38/08/20


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/08/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

وفي مقام التعليق نقول:- إنَّ هذه الروايات لو تمت دلالةً على الوجوب وربما يشكك في دلالتها على ذلك لأنَّ الوارد في الأولى مثلاً ( ما حق الله على خلقه ؟ قال:- أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد ادوا إلى الله حقه ) فهذا التعبير قد يصعب استفادة الوجوب منه ، وهكا الرواية الثانية ( ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم ) وجملة ( ما علمتم فقولوا ) لا شاهد لنا فيها حتى تقول إن ( قولوا ) فعل أمر فيدل على الوجوب ، كلا ليس شاهدنا في الجملة الأولى بل هذا طلب في مقام توهم الحضر فليس المقصود بيان الوجوب بل إذا علمت بشيء واردت أن تقوله فقله ، وإنما كلامنا في قوله ( وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم ) فقول ( الله أعلم ) ليس بواجب بلا إشكال ، فدلالتها على الوجوب قد يشكك فيها.

لكن لو غضضنا النظر عن ذلك وقلنا إنها تدل على الوجوب فيمكن أن يقال هي منصرفة إلى القضايا المهمة ، أعني الأحكام الشرعية أو باب العقائد أو ما شاكل ذلك لا مثل القضايا التافهة مثل نزل المطر أو لم ينزل ، فشمول الروايات لمثل ذلك ربما يكون صعبا فهي منصرفة عن ذلك لأن الروايات تقول ( أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا حق الله ) فهذه كما قلنا ليس من البعيد أنها منصرفة إلى تلك الأمور المهمة وخصوصاً الرواية الثانية التي قالت ( وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم ) ، فإذن دعوى انصرافها إلى القضايا التي أشرنا إليها أعني مثل الأحكام الشرعية أو العقائدية أو الأمور المهمة دوى ليست ببعيدة.

هذا كلهّ بالنسبة إلى هذا التنبيه وقد اتضح أنَّ النتيجة هي أن القاعدة التي أشرنا إليها يمكن أن يقال لا مخالف لها من الأخبار فالأخذ بمقتضى القاعدة شيء وجيه وحيث إنا فسّرنا الكذب بمخالفة الواقع ففي حالة الشك لا يجوز آنذاك الإخبار لتشكّل العلم الاجمالي بالشكل الذي أوضحناه سابقاً.

ومن الواضح كلامنا هذا نقيّده بأنه إذا لم نجزم عرفاً بأحد الأمرين أما إذا جزمنا عرفاً بأحد الأمرين فهذا خارج عن محل الكلام ، يعني إذا جزمنا أن الإخبار في حالة الشك هو كذب جزماً أو جزمنا بأنه ليس بكذب فهنا لا كلام ، إنما كلامنا فيما إذا فرضنا وجود حالة شك فحينئذٍ ماذا تقتضي القاعدة وماذا تقتضي الأخبار .

التنبيه الثاني:- الكذب بالاشارة أو الكتابة أو الفعل.

الكذب الذي لا إشكال في حرمته ما إذا كان بالكلام والقول وأما إذا كان بغير ذلك اعني الاشارة أو ما شاكل ذلك فهل يحرم أو لا ؟

هنا لإثبات الحرمة نحتاج إلى اثبات مطلبين وهما اثبات الصغرى والكبرى .

أما الصغرى:- فلابد من اثبات أنه بالاشارة مثلاً يتحقق الكذب عرفاً إما إذا قال شخص لا يتحقق الكذب أو نشك فلا يمكن الحكم آنذاك بالحرمة فالحرمة تحتاج إلى اثبات الصغرى وأنه يصدق الكذب لو كان بالاشارة أما أنه يصدق أو لا يصدق فسوف يأتي بعد قليل.

وأما الكبرى:- فهي أن يكون لدينا اطلاق نستفيد منه أن كل كذب هو محرم وأما إذا شككنا في الاطلاق فالحكم بالحرمة يكون حينئذٍ مشكلاً حتى لو جزمنا بصدق الكذب إذ القدر المتيقن ما إذا كن بالقول ، ونحن فيما سبق لم نستوضح ثبوت الاطلاق وحصل لنا تردد في ذلك بيد أنه يوجد مستند يستعين به الفقيه في موارد وهي الجزم بعدم الخصوصية - ومن الواضح أنَّ هذا يأتي في بعض الموارد - وهذه قضية مسلّمة كما لو قال اصاب ثوبي دم فقال ( لا تصل فيه ) أو ( اغسله ) فالعرف يلغي خصوصية الثوب ويتعدّى إلى العباءة حيث يقول لا فرق من هذه الناحية فصحيحٌ أنَّ الثوب ليس بعباءة ولكن لا يفهم الخصوصية من هذه الناحية ، فإذا حصل جزم بإلغاء الخصوصية فنتعدّى حينئذٍ ، والمفروض أنَّ الامام عليه السلام يتكلم مع أناس عرفيين فلابد أن يقصد ما يفهمه العرف وإلا لنبّه على الخلاف ، وهذا واضح ، وهنا يمكن أن يقال إنَّ العرف يلغي الخصوصية من هذه الناحية ، فحتى لو فرض أنَّ مورد الروايات هو الكذب بالقول لكن موردها ليس من باب أنه توجد فيها دلالة على المفهوم وانه بغير القول لا حرمة كلا بل موردها كان هو ذلك فلس من البعيد أن العرف يغلي خصوصية المورد إذ لا فرق بين أن يكون الكذب عند العرف بالقول وبين أن يكتب فيكذب على مستوى الكتابة أو الاشارة فالاثنين يعدّهما العرف كذباً ، إذن نحن من هذه الناحية لا نقع في مشكلة فإنه رغم وجود الاطلاق وترددنا فيه إلا أنه في موارد الجزم بعدم الخصوصية نستعين بذلك ورب مورد يختلف عن مورد آخر فإذن من حيث الكبرى قد لا نواجه مشكلة.

وإنما الكلام في الصغرى وهو أنه هل يصدق عنوان الكذب بالكتابة أو بالاشارة أو بالفعل ؟

والجواب:- المناسب إنه إذا كان الكذب من خلال الاشارة بالرأس أو باليد أو بما شاكل ذلك فهذا كذب عرفاً فلا فرق بين أن أقول نعم نزل المطر وبين أن أشير برأسي مثلاً دلالة على قد نزل حينما أسال عن زوله وفي الواقع هو لم ينزل والمفروض أني أعلم أنه لم ينزل فهذا يعدّ كذباً ويقول الناس لماذا تكذب ، وإذا قلت: لهم إني لم أتكلم ، فيقولون لي: إنك قد أشرت برأسك ، فيفهمون أنه لا فرق بين الاشارة بالرأس وبين التحدّث بالكلام ، فعرفاً الكذب يتحقق بالاشارة ، وهكذا يتحقق الكذب بالكتابة فإذا كتبت ( نعم قد نزل المطر ) فإذا لم ينزل المطر وأنا أعلم بأنه لم ينزل فالناس يقولون هذا كذب ، فإذن في هذين الموردين لا ينبغي التأمل والتشكيك فيهما.

إنما الكلام إذا كان الكذب بالفعل فهل يصدق عنوان الكذب آنذاك أو لا ؟

والجواب:- عادةً تكون دلالة الفعل التزامية لا مطابقة ، ولا أدري هل يوجد مثال لدلالة الفعل دلالة مطابقية أو لا ؟ إنه لا يحضرني ذلك ولكن عادةً الدلالة تكون التزامية ، كما لو فرض أنه قبل أن يتحقق دخول الوقت وأنا ملتفت فأقول وأصلي فهل هذا بالمطابقة ليست له دلالة ولكن بالالتزام فيه دلالة على دخول الوقت هنا هل الناس يقولون لماذا كذبت ؟ أنا من المتوقفين في ذلك فإني استبعد أنهم يقولون بأنَّ هذا كذب نعم أنا اوقعت الآخرين في الايهام فقد اوهمت لهم انه قد دخل الوقت فالحرمة إن كانت ثابتة فهي من حيث أني ألقيت غيري في الإيهام أما من ناحية الكذب فلا توجد حرمة إذ لا يقال إنك كذبت ، وهكذا لو فرض أني قلت لامرأة هل تتزوجين فقالت ( زوجتك نفسي ) فهذا بالالتزام فيه دلالة على أنها خليّة من الزوج وليست في العدّة فإذا فرض أنها لم تكن كذلك فهل يقال قد كذبت ؟ كلا وإنما احتالت عليَّ وأوهمت لي بأنها خليّة فالحرمة حينئذٍ تكون من هذه الناحية لو كانت هناك حرمة أما من ناحية أنها كذبت فهو شيء مشكل إذ لا يجزم بصدق عنوان الكذب في مثل هذه الحالة.

وعلى أيّ حال في باب الأفعال لا توجد دلالة مطابقية للفعل عادةً وإنما تكون بالالتزام والعرف لا يرى عادةً أنَّ هذه الدلالة الالتزامية تكون موجبة لصدق الكذب على الشخص ، نعم يصدق عليه أنه أوقعنا في الوهم وفي خلاف الواقع فإذا كانت هناك حرمة فهي من تلك الناحية لا من ناحية عنوان الكذب.

والخلاصة من كلّ هذا:- إنَّ المدار على صدق عنوان الكذب في مورد الفعل أو الاشارة أو الكتابة ونحن نجزم بصدق ذلك في مورد الاشارة والكتابة ، وأما في مورد الفعل فنشك في صدق ذلك فيكفينا هذا لإجراء البراءة في مثله ، هذا هو الضابط العام في هذه القضية.

التنبيه الثالث:- الكذب من دون وجود سامع ، كما لو فرض وجود شخص في مكان وحده ويكذب من دون وجود سامع فهل هذا حرام أو ليس بحرام ؟

والجواب:- نحتاج إلى اثبات الصغرى والكبرى :

أما الكبرى:- فنحن كنّا من المشككين في البداية في تمامية الاطلاق ، ولكن لو كنّا من الجازمين بثبوت الاطلاق فيمكن أن ندّعي بقلب مطمئن بأنَّ أدلة حرمة الكذب المطلقة منصرفة عن هذا النحو من الكذب الذي لا يوجد فيه سامع ، وإذا قلت:- من أين لك هذا الانصراف فهل ناشئ من كثرة الوجود أو من كثرة الاستعمال ؟ فأقول: إنَّ هذا غير مهم فإنك بالتالي هل تسلّم بالانصراف أو لا ؟ فإذا شعرت بوجود الانصراف كفاك ذلك بلا حاجة إلى أن تقيّدنا قيود صاحب الكفاية(قده) وغيره ، وإذا فرضنا أنه لا يوجد انصراف فقل الحرمة شاملة له.

والخلاصة:- إنه إذا فرض أننا شككنا في المطلقات فالأمر واضح ، والجزم بعدم الخصوصية لا يأتي هنا لأنه بالوجدان العرفي والديني والفقهي نحتمل الخصوصية لوجود السامع فلا نتمكن أن نلغي الخصوصية ، وإذا كنّا من المشهور الذي يدّعي الاطلاق بضرسٍ قاطع فهنا من الوجيه أن ندعي الانصراف بقلبٍ مطمئن.

ومن باب الفائدة الجانبية:- ومن هذا القبيل أن يكون الانسان وحده في مكانٍ فيسبّ فلاناً وفلان فهل هذا حرام أو ليس بحرام ؟

والجواب:- إنَّ سبّة أمام الناس لا يجوز أما لو كان يسبّه وحده أو يغتابه في قلبه فلا دليل على الحرمة من هذه الناحية ، بل لعل الدليل موجود على الخلاف في حالة التكلم عليه في القلب وهو تكليف ما لا يطاق لأنَّ هذا يخطر في القلوب ففي القلب جزماً لا توجد حرمة ، أما لو سبّ شخصاً أو اغتابه لوحده من دون سامعٍ فهو جائز للقصور في المقتضي وهو أنَّ المطلقات منصرفة عن مثل هذه الحالة ، ونفس الشيء نقوله أيضاً وهو إنَّ أدلة حرمة الكذب منصرفة من هذه الحالة.

فعلى هذا الأساس من حيث الكبرى لا يمكن الحكم بالحرمة ، ومن حيث الصغرى ليس من المعلوم أنه يصدق الكذب أيضاً مع عدم وجود سامع ، والمهم أنه يكفينا هذا المقدار من حيث الكبرى حتى لو صدق عنوان الكذب من حيث الصغرى ، فإذن من دون وجود سامع لا مشكلة في ذلك.