39/02/08


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/02/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حجية القرعة - مسألة ( 39 ) جوائز الظالم.

الدليل الثالث:- السيرة العقلائية.

بتقريب أنَّ سيرة العقلاء في حالة الجهالة وعدم وجود المرجح جرت سيرتهم على التعيين بالقرعة ، كما إذا فرض أنَّ مجموعة من الناس قدّموا على الحج ولا نستطيع ارسالهم كلّهم فهنا يقرع بينهم ، وهذه قضية عقلائية ، هكذا لو فرض وجود مجمّع سكني وقد قدّم عليه جماعة كثيرون فإذا لم يسعهم ذلك فيعيّن قسم منهم من خلال القرعة ، وهكذا الوظائف الشاغرة .. والأمثلة من هذا القبيل كثيرة.

إذن جرت سيرة العقلاء على الأخذ بالقرعة في التعيين في مورد الجهالة ، وهذا المقدر وحده لا يكفي لأنه لا يثبت الحجية في القضايا الشرعية بل أقصى ما يثبت أنهم في قضاياهم الاجتماعية والعقلائية تكون القرعة معتبرة وهذا لا يضرّ الشارع لو لم يرضَ بالقرعة في مجاله الشرعي بل هذا في قضايا العقلاء الخاص ، فإذن كيف نستدل بالسيرة فنحن نحتاج إلى متمم حتى يتم الاستدلال بها فهذا المقدار لا يكفي لحجية السيرة في الموارد الشرعية ؟ والتتمة أن يقال: إنَّ الشرع لو لم يردع عنها فلعل العقلاء يوماً من الأيام يسرّون القرعة إلى المجال الشرعي بسبب ذوقهم العقلائي فتحفّظاً من الشارع على أحكامه وقضاياه الشرعية لابد وأن يردع عنها خوفاً من سريان تلك السيرة المذكورة يوماً من الأيام إلى مجاله الشرعي ، وبهذا يتضح أنَّ السيرة العقلائية يمكن التمسّك بها حتى لو كانت في المجال العرفي والعقلائي ، فيمكن أن يتمسك بها لإثبات الحجية في المجال الشرعي بعد ضم هذه الضميمة .

ونفس الكلام في خبر الثقة ، فإنه في خبر الثقة هكذا يمكن أن يقال أيضاً ، فإنَّ العقلاء يأخذون بخبر الثقة في قضاياهم ، كأن فلان جاء من السفر أو لم يجئ وما شاكل ذلك فإنه يؤخذ بخبر الثقة ، وكيف يثبت حجية ذلك في القضايا الشرعية ؟ إنه بنفس هذه التتمة فيقال إنَّ الشارع إذا لم يرضَ عن هذه السيرة في مجاله الشرعي لردع عن تطبيقها في يومٍ من الأيام في المجال لشرعي فيقول للناس ( احذروا من تطبيق هذه السيرة في المجال الشرعي ) فعدم منعه يدل على رضاه بتطبيقها في المجال الشرعي.

وبهذا حصلنا على دليلين على حجية القرعة أحدهما الروايات لا أقل رواية محمد بن حكيم والثاني هو السيرة العقلائية.

ملاحظتان في المقام:-

الملاحظة الأولى:- ينبغي الالتفات إلى أنَّ مورد القرعة وموضوعها ما إذا فرض أنه لا يوجد دليل ولا أصل شرعي ولا أصل عقلائي أو عقلي ، يعني الحالة والحكم والنكتة سوف تتضح فيما بعد ، وعلى هذا الأساس لا تجري القرعة في الشبهات الحكمية بجميع أفرادها ، والوجه هو أنه في الشبهة الحكمية يوجد أصل شرعي أو عقلي جزماً بأنَّ الشك إما في أصل التكليف وهو مجرى للبراءة العقلية والنقلية ، وإذا كان الشك في المكلف به مع عدم فرض الحالة السابقة وإمكان الاحتياط فهذا مورد الاشتغال ، وإذا كان هناك حالة سابقة فالمورد هو الاستصحاب ، وإذا أمكن الاحتياط فهو مورد الاشتغال ، فبالتالي الشبهة الحكمية لا تخلو من أحد الأصول الشرعية أو العقلية ، وهنا لا تجري القرعة في الشبهة الحكمية.

وهكذا في الشبهة الموضوعية إذا فرض وجود يدٍ أو بيّنة أو أمارة أخرى من الأمارات العقلائية أو الشرعية ، فلو فرض أنه حصل نزاع بين اثنين كلّ منهما يقول هذه الدار لي وأحدهما كانت له بيّنة دون الآخر فالدار لصاحب البيّنة من دون أن تصل النوبة إلى القرعة ، أو كان لأحدهما يد دون الآخر فهي لصاحب اليد دون الآخر وإنما يمكن تطبيق القرعة وموردها إذا لم يكن هناك أحد الأمور المذكورة ، كما إذا فرض أنَّ شخصين تنازعا في دار وكل واحد منهما صاحب بيّنة أو كلّ منهما صاحب يدٍ أو كلّ منهما فاقد للبيّنة ولليد معاً أو أنهما يتنازعان بلا ثالث ففي مثل هذه الحالة يصير المورد مورد القرعة ، لأنه لا يوجد دليل أو أصل لتقديم أحدهما على الآخر فتصل النوبة إلى القرعة ، وهكذا لو تنازعت َّامرأتان في الولد وأنه ابن مَن - هذا بقطع النظر عن الوسائل الحديثة لأنه قد يقال بأن هذا يمكن اثباته من طريق التحليل الحديثة وغير ذلك فإذا حصل العلم لا يكون مورداً للقرعة - ، والذي نريد أن نقوله: هو أنه إذا لم يكن هناك دليل أو أصل يعيّن أحد الاحتمالين فحينئذٍ يكون هذا المورد مورد القرعة ، وسوف تصير النتيجة هي أنه في الشبهات الحكمية لا تجري القرعة بتاتاً ، وإنما تجري القرعة في الشبهة الموضوعية إذا كان لكلا الطرفين بيّنة أو يد أو كان كلاهما فاقداً لذلك.

ولماذا يعتبر في مورد القرعة أن يفترض هذا الافتراض ، فلماذا يفترض عدم وجود أصل أو دليل آخر على ترجيح أحد الطرفين بل يكون تساوي تام في وجدان المرجح أو في فقدانه ؟

والجواب:- هو أنَّ المستند في حجية القرعة هو إما السيرة أو الرواية ، فإن كان هو السيرة فهي دليل لبّي يقتصر على القدر المتيقن والمتيقن ما أشرنا إليه ، وإذا كان المستند هو الرواية من قبيل رواية محمد بن حكيم ( كل مجهول ففيه القرعة ) نقول إنَّ عنوان المجهول لا يصدق مع فرض جود أصل أو دليل في أحد الطرفين وإنما يصدق فيما إذا فرض التساوي من هذه الناحية في الوجود أو العدم.

ثم إنه من خلال ما ذكرناه يتضح أمران:-

الأمر الأوّل:- إنَّ الشيخ الأعظم(قده) وهكذا الشيخ الخراساني(قده) ذكرا أنَّ التمسّك بعموم دليل القرعة شيء مشكل لكثرة طروّ التخصيص عليه ، وهذا يكشف عن أن المقصود معنىً أضيق لا يلزم منه التخصيص الكثير ، وعلى هذا الأساس حيث أننا لا نعرف ذلك المعنى الضيق فتنتهي النوبة إلى عمل الأصحاب ، فأيّ مورد عمل فيه الأصحاب بالقرعة سوف نطبّقه ، وأيّ مورد لم يعملوا به فلا يمكن التطبيق ، قال في الرسائل:- ( ذكر في محله أنَّ أدلة القرعة لا يعمل بها من دون جبر مفهومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم )[1] ، وقال الشيخ الخراساني :- ( هذا مضافاً إلى وهن دليلها لكثرة تخصيصه حتى صار العمل به في مورد محتاجاً إلى جبر إلى عمل معظم كما قيل )[2] .

وفي التعليق على كلام العلمين نقول:- إنَّ ما ذكراه تام لو فرض أننا لم نستثنِ مورد الشبهات الحكمية وهكذا الشبهات الموضوعية في مساحة منها ، أما بعد أن استثنينا الشبهة الحكمية بتمام مساحتها ، باعتبار أنه حتماً يوجد في أي موردٍ من موردها أصل من الأصول الشرعية أو العقلية ، وهكذا استثنينا من الشبهة الموضوعية مورد وجود الدليل أو الأصل في أحد الطرفين دون الآخر لأنَّ عنوان المشكوك لا يصدق إلا في مثل ذلك - يعني إذا لم يكن هناك أصل أو دليل - ، ومعه لا يلزم محذور كثرة التخصيص ، إنما يلزم ذلك لو فرض أنَّ الشبهة الحكمية بتمام مساحتها باقية أو الشبهة الموضوعية بمساحة منها باقية هنا يلزم محذور تخصيص الكثير أو الأكثر ، أما بناءً على ما ذكرناه لا يكون الباقي تحت دليل القرعة الذي هو ( كل شيء مجهول ففيه القرعة ) كثير ، ولا يلزم بالتالي محذور تخصيص الأكثر بل حتى الكثير ، فلا مانع من التمسّك بعموم دليل القرعة من دون حاجة إلى مسألة الجبر.