39/05/25


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/05/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- شروط العقد ( الفصل الأول ) - المكاسب المحرّمة.

الحكم الرابع:- الإجبار من دون تعيين.

والمقصود أنه إذا كان الشخص محتكراً فالوظيفة هي أنه يجبر على بيع الطعام وعرضه في السوق لكن من دون أن يسعّر عليه - يعني لا يقال له لابد أن يكون السعر كذا - ، ومن الواضح أنَّ المقصود هو مادامت الأسعار التي يريدها في حدود القيمة السوقية فإنه قد تتفاوت القيمة السوقية بدرهم أو درهمين أو ما شاكل ذلك وهذا كلّه في حدود القيمة السوقية ، فحينئذٍ لا يعيّن له قيمة معيّنة مادام ما يريده في حدود القيمة السوقية المتعارفة غايته مع زيادة أو نقصان لكن هذا لا يؤثر ، وأما إذا كان السعر مجحفاً ولم يكن في حدود القيمة السوقية - كما هي العادة - ففي مثل هذه الحالة يحق للحاكم الاسلامي أن يجبره على النزول عن تلك القيمة المجحفة من دون أن يعيّن له قيمة معينة ، بل المهم أن ينزل عن القيمة المجحفة ويبقى تعيين القيمة غير المجحفة أمراً راجعاً إليه مادام هناك تفاوت في القيمة غير المجحفة.

والسؤال:- ما هو الدليل على أنه من حق الحاكم ذلك وأنه يجوز له اجباره والحال أنَّ قضية التسعير راجعة إلى المالك ، فالمالك يريد عرض وبيع سلعته بهذا السعر أو بذاك فكيف نوجّه جواز ذلك للحاكم ؟

والجواب:- أما بناءً على ما ذكرناه من أنَّ حرمة الاحتكار تختص بالحالتين المتقدمتين[1] فلا نحتاج إلى دليل يدل على جواز اجبار الحاكم المحتكر على النزول من القيمة المجحفة ، فإنَّ نفس الدليل الذي أعطى الحق للحاكم أن يجبر المحتكر على عدم الاحتكار وعرض الطعام في السوق يمكن التمسّك به لإثبات أنَّ الحاكم له الحق في أن يجبره على النزول عن القيمة المجحفة ، وتلك النكتة هي التحفّظ على حياة المسلمين[2] والحفاظ على النظام الاقتصادي من التدهور[3] ، فهذه النكتة بنفسها تقتضي أنَّ للحاكم الحق في أن يجبره على النزول عن القيمة المجحفة ، إذ لو لم ينزل عن القيمة المجحفة للزم تدهور النظام الاقتصادي كما يلزم من ذلك الخوف على المؤمنين من الموت أو ما بحكم الموت ، لأنَّ الطعام إذا عرض بسعرٍ مجحف فسوف لا يتمكن الناس من الشراء فعاد المحذور وهو الخوف عليهم من الموت أو ما بحكمه ، فإذن نفس النكتة التي اقتضت وجوب عرض الطعام وعدم جواز الاحتكار تصلح أن يستند إليها الحاكم الاسلامي في المنع عن السعر المجحف والأخذ بالقيمة السوقية المتعارفة.

إنما الكلام على رأي غيرنا[4] الذي يرى أنَّ الاحتكار حرام في أوسع من هاتين الحالتين ولا يقيد بهما ، فإنَّ الدليل على ذلك لابد وأن يكون دليلاً نقلياً ، فنرجع إلى الروايات ، وقد ورد في عهد الامام علي عليه السلام لمالك الأشتر ما يدل على أنَّ للحاكم الاسلامي الحق في أن يعيّن السعر المتعارف ، حيث جاء فيه:- ( فامنع من الاحتكار فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار [ واسعا ] لا تجحف بالفريقين من البائع والمشتري ) ، فنفس ما ورد في العهد يمكن الاستناد إليه في هذا المجال.

هذا وربما يتمّسك بوجهين آخرين:_

الأوّل:- التمسّك بقاعدة ( لا ضرار ) فـي (لا ضرر ولا ضرار ) بتقريب: أنَّ فقرة ( لا ضِرار ) تحرّم الضِرار يعني الإضرار بالآخرين ، وهذا المحتكر هو مضرٌّ بالآخرين فيكون فعله منهيّ عنه ، والضِرار لا يرتفع بعرض الطعام في السوق فقط وإنما يرتفع بعرضه في حدود الأسعار المتعارفة وإلا فلا يرتفع ، فإذن فقرة ( ولا ضِرار ) بناء على تفسيرها بالنهي عن ادخال الضرر على الغير هي بنفسها تصلح لأن يتمسّك بها لإثبات هذا الحق للحاكم.

ويمكن الجواب:- بأنَّ هذا الحديث وارد مورد المنّة على المجموع لا على شخصٍ دون آخر ، وحيث أنه من حقّ صاحب الطعام أن يعرض طعامه بأيّ سعرٍ يريد فحينئذٍ لو عيّن له الحاكم سعراً على خلاف ما يرغب فيه فهذا خلاف المنّة عليه ، نعم تتحقق المنّة للمسلمين ولكن بلحاظه لا تتحقق المنّة والمفروض أنَّ هذا الحديث وارد مورد الامتنان على مجموع الأمة ، فعلى هذا الأساس لا يمكن التمسّك به لأجل هذه النكتة ، فإذن لا يمكن التمسك بهذا الوجه.

الثاني:- إنه مادمنا جوزنا الإجبار من قبل الحاكم للمحتكر على عرض السلعة وعدم الاحتكار حسب ما دلت عليه الروايات فنفس جواز الاجبار يدلّ بالدلالة الالتزامية على جواز تحديد السعر له بأن لا يكون مجحفاً.

وجوابه:- إنَّ الاجبار يكون اجباراً على عرض السلعة أما أنه يكون دليلاً أيضاً على أن يكون السعر متعارفاً لا أكثر من ذلك فهذا خارج عن قضية جواز الإجبار وإنما هو قضية ثانية ، فإنَّ أقصى ما دلت عليه الروايات هو جواز الاجبار ، يعني يجبره على عدم الاحتكار ، أما أنه يحدد له السعر فهذا لا تدل عليه ، إلا اللهم أن يدّعى وجود دلالة التزامية عرفية على ذلك ، فحينما يقال ( امنع من الاحتكار ) يعني بالالتزام العرفي ( وحدّد الأسعار المتعارفة ) ، فإذا فهم هذا بالالتزام العرفي فهذا شيء مقبول ، ولكن عهدة هذه الدعوى على مدّعيها.

إذن المناسب التمسك بما ورد في عهد الامام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر فإنه صريح في ذلك.

يبقى الكلام في روايتين:-

الأولى:- هي أوّل رواية ذكرناها من الروايات العشر حيث جاء فيها:- ( نفد الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فاتاه المسلمون ......... ثم قال:- يا فلان إنَّ المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شيء عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه ) ، إنها تدل على أنه يبيعه كيف شاء ولو كان السعر مجحفاً ، فإذن هذه الرواية تضرنا لأننا نريد أن نثبت لزوم أن لا يكون السعر مجحفاً.

والجواب:- إنَّ المقصود جزماً هو أنه بعه كيف شئت يعني بالأسعار المتعارفة لا أنه يريد أن يقول له حتى لو كان السعر مجحفاً يجوز لك ذلك ، فإنه لا يحتمل أنه يسمح له النبي صلى الله عليه وآله بذلك أصلاً ، فإذن لابد من حمل ذلك على أن يكون المقصود هو هذا ولو من جهة الجمع بينه وبين ما ورد في عهد الامام عليه السلام لمالك الأشتر إن لم نجزم من الخارج بأن المقصود هو في حدود القيمة السوقية المتعارفة ، فحينئذٍ جمعاً بينه وبين عهد الامام لمالك الأشتر نحمله على ذلك.

الثانية:- وهي أيضا عن البني صلى الله عليه وآله حيث ورد فيها:- ( ..... فقيل له:- لو قوّمت عليهم ؟ ........ فقال:- أنا أقوّم عليهم ؟!! إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء ) ، فهذه الرواية أيضاً نهت عن تحديد السعر ، فعلى هذا الأساس سوف تنافي ما انتهينا إليه من أنه يجوز له أن يجبره على النزول عن السعر المجحف.

والجواب:- إنه لابد وأن يكون المقصود أنه مادام السعر سعراً متعارفاً فأنا لا أتمكن أن أخفض السعر فإنَّ ارتفاع القيمة السوقية وهبوطها أمر يرتبط بالله عزّ وجلّ ، فالمقصود أنه مادام السعر في حدود القيمة السوقية المتعارفة التي أمرها إلى الله تتعالى فهذا ليس بيدي ولا أفعل شيئاً يخالف ذلك ، فإذن لا بد من حملها على هذا ، ولا اقل من ناحية الجمع بينها وبين عهد الامام عليه السلام لمالك الأشتر.

وبهذا ينتهي حديثنا عن مسألة الاحتكار وندخل في مسألة البيع.

 

الفصل الأوّل:- شروط العقد.

البيع هو نقل المال بعوض بما أن العوض مال لا لخصوصية فيه والاشتراء هو اعطاء الثمن بإزاء مال المشتري غرض فيه بخصوصه في شخص المعاملة فمن يبيع السكّر مثلاً يريد حفظ مالية ماله في الثمن للكن المشتري إنما يطلب السّكر لحاجته فيه ، فإذا كان الغرض لكلا المتعاملين أمراً واحداً كمبادلة كتاب بكتاب مثلاً لم يكن هذا بيعاً بل معاملة مستقلة.

.........................................................................................................

ولأجل توضيح المطلب نذكر أموراً جانبية ثلاثة:-

الأمر الأول:- قد اختلف الفقهاء في تعريف البيع ، واختلافهم هذا لم ينشأ من الاختلاف في معناه ، يعني لا يحتمل أنَّ له معنىً شرعياً وقد اختلف الفقهاء في تحديده الشرعي ، كلا وإنما الشرع قد صبّ الحكم على البيع بما له من معنىً عرفي وإنما الاختلاف بين الفقهاء هو في تحديد المعنى العرفي ، فمثلاً نقل الشيخ الأنصاري(قده) عن مصباح الفيومي بأنَّ البيع هو ( مبادلة مال بمال ) ، ثم قال والأحسن أن نقول هو:- ( إنشاء تمليك عين بمال )[5] ، ثم أخذ بعد ذلك في دفع بعض النقوض التي ترد عيله ، وربما حدّد بعض الفقهاء الآخرين البيع بتحديدٍ آخر غير ما ذكره الشيخ الأعظم(قده) ، ولكن كما ذكرنا أنَّ كل هذا الاختلاف هو اختلاف في معنى البيع العرفي وكيفية صياغة هذا المعنى المرتكز العرفي بعبارات لا يرد عليها الاشكال ، وهذه قضية ينبغي أن تكون واضحة.


[1] أعني ما إذا فرض أنه يلزم من ذلك تضرر المسلمين إما على مستوى الموت أو على مستوى الضرر البليغ وإن لم يكن هو الموت أو الثانية ما إذا خيف على النظام الاقتصادي للبلاد الاسلامية من الخلل والاختلال ففي هاتين الحالتين قلنا يحرم الاحتكار وأما ما إذا لم يكن كذلك فلم يثبت عندنا حرمته.
[2] هذا بلحاظ الحالة الأولى.
[3] وهذا بلحاظ الحالة الثانية.
[4] الذي هو رأي المشهور.