدق العقد ، وهكذا لو فرض البائع قال بعت والمشتري قال له انتظرني إلى يوم الجمعة حتى استخير ثم بعد أن استخار فكانت الاستخارة جيدة فقال له قبلت ألا يصدق العقد والبيع ؟! ، وهكذا لو فرض أنَّ شخصاً كتب إلى صاحبه ( بعتك داري ) وأوصلها عن طريق البريد والثاني أرسل له رسالة وكتب فيها ( قبلت ) فهنا ألا يصدق العقد والبيع ؟! ، وهكذا لو فرض أنَّ شخصاً أهدى لي هدية من بلاد الهند فأوصلوها لي الزوّار فحينما وصلت لي قلت ( قبلت ) وأخذتها والهدية تحتاج إلى إيجاب وقبول فألا يتحقق في مثل هذه الحالة عنوان عقد الهبة أو نقول هو لم يحصل لأنَّه صار فاصل بين الايجاب والقبول ؟! ، إنَّ هذا مخالف للوجدان ، فإننا نأخذ الهدايا من هذا القبيل وهذا أدل دليل على أنه يصدق عقد الهبة من دون حاجة إلى موالاة.

ومن هنا يمكن أن نستنتج أنَّ العقد شيء آخر ليس هو نفس الايجاب والقبول ، يعني ليس نفس بعت واشتريت ووهبت وقبلت وإنما العقد أو البيع هو عبارة عن ارتباط التزام مُبرَز بالتزام مُبرَز ، فإذا ربط بين الالتزامين المبرَزين فهذا هو العقد وهذا هو البيع وهذا هو الهبة وما شاكل ذلك ، وعلى هذا الأساس حينما قال الشخص بعت فهو قد أبرز التزامه بالبيع والنقل وذاك الشخص الآخر حينما أخذه السعال لا يؤثر ذلك ولو طال السعال لفترة يوم مثلاً ، فبالتالي ذلك الالتزام المبرَز من طرف البائع بَعدُ موجود ولم يزل ، نعم كلفظ ( بعت ) فقد انتهى ولكن كالتزام مُبرَز فهو بَعدُ موجودٌ ، فالطرف الثاني بعد أن زال سعاله قال ( قبلت ) فإذن هو قد أبرز التزامه فارتبط هذا الالتزام بذاك الالتزام وهو عبارة عن العقد ، وهكذا في الهدية فإنه حينما أرسل ذلك الشخص الهدية ابرز التزامه وهذا الالتزام المبرز موجود مستمر إلى أن تصل الهدية بيدي وأنا ابرز التزامي بأن أقول قبلت أو آخذها فهنا ارتبط الالتزامان المبرزان.إذن تعالوا إلى أن ندّعي أنَّ العقد ليس هو هذا الايجاب والقبول اللفظي كألفاظٍ متصرّمة ، بل القد والبيع هو اسم للربط بين الالتزامين المبروزين ، ربط التزام مبرز بالتزام مبرز ، وهذا تفسير جديد للعقد أو البيع أو الهبة أو لغيرهما ، وبناءً على هذا أننا نعتبر المولاة بهذا المعنى ونرفضها بمعنىً آخر ، فنحن نرفضها بمعنى تحققها بين الايجاب والقبول اللفظيين فإنها ليست لازمة ، ونقبلها بمعنى بقاء الالتزام المبرز إلى أن يرتبط به الالتزام الثاني ، فالموالاة هي بهذا المعنى ، يعني الربط بين الالتزامين فهذه معتبرة ، فإذا انصرف الطرف الأوّل عن التزامه قبل أن يبرز الثاني التزامه فسوف لا يصدق العقد والبيع والهبة.إذن هذه نتيجة مهمة وصلنا إليها ، وهي أنَّ العقد أو البيع أو غير ذلك ليست عبارة عن الايجاب والقبول اللفظيين ، وإنما العقد والبيع وهكذا الهبة وبقية العقود الأخرى عبارة عن ربط التزام مُبرَز بالتزام آخر مُبرَز ، وعلى هذا الأساس تكون الموالاة معتبرة بهذا المعنى لا بذلك المعنى.

نعم ربما يقال كما قال الشيخ النائيني(قده)[2] :- حيث أراد أن يقول نحن لا نقبل مثال الهدية فإنَّ الايجاب فيها لا يتحقق بالإرسال والدفع بيد الرسول وإنما يتحقق بالوصول ، فحينما يأتي الرسول ويضع الهدية بيدي فهنا صار الايجاب وإلا بالدفع بيد الرسول ليس إيجاباً ، وأيضاً يتحقق القبول مني بمدّ يدي استلام الهدية ، فاتصل الايجاب بالقبول.

فالشيخ النائيني(قده) أراد أن يجعل الايجاب متصلاً بالقبول حقيقةً لا أنه يوجد فاصل وأنَّ المسألة هي ربط بين التزامين ، كلا وإنما الايجاب بالمعنى الأوّل يتحقق الايصال ، ومثّل بمثال وقال:- كما لو فرض أنَّ شخصاً كان في المشرق وكانت له يد طويلة تمتد إلى المغرب فرفع هدية من مكانه بيده ومدّ يده إلى أن وصلت إلى المغرب فسلّمها إلى صديقة ، فهنا يتحقق الايجاب حينما يسلّم الهدية بيد صديقه في المغرب لا أنه يتحقق بأخذها بيده في المشرق ، فحينما وصلت إلى يد صديقه والصديق أخذها فهنا تحقق الايجاب مع القبول مقترنين ، فإذا قبلت بهذا في هذا المثال نقول إنَّ هذا الرسول الذي يأتي من بلاد الهند إلى هذا المكان هو بمثابة تلك اليد الطويلة للمُهدِي ، فهو حينما يوصل الهدية لي فحينئذٍ تحقق الايجاب ، فالإيجاب يتحقق بالوصول لا بالإرسال ، فإذن اتصل الايجاب بالقبول.

وفي الجواب نقول:- إنَّ هذا يمكن التأمل فيه ، باعتبار أنَّ المرسِل قد يكون غافلاً عن الهدية وأنه الآن أوصلها الرسول أو لم يوصلها ، يعني حينما جاء الرسول وسلّم الهدية بيدي لا نستطيع أن نقول الآن قد تحقق الايجاب من المرسِل لأنَّه قد يكون نائماً ، فكيف يتحقق منه الايجاب ؟!! ، نعم لو كان مستيقظاً وعلى التفات وشعور فهنا يوجد مجال ، أما إذا فرض أنه في الكثير من الأحيان يكون غافلاً أصلاً باعتبار أنَّ وصول الهدية يحتاج إلى شهرٍ مثلاً فربما يكون غافلاً أو نائماً أو غير ذلك ، فإذن لا معنى لأن نقول الايجاب يتحقق من حين الاستلام حتى يثبت بذلك اتصال الايجاب والقبول ، وإنما تحقق الايجاب بمجرّد الارسال في ذلك البلد وهذا لا يتم إلا بناءً على فكرة أنَّ العقد عبارة عن الربط بين الالتزامين مُبرَزين.

وعلى هذا الأساس تكون النتيجة النهائية لحدّ الآن أننا نفسّر العقد بالربط بين الالتزامين المبرزين ، وبناءً على هذا المعنى لا تشترط لموالاة بمعنى اتصال الايجاب اللفظي بالقبول اللفظي ، بل المهم أن يتصل الالتزام المبرز بالالتزام المبرز.

وبهذا يتضح تفسير عبارة المتن:- لأنه قال فيها ( تعتبر الموالاة ) ويقصد من الموالاة هنا هذا المعنى الثاني يعني الالتزام المبرز لابد أن يكون متصلاً بالالتزام المبرز لا أن يحصل انصراف في البين ، نعم الموالاة بمعنى اتصال الايجاب اللفظي بالقبول اللفظي ليس بلازمة.

وبهذا يتضح الردّ على الشيخ الأعظم(قده) أيضاً في مناقشته الأولى:- حيث فرّق بين العقد وبين البيع والتجارة ، ونحن نقول: إنَّ الجميع من وادٍ واحد ، فمتى ما كان الالتزام المبرز باقياً والتزم بالالتزام المبرز الثاني تحققت جميع العناوين الثلاثة بلا فرق ، فالموالاة معتبرة بهذا المعنى لا بمعنى اتصال الايجاب اللفظي بالقبول اللفظي.


[1] مباني منهاج الصالحين، ج7، ص367.
[2] منيبة الطالب، النائيني، ج1، ص253.