38/04/25


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/04/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 29 ) حكم النوح – المكاسب المحرمة.

ثم إنه بعد أن عرفنا أنَّ النياحة جائزة في حدّ نفسها فهل هي مكروهة أو أنه لا كراهة لها أيضاً ؟

والجواب: ربما يمكن أن يستفاد من بعض الروايات الكراهة:

من قبيل: رواية أو صحيحة علي بن جعفر السابقة والتي هي أوّل رواية من روايات الطائفة الثانية حيث جاء فيها: ( سألته عن النوح على الميت أيصلح ؟ قال: يكره ) وقلنا إنَّ الكراهة تدل على جامع المبغوضية ، فإذا لم نصل إلى الحرمة فلا أقل الكراهة ، فإذن لا بأس بدلالة هذه الرواية على الكراهة ، ويستفاد ذلك أيضاً من روايات أخرى قرأناها سابقاً ، فإذن لا بأس بالالتزام بالكراهة.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنَّ المقصود من الكراهة هو في غير مورد الحرمة ، وإلا إذا كانت النياحة بالباطل فحينئذٍ تصير محرّمة ، فكلامنا هو في غير مورد الحرمة تكون الكراهة ثابتة بمقتضى هذه الرواية ونظائرها.

وأيضاً ينبغي أن نستثني من ذلك مورد ما إذا كانت النياحة على أهل البيت عليهم السلام فهذا أيضاً لابد من استثنائه ، والوجه في ذلك هو فعل الزهراء عليها السلام وفعل الفاطميات ، بل والروايات الكثيرة التي تؤكد وتحبّذ ندبة مولانا الامام الحسين عليه السلام بل وبقية أهل البيت عليهم السلام ، بل وربما حتى في غير أهل البيت من الرموز الدينية كعلمائنا فإنَّ هؤلاء لا يبعد أن يقال في حقّهم ذلك.

وعلى أيّ حال اطلاق بعض كلمات الفقهاء من أنَّ النياحة مكروهة ولم يقيّد في غير أهل البيت عليهم السلام نقول إنَّ مقصوده في غير أهل البيت عليهم السلام ، مثل السيد محمد جواد العاملي(قده) في مفتاح الكرامة فإنه قال: ( والقول بالكراهية مطلقاً غير بعيد )[1] ، فإنه كما قلنا لابد من حمله على غير مورد الاستثناء الذي أشرنا إليه ، يعني نقول إنَّ مقصوده هو نفس مقصود صاحب الجواهر(قده) حيث قال: ( نعم لا يبعد الحكم بكراهته مطلقاً للخبر بل لا يبعد شدّتها مع الشرط لخبر حنّان أيضاً بل لا يبعد كراهة أصل النوح خصوصاً في الليل إلا على الحسين صلوات الله وسلامه عليه والشهداء معه بل وغيره من النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بل يمكن إلحاق العلماء بهم )[2] .

وعلى أيّ حال كلام صاحب مفتاح الكرامة لابد وأن نحمله على نفس مقصود صاحب الجواهر لأنه لشدّة وضوح المطلب لا تُبيَّن بعض الاستثناءات.

ونلفت النظر إلى قضية أخرى: وهي أننا قلنا إنَّ النياحة محرّمة إذا كانت بالباطل ، وهنا نضيف فرداً آخر فنقول: وتحرم أيضاً إذا كانت تنبئ عن الاعتراض على القضاء الإلهي فهذه النياحة من حيث هذا الذي اقترن بها وهو الوقوف أمام القضاء الالهي والردّ عليه ينبغي أن نقول هي خارجة عن محلّ الحديث.

إذن النياحة مكروهة في غير مورد الباطل وفي غير مورد الاعتراض على القضاء الالهي ، فهي في غير هذين الموردين مكروهة إلا على أهل البيت عليهم السلام ، هذا كلّه بالنسبة إلى النياحة.

التكسّب بالنياحة:

إنَّ حكم التكسب بمقتضى القاعدة الأوّلية بقطع النظر عن الرواية هو الجواز ، فمادامت النياحة جائزة في غير مورد النياحة المحرّم فالتكسّب بها يكون جائزاً.

ولكن توجد روايتان ربما يستفاد منهما عدم الجواز:

الرواية الأولى: رواية الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال: ( سألته عن كسب المغنّية والنائحة فكرهه )[3] .

وقد يستدل بهذه الرواية بأنَّ السؤال عن الكسب والامام عليه السلام قد كرهه وهذا معناه أنه حرام.

ولكن يرد عليه ما أشرنا إليه أكثر من مرّة: وهو أنَّ الكراهة تلائم مطلق المبغوضية ، فمكا يحتمل أنها محرّمة يحتمل أنها مكروه بالمعنى المصطلح.

إن قلت: إنها قد اشتملت على المغنّية وحينئذٍ كسب المغنّية محرّم ، فعلى هذا الأساس يصير هذا قرينة على حرمة كسب النائحة.

قلت: هذا وجيه إذا فرض أنه لا يمكن استعمال الكراهة بالمعنى الأعم ، أما إذا استعملت بالمعنى الأعم والروايات قد اشتملت على ذلك فهي تستعمله بصيغةٍ واحدة في مكروهات ومحرّمات أو تستعمله بصيغة واحدة في واجبات ومستحبات فإنَّ هذا مألوف من هذه الناحية ، فيمكن بالتالي بعد التصريح بجواز كسب النائحة في صحيحة أبي بصير وهي الرواية الثالثة من الطائفة الأولى والتي تقول: محمد بن الحسن عن زائدة بإسناده عن الحسن بن سعيد عن النضر عن الحلبي عن أيوب بن الحرّ عن أبي بصير: ( قال أبو عبد الله عليه السلام: لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميت ) فإنها صريحة في أنه نفى البأس ، فعلى هذا الأساس لا أقل لأجل هذه القرينة الخارجية نحمل الكراهة هنا على المعنى الأعم ، هذا إذا قلنا بأنَّ سند الرواية معتبر.

وأما إذا شكّكنا في السند من ناحية عثمان بن عيسى لأنَّ سندها هكذا: ( الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن عثمان بن عيسى عن سماعة ) واسناد الشيخ إلى الحسين بن سعيد لا تأمل فيه ، والحسين بن سعيد الأهوازي وأخوه من أجلة أصحابنا ، وسماعة ثقة ، ولكن تبقى المشكلة في عثمان بن عيس فإنه واقفي ، وقد قال النجاشي في حقه: ( كان شيخ الواقفة ووجهها وأحد الوكلاء المستبدين بمال موسى بن جعفر عليه السلام ) ، وتعبير ( كان شيخ الواقفة ووجهها ) ربما قال البعض إنَّه ستفاد منه أنَّ بعض الواقفة ثقاة وهذا الرجل هو وجههم فحينئذٍ إذا كان بعضهم من الثقاة فهذا وجههم فيكون ثقة ، إنه ربما يستفاد من قول النجاشي هذا المعنى ، أو أنه من نفس جعل الامام عليه السلام له وكيلاً يستفاد منه أنه ثقة وإلا كيف يدفع الانسان العاقل أمواله إلى شخص ؟! ولكن بعد ذلك حصل ل انحراف ، كما لو سجّلت بيتي باسم شخصٍ ثم حصل عنده انحراف فيما بعد ، وحينئذٍ نقول إنه لابد وأنَّ الناس لا يروون عنه بعدما حصل منه الانحراف وإنما وردت الروايات عنه قبل انحرافه فلا مشكلة فيه ، والأمر لك.

والرواية ليست مهمة بل حتى لو لم يتم سندها فذلك أحسن لنا ، لأنه قلنا إنه قد يتمسّك بها على حرمة التكسّب بالنياحة فإذا بطل سندها فيكون أحسن لنا ، ولكن قصدي هو التنبيه على قضايا فنّية.

الرواية الثانية: رواية أو موثقة حنّان بن سدير ، قال: ( كانت امرأة معنا في الحيّ ولها جارية نائحة فجاءت إلى أبي فقالت: يا عم أنت تعلم أن معيشتي من الله ثم من هذه الجارية فأحبّ أن تسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك فإن كان حلالاً وإلا بعتها وأكلت من ثمنها حتى يأتي الله بالفرج ، فقال لها أبي: والله إني لأعظّم أبا عبد الله عليه السلام أن أسأله عن هذه المسألة ، قال: فلما قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك فقال أبو عبد الله عليه السلام: اتشارط ؟ فقلت: والله ما أدري تشارط أم لا ، فقال: قل لها لا تشارط وتقبل ما أعطيت )[4] .

إنَّ هذه الرواية لا تدل على حرمة التكسب مطلقاً ولكنها تدل على أنَّ الاشتراط لا يجوز بل تأخذ كلّ شيء دفع إليها ، فالمشارطة لا تجوز ، فإذن التكسّب جائز لكنه مقيّد بعدم المشارطة.

وهذه الرواية لا بأس بها من حيث السند لأنه رواها هكذا: ( الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعن محمد بن يحيى ) وحينما قال ( وعن محمد بن يحيى ) يعني أنَّ الكليني رواها أيضاً عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد الذي هو إما ابن عيسى أو ابن خالد البرقي ولكن هذا لا يؤثر فإن كلاهما ثقة ( عن محمد بن اسماعيل ( جميعاً عن حنان بن سدير ) ، وجميعاً يعني أنَّ محمد بن اسماعيل الذي هو في السند الثاني وإبراهيم بن هاشم الذي هو في السند الأوّل كلاهما رويا هذه الرواية عن حنّان بن سدير ، فإذن كلا السندين لا مشكلة فيهما ، وإذا كانت هناك مشكلة فهي في حنّان بن سدير ولكن قد وثقة الشيخ(قده) ، نعم قد يعبّر عنها بالموثقة باعتبار أنَّ ( حنّان ) نسب إليه مذهب الواقفة فتصير الرواية موثقة وإلا فسوف تصير صحيحة.

ومن هنا يظهر التأمل في تعبير صاحب الجواهر(قده) حيث عبر عنها بالخبر.

وأبين فائدة جانبية: وهي أنه يوجد فرق بين صاحب الجواهر وبين صاحب الحدائق ، فصاحب الجواهر لا يلتزم بالمصطلحات وهذا واحد من المنبهات ، فتراه يعبّر عن الصحيحة بالخبر أو الموثقة يعبر عنها بالخبر ، فهذا هو مسلكه وطريقته في الجواهر ، فهو أحياناً قد يمشي على المصطلح ولكن لا توجد عنده عادة مستقرّة على ذلك ، وهذا بخلاف صاحب الحدائق فرغم أنه لا يؤمن بالتقسيم الرباعي من ابن طاووس أو من غيره لكنه مع ذلك هو ملتزم بالمصطلحات ، وأنا لست بصدد بيان أيهما الأفضل ولكن أريد بيان واقع.

فالرواية إذن تامّة من حيث السند.

إلا اللهم أن يشكل ويقال: صحيحٌ أنَّ حنّان ثقة ولكن المشكلة في أبيه فإنه لم تثبت وثاقته ، فعلى هذا الأساس سوف تصير الرواية محلّ إشكال من ناحيته.

والجواب واضح: وهو أنَّ الذي ينقل القضية هو حنّان ، فصحيح أنَّ المرأة جاءت إلى سدير لكن الذي ينقل القضية ليس سديراً وإنما حنّان ، فلا مشكلة من هذه الناحية ، فالرواية تامّة سنداً ، كما أنها دلالةً تدل على أنه لا تجوز المشارطة.

بيد أنَّ السيد الخوئي(قده)[5] قال: إنَّ النهي عن الاشتراط في باب الصناعات والحرف ارشادٌ إلى أنَّ المدفوع لا يقلّ عن أجرة المثل.

وبعبارتي كأنه هكذا يريد أن يقول: إنَّ الامام عليه السلام يريد أن يقول إنه لا يوجد داعٍ لأن تشترط لأنه في باب الصناعات عادةً يعطونها الأجرة المساوية ، فنحملها على ذلك ، ولكن هذا لا ينافي أنها لو أعطيت أقل من ذلك فلها الحق في أن تطالب حينئذٍ.

أقول: إنَّ عهدة هذه الدعوى عليه ، فهل صحيح أنه في باب الصناعات يوجد هذا المعنى ؟! إنه هذا ليس بواضحٍ عندي ، ولكن الذي أقوله: هو أنه يمكن أن نحملها على كراهة الاشتراط ، فأصل التكسّب جائز لكن الاشتراط يكون مكروهاً ، لأنه ورد في صحيحة أبي بصير المتقدّمة: ( لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميت ) ، فإذا ضممنا إلى ذلك أنَّ الأجر يكون عادةً عند التعيّن المسبق وإلا إذا لم تعيّن الأجر فهذا سوف يصير هديّة وليس أجراً ، إنما يصدق عليه أنه أجر فيما إذا تمّ الاتفاق عليه من البداية ، فكلمة أجر حينما استعملت في صحيحة أبي بصير يعني أنه متعيّن وإلا لا يعبّر عنه بالأجر ، فإذن هي دلت على نفي البأس ، وجمعاً بينها وبين ( لا تشارط ) يحمل ( لا تشارط ) على الكراهة.

فإذن التكسب جائز والاشتراط مكروه لا أنه محرّم.


[5] موسوعة السيد الخوئي ( مصباح الفقاهة )، الخوئي، تسلسل35، ص662.