34-03-23


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/03/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- مسألة ( 371 ) / الواجب الثاني من واجبات حج التمتع ( الوقوف بعرفات ) / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 الدليل الثاني:- سيرة المتشرعة فإنها قد جرت على الاجتزاء بالوقوف معهم ، ببيان:- أن فترة وجود الأئمة عليهم السلام إلى عصر الغيبة تعدل حوالي قرنين وطيلة هذه الفترة يبعد أنه لم يحصل احتمال المخالفة بيننا وبينهم بل كانت الفترة المذكورة دائماً وأبداً يوجد فيها توافق بالهلال إنه شيء بعيد ، وإذا قبلنا بهذا المطلب نضم إليه مقدمة أخرى وهي أنه لم يعهد من الأئمة عليهم السلام ومن أصحابهم عدم الاجتزاء بالوقوف معهم بحيث كانوا يقفون في اليوم الثاني مثلاً أو كانوا يقفون الموقف الاضطراري للمشعر الحرام اجتزاءً به عن موقف عرفة بكلا نحويه وعن موقف المشعر الاختياري إن هذه ظاهرة لو كانت لبانت ولتناقلتها الأحاديث والتاريخ فإنها ظاهرة ملفتة للنظر وعدم نقلها يدل على أن الوضع كان طبيعياً بمعنى أن أهل البيت عليهم السلام مع أصحابهم كانوا يتسايرون مع الوضع الرسمي وبذلك يثبت الإجزاء وإلّا لما اكتفى الأئمة وأصحابهم بالوقوف معهم . وقد تمسك بهذه السيرة غير واحد من الفقهاء منهم السيد الحكيم(قده) [1] والسيد الخوئي(قده) [2] . نعم هل أن هذه السيرة تكفينا في حالة احتمال المخالفة فقط أو تعمّ حتى حالة الجزم بالمخالفة ؟ إن هذه قضية أخرى والقدر المتيقن هي حالة احتمال المخالفة.
 وقد يشكل على هذه السيرة بالإشكالات الثلاثة التالية:-
 الإشكال الأول:- إن الائمة عليهم السلام لعلهم لم يبينوا عدم الاجتزاء من باب التقية فسكوتهم لا يدل على امضاء الوضع الحاصل مادام السكوت يحتمل أن يكون لأجل التقية.
 وفيه:- إن احتمال أن التقية استدعت أن لا يذكر الأئمة شيئا طيلة هذه الفترة والحال أنهم في سائر موارد التقية قد يبينون شيئاً ولو من بُعدٍ أو بنحو التلميح لبعض أصحابهم ، إن عدم إمكانية هذا المعنى طيلة هذه الفترة شيء بعيد ، ولكن لو غضنا النظر عن ذلك وقلنا إن خصوص هذه القضية كان الوضع يستدعي أن يسكتوا ولكن نقول إن لازم هذا هو عدم الإجزاء إلا إذا أتى المكلفون بالموقف الاضطراري للمشعر الحرام وإذا لم يكن فيعيدون الحجّ في السنة الثانية وهذه الظاهرة ظاهرة ملفتة للنظر بمعنى أن التاريخ لا بد وأن ينقل أن الشيعة في سنةٍ من السنين وقفوا بأجمعهم أو نصفهم في الموقف الاضطراري أو يَنقُل أنهم أعادوا الحج في السَّنة الأخرى إنه لو كان عدم الإجزاء ثابتاً لكان لازمه هذا وعدم انعكاس هذا اللازم يدل على أن الوضع كان طبيعياً وليس فيه ما ذكر.
 الإشكال الثاني:- قد يقال:- إن الائمة عليهم السلام صرَّحوا لشيعتهم بأن من لم يقف عرفات الموقف الاختياري فعليه الموقف الاضطراري واذا لم يمكنه ذلك أيضاً فعليه على الأقل بالموقف الاضطراري للمشعر الحرام فإنه يجزئ عن كل ذلك ، إذن هم بيّنوا ولم يسكتوا ، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نقول إن الائمة لم يرشدوا أصحابهم إلى لزوم الموقف الاضطراري للمشعر وأن ما أتوا به لا يكفي إذا لم يقفوا الموقف الاضطراري للمشعر ، كلا إنهم بينوا من خلال تلك العمومات.
 وفيه:- إن هذه القضية حيث أنها مهمّة فهي تستدعي تبياناً أكبر وأشد من هذه العمومات ، ومع غض النظر عن ذلك نقول:- إن هذه العمومات لو كانت كافية وفَهِمَ منها أصحاب الأئمة إنهم لا يكفيهم الوقوف مع السلطة بل عليهم على الأقل الوقوف الاضطراري للمشعر الحرام لزم أن ينقل ذلك لأنه كما قلنا هذه ظاهرة ملفتة للنظر فينقل أن الشيعة في سنة كذا وقفوا بأجمعهم أو وقف جلهم الموقف الاضطراري للمشعر وحيث لم ينقل هذا فيدل على أنهم لم يستفيدوا من هذه العمومات شيئاً من هذا القبيل.
 الإشكال الثالث:- وهو المهم وهو أن يدَّعى أن هذه الظاهرة مألوفة بيننا وفي عصرنا هذا - أعني أن السلطة تتسرع بالحكم بالهلال - فهذا شيء جديد وإلا فالسلطة في الزمن السالف كانت متشددة من هذه الناحية ولا تتقدم كما هي الآن وتوجد شواهد على ذلك بالنسبة إلى العصر الأموي والعباسي:-
 أما بالنسبة إلى العصر الأموي:- فينقل أن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - الذي هو من كبار فقهاءهم في المدينة المنورة - ذهب إلى أمير الحاج ابراهيم بن هشام المخزومي في سنة ( 105 ) هجرية بصحبة نفرٍ من الناس يشهدون بالهلال فرفض شهادتهم ولكن سالم وقف على طبق الشهادة التي شهد بها النفر ولكن السلطة فرضت عليه أن يترك الموقف الذي هو اليوم التاسع عنده واليوم الثامن عند السلطة ووقف مع الناس في اليوم الآخر الذي هو موقف السلطة فلاحظ ما نقله ابن حزم في المُحلّى حيث قال:- ( مسألة:- فإن صح عنده بعلمٍ أو بخبر صادق أن هذا هو اليوم التاسع إلا أن الناس لم يروه رؤية توجب أنها اليوم الثامن [3] ففرضٌ عليه الوقوف في اليوم الذي صحّ عنده أنه اليوم التاسع وإلّا فحجّه باطل لما ذكرنا ) [4] ثم قال:- ( روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمر بن محمد قال:- شهد نفر أنهم رأوا هلال ذي الحجّة فذهب بهم سالم إلى ابن هشام وهو أمير الحج فلم يقبلهم فوقف سالم بعرفة لوقت شهادتهم ثم دُفِعَ فلمّا كان في اليوم الثاني وقف مع الناس ).
 وأما بالسبة إلى العصر العباسي:- فالذي كان منصوباً للقضاء - بل هو قاضي القضاة - هو أبو يوسف تلميذ أبو حنيفة وكان مقرَّباً من السلطة وكان رأيه هو أنه متى ما كان الجو صاحياً فلا تكفي شهادة واحدٍ أو اثنين بل لابد من شهادة خمسين شخصاً . إذن السلطة العباسية كانت تتشدد من هذه الناحية .
 نعم في عصرنا الحاضر ، يعني اتباع ابن تيمية الذي هو تابع لأحمد بن حنبل الذي يرى أنه متى ما شهد شخص واحدٍ بالنسبة إلى شهر رمضان حتى لو كان الجوّ صاحياً يثبت الهلال نعم في بقية الشهور لابد من شهادة شخصين . إذن نستنتج من خلال هذا أنه في عصر الأئمة عليهم السلام كان هناك تشدد في أمر الهلال ومعه فلا يمكن أن نقول إنه قد حصلت مخالفة في سنة من السنين ومن البعيد عدم حصول المخالفة ، كلا إن هذا كلامٌ مرفوضٌ بعد فرض أن السلطة كانت متشددة من هذه الناحية.
 ومن الأمور التي يظهر منها أن السلطة كانت متشددة:- الرواية التي تحكي قصة الإمام الصادق عليه السلام مع أبو العباس السفاح فإنه دخل عليه وهو في الحيرة وكان الإمام قد ثبت عنده أن هذا اليوم هو أول شهر رمضان ولكن أبو العباس لم يثبت عنده ذلك فدعا بالمائدة وأكل معه الإمام عليه السلام ، وهذه القصة تنقلها أكثر من رواية أنقل لكم منها واحدة وهي رواية داود بن الحصين عن رجل من اصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس:- ( إني دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم وهو والله من شهر رمضان فسلمت عليه فقال:- يا أبا عبد الله أصمت اليوم ؟ فقلت:- لا ، والمائدة بين يديه ، قال:- فادنُ فكُل ، قال:- فدنوت فأكلت وقلت الصوم معك والفطر معك ، فقال الرجل لأبي عبد الله عليه السلام:- تفطر يوماً من شهر رمضان ؟! فقال:- أي والله أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إليَّ من أن تضرب - يضرب - عنقي ) [5] ، ونحوها رواية رفاعة عن رجل [6] ، ومثلهما رواية خلاد بن عمارة [7] . وعلى أي حال يظهر من هذه الرواية أن السلطة كانت تتأنى في أمر الهلال لا أنها تتسرع كما هو عليه في زماننا الحاضر.
 ومما يؤكد ذلك أيضاً أي أن الوضع الرسمي في تلك الفترة كان متثبتاً ومتشدداً في أمر الهلال - أنه لم ينقل في الروايات ولو بطريقٍ ضعيفٍ أن بعض الأصحاب سأل الإمام عمّا إذا حصل الخلاف في الموقف ، كلا لم يطرح هذا التساؤل ولو برواية ضعيفة ، وكيف نفسّر ذلك ؟ لا مجال لتفسيره إلا بما ذكرنا - أي أن السلطة كانت متثبتة في أمر الهلال ولا تتسرع في ذلك - فلا داعي إلى السؤل . ومما يؤكد ذلك أيضا أننا لو رجعنا إلى كلمات الفقهاء لم نجد المتقدمين منهم قد تعرضوا إلى هذه المسألة - أي من زمان الشيخ الطوسي إلى زمان الشهيد الثاني - فكل هؤلاء لم يتعرضوا إلى هذه المسألة إن عدم تعرضهم يكشف أنه في الفترة التي عاشوها والتي هي فترة السلطة العباسية أو امتدادها لم يكن هناك اختلاف في أمر الهلال لأنه السلطة كانت متثبتة في أمر الهلال ، وقد قلنا سابقاً إن أول من تعرض إليها - وإن كنّا لا نجزم بذلك - هو صاحب الجواهر في تلك العبارة المختصرة التي نقلناها.
 إذن السيرة التي ادعاها جمعٌ من الفقهاء الذين منهم السيد الحكيم والسيد الخوئي لا يمكن الأخذ بها لأنها تفترض أنه خلال هذه الفترة يوجد احتمال الخلاف ومن البعيد أن لا يحصل خلاف محتمل . ولكن نقول في ردّهم إن هذا وجيه فيما لو كانت السلطة غير متثبتة كما هي في عصرنا أما بعد تثبتها كما في العصر السابق طبقاً لهذه الشواهد التي أشرنا إليها فلا مجال للتمسك بالسيرة المذكورة.


[1] دليل الناسك ص 353
[2] المعتمد ج5 ص 154.
[3] يعني هو باعتقاده اليوم التاسع ولكن رؤية الناس كانت تثبت أنه اليوم الثامن ولكن بنحو ليست رؤية تكذب ويتزلزل بسببها موقف الناس ، ليس موقفا بسببه يتزلزل علمي أو اطمئناني .
[4] المحلى لابن حزم ج7 ص 192 مسألة 859.
[5] الوسائل ج10 ص 131 ب57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح4.
[6] المصدر السابق ح5.
[7] المصدر السابق ح6.