37/11/17


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

37/11/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 20 ) حرمة السحر - المكاسب المحرمة.

مسألة( 20 ):- عمل السحر حرام وكذا تعليمه وتعلّمه والتكسب به . والمراد منه ما يوجب الوقوع في الوهم بالغلبة على البصر أو السمع أو غيرهما. وفي كون تسخر الجن أو الملائكة أو الانسان من السحر إشكال والأظهر تحريم ما كان مضراً بمن يحرم الاضرار به دون غيره.

 

تشتمل المسألة المذكورة على نقاط ثلاث:-

الأولى:- يحرم السحر عملاً وتعلّماً وتعليماً وتكسّباً.

الثانية:- حقيقة السحر.

الثالثة:- حكم الاضرار ببعض الموجودات من الجن والملائكة والانسان.

والكلام يقع في النقطة الأولى:- لا إشكال في حرمة عمل السحر والتعلّم والتعليم والتكسب بل قد يدّعى الضرورة على ذلك ، قال في الجواهر:- ( إن حرمة السحر عملاً وتعلماً وتعليماً[1] بلا خلاف أجده فيه في الجملة بين المسلمين بل هو من الضروريات )[2] .

حكم عمل السحر:- والكلام يقع الآن في حكم عمل السحر:-

وقد يستدل على حرمة عمل السحر بقوله تعالى:- ﴿ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحدٍ إلا بإذن الله ويتعلّمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ﴾[3] .

إنه قد يستدلّ بهذه الآية الكريمة على حرمة السحر بأنها دلت على كفر من يُعلِّم أو يتعلَّم السحر حيث قالت ﴿ ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ﴾ . إذن لأجل أنهم يعلِّمون الناس السحر هم صاروا كفار ، وفي الموضع الثاني قالت الآية الكريمة:- ﴿ وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه ﴾ يعني فلا تكفر بسبب التعلّم.

إذن الفقرة الأولى دلّت على كفر من يعلِّم والفقرة الثانية دلّت على كفر من يتعلَّم مع فارقٍ بين الموردين - وهذا ليس بمهم الآن - فالمورد الأوّل دلّ على كفر من يعلِّم السحر مطلقاً الضار وغير الضار ، أما الفقرة الثانية فقد دلّت على كفر من يتعلَّم السحر المضر الذي يفرّق فيه بين المرء وزوجه.

فإذا عرفنا هذا نضمّ مقدمة:- وهي أنه بهذا صار التعليم والتعلّم حرماً بمقتضى أنهما يوجبان الكفر بمقتضى الآية الكريمة نضم إلى ذلك مقدّمة أخرى وهي الملازمة العرفيّة فيقال إذا حرم التعليم أو التعلُّم حرم نفس السحر فإنه إنما يحرم التعليم لأجل أنّ نفس السحر هو حرام وإلا إذا لم يكن حراماً - وهذه قضية عرفية وليست عقلية لأنه قد يقول قائل إنّ هذا ممكن ولكن المهم أننا نريد ملازمةً عرفية - ، فالتعليم لماذا يكون حراماً موجباً للكفر ؟ إنه لابدّ وأن يكون لحرمة نفس العمل وإلا إذا كان العمل ليس بحرام فلماذا يكون التعليم والتعلّم حراماً ؟! فبضمّ هذه الملازمة العرفية تثبت آنذاك حرمة نفس العمل ، وهذا هو المطلوب.

وقد يشكل ويقال:- إنّ هذه الآية ناظرة إلى الأمم السابقة ونحن الآن نريد أن نثبت الحكم في شريعة الإسلام ، فكيف نُثبِت حينئذٍ الحرمة في شريعتنا بسبب ثبوتها في تلك الشريعة السابقة ؟

والجواب:- إذا قلنا بأنّ استصحاب أحكام الشرائع السابقة يجري فلا إشكال ، وأما إذا قلنا لا يجري فهناك خصوصية تقتضي ثبوت الحرمة بقطع النظر عن الاستصحاب ، وتلك الخصوصية هي أنه لماذا يؤكد القرآن الكريم على الحرمة ويبيّن كفر من يعلِّم أو يتعلَّم ؟ إنّ بيان هذا الحكم يدلّ عرفاً على أنه ثابتٌ في شريعتنا وأنتم أيها المسلمون التفتوا ولا تكونوا مثل تلك الأمة السابقة حتى تكفروا ، إنه لابدّ وأن يكون المقصود هو هذا وإلا لماذا يؤكد القرآن الكريم على حرمة تعليم وتعلُّم السحر وكفر من يعلِّم أو يتعلَّم.

وبقطع النظر عن هذا يوجد جواب ثالث وهو أن نقول:- إنّ هذه الحرمة جاءت بلهجة شديدة ، وهذه اللهجة الشديدة للحرمة من البعيد أن تكون مختصّة بالأمة السابقة دون أمتنا مادامت هي حرمة شديدة وبلهجة شديدة ، ففي مثل هذه الحالة نقول هي ثابتة في أمتنا.

وفرق هذا الجواب عن الجواب الثاني هو أنّه في الثاني كنا نقول إنّ نفس بيان القرآن الكريم للحرمة بقطع النظر عن أنّ هذه حرمة مؤكدة وشديدة وهذا كفر ، كلا بل نفس بيان الحرمة يمكن أن يفهم منه أنه ثابت في شريعتنا وإلا لماذا يبيّن الحرمة ، بينما في الجواب الثالث نريد أن نقول إنَّ هذه الحرمة حرمة عظيمة ومؤكدة ومادامت مؤكدة فيحصل الاطمئنان بأنها ثابتة في شريعتنا إذ من البعيد على أنَّ الشيء المؤكّد - الحرمة - ينسخ ، نعم أصل حرمة بعض الأشياء قد تنسخ لكن إذا كانت حرمة مؤكّدة وتوجب الكفر فمن البعيد أن يكون هذا الشيء جائز في شريعتنا.

هذا ولكن يمكن أن يقال:- إّن الآية الكريمة تشتمل على شيءٍ من الاجمال والاحتمالات المتعدّدة ، بل قيل إنّ هذه الآية وآية أخرى في سورة هود وهي:- ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ﴾[4] ، هما من الآيات الكريمة التي كثر فيها اختلاف المفسّرين وأبدوا فيها احتمالات متعدّدة ، وهذا الذي أريد أن أقوله ليس من باب حجية قول المفسّرين فإنّ كلام المفسّرين ليس بحجة فإذا كان رواية فنعم أما إذا كان رجلاً عالماً فكلامه لا يصير حجة فإنه لا حجية لأقوال المفسّرين إلا اللهم إذا كانت موافقة للضرورة أو أوجبت الاطمئنان فإذن الحجية تصير للعنوان الآخر وليس لقول المفسّر ، فأنا حينما أقول كثر اختلاف المفسّرين وأقوالهم في هاتين الآيتين أريد أن أجعله على أنّ هاتين الآيتين والمهم هو الآية التي في مقامنا فهذه الآية قد ينتابها شيء من الاجمال ، والاجمال الذي نريد أن ندّعيه في مقامنا هو أنّ الآية الكريمة لو كانت تدلّ على كفر من يعلّم أو يتعلّم السحر لكان جيداً بالبيان السابق فيقال أنّ من يعلّم أو يتعلّم إذا صار كافراً بسبب تعليمه وتعلّمه فهذا يدل على حرمة التعليم والتعلّم فإذا حرما دلّ بالملازمة على حرمة العمل فيتم الاستدلال.

لكن يمكن أن يقال:- إنّ الآية لا تكفّر من يعلّم ويتعلّم - وهذا نبيّبه كاحتمالٍ وأنا حينما أبدي الاحتمال فمقصودي أنه لا يوجد ظهورٌ فهذا الاحتمال الذي نبرزه يوجب الاجمال - ، وهل يوجد هكذا إجمال واقعاً أو لا ؟ وذلك بأن يقال إنّ الفقرة الأولى قالت:- ﴿ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك اسليمان ﴾ ، يعني أنّ عامة الناس اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان حيث كانت الشياطين تقول إنّ ملك سليمان كلّه قائم على السحر فهو قد سخّر الجن والإنس على أساس السحر والناس اتبعوهم في ذلك ، ﴿ وما كفر سليمان ولكن الشياطين ولكن الشياطين كفروا ﴾ فسليمان كان رجلاً مؤمناً ولكن الشياطين كانوا كفّارا ، ثم جاءت الآية الكريمة لتبيّن مطلباً إضافياً ليس تعليلاً إلى كفرهم وإنما هو بيان مطلبٍ إضافي فتريد أن تقول الشياطين هم كفّار لا يؤمنون بالله تعالى وينسبون فعل الأشياء إلى السحر وليس إلى الله عزّ وجلّ فيقولون كلّ ما يوجد من تغيّرات وأفعال هي من السحر وهذا كفرٌ ، هذا أوّلاً، كما توجد لهم خصوصية ثانية وهي أنهم ﴿ يعلِّمون الناس السحر ﴾ ، وجلمة ( يعلّمون ) ليست تعليلاً إلى كفرهم كما كنّا نقول عند تقريب الآية الكريمة وإنما هو بيانٌ لمطلبٍ إضافي وذمٍّ إضافي ، فهناك ذمّان الذمّ الأوّل للشياطين بأنهم كفرة حيث ينسبون جميع الأشياء إلى السحر وسليمان لم ينسب الأشياء إلى السحر بل يعتقد أنّ هذا كلّه من الله عزّ وجلّ ، والشيء الثاني إضافةً إلى أنهم كفرة هم أيضاً يعلّمون الناس السحر ، إنه بناءً على هذا أي إذا صارت ( يعلّمون ) جملة إضافية وليست تعليلاً إلى كفرهم فكيف نثبت إذن حرمة تعليم السحر فالتعليم لا يمكن إثبات حرمته ، فنحن أثبتتنا حرمة التعليم من جهة أنه سبب الكفر أما إذا صار هذا مطلباً اضافياً وليس سبباً للكفر بل هو بيان لذمٍّ آخر فهذا ذمٌّ لهم أنهم يعلِّمون الناس السحر والذمُّ لا يدلّ على الحرمة بل هو أعمّ من الحرمة.

إذن التعليم لا تثبت حرمته حتى نضمّ الملازمة العرفيّة وهذا الاحتمال موجود.

فلاحظ الآية الكريمة حيث قال:- ﴿ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ﴾ يعني كفروا بنسبة كلّ الأمور إلى السحر ، ثم بيّنت مطلباً اضافياً وهو ﴿ يعلمون الناس السحر .. ﴾ أي ( وهم يعلّمون ) فتصير جملة ( يعلّمون ) بمثابة خبر لمبتدأ محذوف أي ( وهم يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ، يعني بنسبة كلّ ما في الكون إلى السحر ، ثم جاءت وبينت مطلباً إضافياً وكأنها تريد أن تقول ( ولكن مع الأسف مضافاً إلى كفرهم بنسبة كلّ ما في الوجود إلى السحر (يتعلَّمون ) أي هم يتعلَّمون ( منهما ) أي من هاروت وماروت ( ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) وهذا أيضاً يدلّ على ذمّ التعلّم ولا تدلّ على التحريم حتى يثبت بذلك حرمة العمل.

وخلاصة المناقشة:- أنا لا أريد أن أقول هذا حتماً هو ظاهر لآية الكريمة ، بل أقول هذا الاحتمال موجود وهو وجيه وبذلك يزول ظهور الآية الكريمة فيما كنّا نريد وهو أنّ التعليم والتعلُّم علَّة للكفر فبالتالي يكون التعليم والتعلُّم حراماً ، فالآية الكريمة من هذه الناحية حمّالة وجوه.


[1] ولم يذكر التكسب.