38/07/14


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/07/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

النقطة الثانية:- الكذب عبارة عن مختلفة الخبر للواقع ، وفرق هذه النقطة عن سابقتها أن السابقة ناظرة الى الحكم بينما هذه ناظرة الى تنقيح الموضوع ، والشيخ الأعظم(قده) كما أنه طوى الكلام في النقطة الأولى طوى الكلام فهنا أيضاً ولم يبحث موضوع الكذب وهذه نقطة تسجّل عليه ، وكان من المناسب له التعرضّ إليه أيضاً.

وعلى أيّ حال الصدق هو مطابقة الخبر للواقع والكذب هو عدم المطابقة وهذا كلام نعرفه ، إنما الكلام في أنَّ الصدق والكذب يتوقفان على وجود مطابِقٍ ومطابَق ، يعني من الصفات الاضافية بين المطابِق والمطابَق فنقول هكذا: الصدق هو مطابقة الخبر فيصير الخبر مطابِق والواقع يصير مطابَق ، فنحتاج الى مطابِق ومطابَق في الصدق ، وهكذا في الكذب فإنَّ الكذب عدم مطابقة الخبر للواقع وهذا واضح ، أنما الكلام في أنه ماذا يقصد من المطابِق ؟ ولعلك تقول إنَّ المقصود من المطابِق هو الخبر والكلام ، فأقول هذا صحيح ولكني أسأل وأقول هل المدار على ظاهر الخبر بما تكتنفه من قرائن أو أنَّ المقصود من المطابِق هو المراد من الخبر ؟فربما يكون ظاهر الخبر شيء بينما المراد منه شيء آخر ، فمثلاً حينما أقول ( مات زيد ) فنحن نفهم ظاهره أنه فارق الحياة ، ولكن ربما يكون مراد المتكلّم شيئاً آخر أي خمل ذكره وأفل نجمه ، فالمراد ليس الموت الحقيقي بل الموت الاجتماعي وهذا معنىً أيضاً ، فظاهر الكلام هو الموت الحقيقي بينما مراده قد يكون هذا المعنى ، والصدق والكذب يدوران مدار ماذا ؟ فهل نلاحظ ظاهر الكلام أو نلاحظ المراد ؟ فالصدق هل هو مطابقة ظاهر الكلام للواقع أو هو مطابقة مراد المتكلم من الكلام للواقع ؟ وهذه سوف تنتج نتائج مختلفة ، فمثلاً في مثالنا إذا جعلنا المدار على ظاهر الكلام ولاحظنا أنَّ زيداً يمشي في الصحن الشريف مثلاً فإذا كان المدار على ظاهر الكلام فهذا سوف يصير كذباً ، أما إذا كان المدار على المراد فيصير هذا صدقاً ، وهذا فارقٌ كبير ، وهذه قضية تستحق البحث.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الواقع فما المراد من الواقع ؟ فهل المراد الواقع بوجوده الحقيقي - إن صحّ التعبير - أو المدار على الواقع الذي يعتقده الشخص المتكلّم ؟ فمثلاً لو قلت ( مات زيد ) وقلنا إنَّ المدار على ظاهر الكلام يعني صحيح أنه مات ، فمرة يفترض أنه قد مات حقاً واتضح أنه كذلك ومرّة اتضح أنه ليس بميت وإنما المتكلم اعتقد أنه مات لأنَّ زيداً كان مريضاً وقد رأى المتكلم تابوتاً في باب داره فاعتقد أنه مات فقال ( مات زيد ) وهو في الواقع لم يمت ، فهل المدار في الصدق والكذب على المطابقة للواقع الحقيقي أو على ما يعتقده المتكلم ؟ فإذا كان المدار على الواقع الحقيقي ففي صورة الاعتقاد خطأً يكون هذا الكلام كذباً ، بينما إذا كان المدار على الاعتقاد فالكلام يكون صدقاً ، فإذن يوجد فرق كبير.

فإذن يوجد احتمالان في جانب المطابِق واحتمالان في جانب المطابَق ، والآن سوف نطرح القضية عليك وهو أنه بالنسبة إلى السؤال الأوّل هل المدار في المطابِق على ظاهر الكلام أو على مراد المتكلم ؟ ولا تقل لي: لا تدخلني في هذه المسألة فإنها خاصة بأهل اللغة ، فأقول لك: إنَّ هذه قضية عرفية ، فهي قضية ليست وضعية حسّية فلو كانت قضية حسّية وضعية فسوف نرجع إلى هؤلاء فإذا نقلوا شيئاً عن العرب فنأخذ به ، أما هنا فيلزم أن يحكّم الإنسان نظره واجتهاده فإنَّ هذه قضية لا يرجع فيها إلى كتب البلاغة واللغة وإنما يرجع فيها إلى الوجدان ، وتعال الى هنا فالمناسب ما هو ؟ فهل المدار على ظاهر الكلام أو المدار على مراد المتكلم ؟ لا يبعد أنَّ المدار على مراد المتكلم ، فإذا عرفنا أنَّ مراد المتكلم من جملة ( مات زيد ) أنه أفل نجمه فنقول هذا صادق ، نعم قد نقول له بدايةً لماذا تكذب فإنا قد رأيناه حياً فيقول إنَّ مقصودي أنه أفل نجمه فإذا عرفنا هذا من المتكلم فسوف نعتذر منه ونقول له إذن أنت لست بكاذب وإنما أنت صادق فنجعل المدار على المراد وليس على ظاهر الكلام .

ويتفرع على هذا أنَّ التورية بناءً على الذي ذكرناه تكون من الصدق ، فتخرج التورية من باب الكذب خروجاً موضوعياً وتخصصياً ، وهي أيضاً شاهد عرفي على أنَّ المدار والضابط في الصدق والكذب على مطابقة المراد للواقع وليس على مطابقة ظاهر الكلام للواقع ، فإذا ورّى شخص فبناءً على هذا لا يصير كلامه من الكذب ، ولذلك سوف يأتينا أنه تجوز التورية حيث نذكر أنه تجوز التورية لأنها ليست من الكذب فيجري فيها أصل البراءة.

فإذن بالنسبة إلى المطابِق صار المدار على المراد وليس على ظاهر الكلام.

وأما بالنسبة إلى المطابَق فما هو المناسب فهل المدار على الواقع الحقيقي أو على ما يعتقده المتكلم ؟ ليس من البعيد أنَّ المدار على الواقع ، فإذا فرض أني قلت ( مات زيد ) وواقعاً هو لم يمت وإنما كنت أعتقد ذلك فلا يبعد أنَّ هذا كذب واعتقادي يكون ليس نافياً للكذب حقيقةً بل يكون منشأً للعفو يعني هو سبب للعذر ، فهو كذب معذور فيه ، فصحيح أنا قد كذبت بشكلٍ غير مقصود لكني معذور لأني كنت اعتقد أنّه مات ، ولا أدري هل تترتب ثمرة هنا أو لا ، أما هناك فتترتب ثمرة عملية وهي خروج التورية موضوعاً ، أما هنا فلا تخطر بذهني ثمرة ولعله بالتأمل تلاحظ له ثمرة ، ولكن أقول ليس من البعيد أنَّ المدار على الواقع إذا كانت اعتقادك مخالف للواقع فهذا يكون سبباً للعذر لا أنه ينفي الكذب من الأساس بل هو كذب ولكنك معذور فيه.

بيد أنه قرأنا في كتب البلاغة أنَّه نسب إلى النظّام أنَّ المدار على الاعتقاد وليس على الواقع الحقيقي.

يعني أنَّ كلامه ناظر إلى المطابَق أما المطابِق فلم يتكلّم عنه.

ونقل عن الجاحظ أنه جعل المدار على الاثنين بنحو الوجود التركيبي ، يعني إنما يكون الكلام صادقاً إذا كان مطابقاً للاعتقاد وللواقع معاً ، فإذا تحققا يعني كان الكلام طابقاً للواقع وللاعتقاد يعني أنا قلت ( مات زيد ) وأَعتقِد أنه مات وواقعاً هو قد مات فهذا سوف يصير صدقاً عند الجاحظ ، وإذا فرض أنه ً لم يمت واقعاً ولا يوجد عندي اعتقاد بأنه مات فهذا سوف يصير كذباً ، وإذا فرض واحداً من دون الثاني أي واقع من دون أن اعتقد أو اعتقاد من دون واقع فقال إنَّ هذا لا يصير صدقاً ولا كذباً ، ونصّ عبارة المختصر:- ( اختلف القائلون بانحصار الخبر في الصدق والكذب في تفسيرها فقيل صدق الخبر مطابقته ...... للواقع ...... وكذبه .......عدمها ..... وقيل صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر[1] ولو كان ذلك الاعتقاد خطأً ....... وكذب الخبر عدمها ...... والجاحظ أنكر انحصار الخبر في الصدق والكذب وأثبت الواسطة وزعم أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع الاعتقاد .... )[2] .

النقطة الثالثة:- لا فرق في حرمة الكذب بين الجدّ والهزل.

ولكن نقول:- كان من المناسب للسيد الماتن أن يذكر قيداً وهو ( فيما إذا لم ينصب قرينة على إرادة الهزل ) ، أما إذا نصب قرينة بأن قال للشخص ( اريد المزاح معك ) ثم قال له بعد ذلك ( لماذا أنت طويل ) ولكن في الواقع لم يكن المخاطب طويلاً بل هذا كذب ، أو قال له ( أنت قصير ) والحال أنَّ هذا كذب فهو ليس بقصير فمثل هذا توجد قرينة على كونه هزلاً ولا يحتمل أن يلتزم فقيه بحرمته فإنه لا يصدق عليه عرفاً عنوان الكذب مادام قد نصب قرينة على كون هذا الكلام هزلاً ، أما إذا لم ينصب قرينة على ارادة الهزل والحال أنه كان هازلاً في كلامه فهنا سوف يأتي أنَّ هذا كذب في الهزل فما الدليل على حرمته ؟

هنا تظهر الثمرة للإطلاق ، فأصحاب الاطلاق يقولون هو حرام للإطلاق ، أما الذي لا يوجد عنده اطلاق فعليه أن يبحث عن دليل آخر كالروايات.


[1] ويقصد الاشارة بذلك إلى النظّام.