34/07/30


تحمیل
 الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية/ حديث الحجب
 فيما يرتبط بالبحث السابق هناك مطلب للمحقق العراقي(قُدّس سرّه) لا بأس بذكره:
 المحقق العراقي(قُدّس سرّه) لديه محاولة لإثبات دلالة الحديث على البراءة النافعة في محل الكلام، حتّى إذا كان الحجب بمعنى عدم صدور البيان، بأنْ كانت الرواية ناظرة إلى حالة عدم صدور البيان مع ذلك يقول أنّ الحديث الشريف يمكن الاستدلال به على البراءة في محل الكلام الذي هو عدم وصول البيان، والتقريب الذي يذكره هو: أنّ الحديث ناظر إلى حالة عدم وصول البيان، وهذا ينبغي أنْ يكون مسلّماً، في حالة عدم صدور البيان على التكليف، فالتكليف موضوع عن العباد، ما معنى وضعه عن العباد ؟ يقول: ليس المقصود بالوضع هنا هو السكوت عن التكليف؛ لأنّ السكوت أُفترِض في نفس موضوع القضية، فلا معنى لذكره وتكراره في المحمول، (ما حجب الله علمه عن العباد) فسّرنا الحجب بعدم صدور البيان، يعني سكت عنه، فلا معنى للقول بأنّ الوضع في قوله(موضوع عنهم) هو السكوت عن بيان التكليف، وإنّما المراد بالوضع عنهم هو عدم إيجاب الاحتياط تجاه مثل هذا التكليف، فيكون محصل الرواية هو: لا يجب الاحتياط عند الشك في صدور التكليف وعدم صدوره، فحتّى إذا لم يصدر التكليف، فهو موضوع عن العباد، ومعنى(ما حجب الله) هو ما لم يصدر من الشارع فيه البيان لا يجب الاحتياط تجاهه، وعدم وجوب الاحتياط يعني البراءة.
 نعم، صحيح أنّ هذا لا يثبت لنا إلاّ عدم وجوب الاحتياط في حالة عدم صدور البيان على التكليف، لكن يمكن تتميم الاستدلال في محل الكلام الذي هو عدم وصول التكليف، حتّى لو كان صادراً في الواقع، بعدم القول بالفصل بين حالة عدم صدور البيان على التكليف، وبين حالة عدم وصول البيان على التكليف إلى المكلّف، إذا ثبت عدم وجوب الاحتياط في الحالة الأولى يمكن تعميمها لمحل الكلام لعدم القول بالفصل.
 والمشكلة فيه هي أنّه لا يمكن الاستدلال بعدم القول بالفصل مع وضوح الفارق بين حالة عدم صدور البيان على التكليف من قِبل الشارع، وبين حالة عدم وصوله حتّى مع فرض صدوره، الفرق بينهما شاسع، وكما ذكرنا سابقاً أنّ التكليف في الحالة الأولى لا يدخل في عهدة المكلّف، ولا يقع موضوعاً لحكم العقل بوجوب الامتثال إطلاقاً، حتّى مع العلم به، فضلاً عن الشك به، فلا توجد مسئولية تجاهه، بخلاف التكليف غير الواصل، وإنْ كان صادراً في الواقع، حيث هناك مجال لأنْ يقال بوجود مسئولية وتكليف تجاهه، فهناك فرقٌ بينهما، فلا يمكن أنْ نقول أنّ هذا مثل ذاك، هذا كلام ليس واضحاً.
 وحينئذٍ، إذا كان المقصود هو الاستدلال بالملازمة بين الأمرين، فلا توجد ملازمة بينهما للفرق الواضح بينهما.
 وبعبارة أخرى: الدليل الدال على عدم وجوب الاحتياط في الأوّل لا يمكن جعله دليلاً على عدم وجوب الاحتياط في الثاني.
 وإنْ كان الاستدلال بالإجماع ونحوه، فغير معلوم وجود هكذا إجماع على عدم الفصل بين عدم وجوب الاحتياط في حالة عدم صدور البيان وبين عدم وجوب الاحتياط في حالة عدم وصول البيان حتّى لو كان صادراً في الواقع، فوجود إجماع من هذا القبيل هو أمر غير واضح، على الأقل أنّ الأخباريين لا يقولون بذلك. على كل حالٍ، هذا الدليل ليس كما ينبغي، والاستدلال بعدم القول بالفصل بينهما ليس واضحاً، فلا يمكن أنْ نتممّ هذا الدليل في محل الكلام. هذا ما يرتبط بحديث الحجب.
 ننتقل بعد ذلك إلى الدليل الآخر الذي يُستدَل به على البراءة وهو روايات الحلّيّة.
 هناك عدّة روايات وإنْ كانت تختلف في التعبيرات، لكنّها تشترك في مفادٍ واحدٍ وهو أنّ الشارع يحكم بحلّيّة الأشياء ما لم يُعلم بحرمتها، والروايات التي ذُكرت في كلماتهم، والتي يمكن جعلها دليلاً في محل الكلام عبارة عن ثلاثة روايات:
 الرواية الأولى: رواية عبد الله بن سنان. وهي رواية معتبرة سنداً، يرويها الشيخ الصدوق بأسناده، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان. وكذلك يرويها الشيخ الطوسي، بأسناده عن الحسن بن محبوب. وبأسناده، عن احمد بن محمد، عن ابن محبوب مثله. وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج 17، ص 88، باب عدم جواز الانفاق من الكسب الحرام، ح 1.
 نعم، الشيخ الكليني يرويها عن عدّة من اصحابنا عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمد، عن ابن محبوب، والمفروض أنّ هذا الطريق أيضاً تام،الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 313. والرواية هي :
 عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: (كل شيءٍ فيه حلال وحرام، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه). وهذه الرواية معتبرة سنداً.
 الرواية الثانية: رواية مسعدة بن صدقة. يرويها الشيخ الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: (سمعته يقول: كل شيءٍ هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه، فتدعه من قِبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرٌ قد باع نفسه، أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك، أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيرها، أو تقوم به البينة).الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 313.
 الرواية الثالثة: وهي فقرة(كل شيءٍ لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام) وهذه الفقرة مذكورة في كلمات الأصوليين، والذي يظهر من الشيخ الأنصاري (قُدّس سرّه) في الرسائل أنّها رواية أخرى غير رواية مسعدة بن صدقة، وصرّح أكثر من واحدٍ من المحققّين بأنّه لم يُعثر عليها في كتب الحديث بهذا النص. المحقق العراقي (قُدّس سرّه) احتمل أنْ تكون الرواية منقولة بالمعنى من رواية أخرى، وهي رواية عبد الله بن سليمان الواردة في الجبن، يرويها الشيخ الكليني، عن محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد بن عيسى، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن سنان، عن عبد الله بن سليمان، قال:(سألت أبا جعفر "عليه السلام" عن الجبن، فقال لي : لقد سألتني عن طعامٍ يعجبني، ثمّ أعطى الغلام درهماً، فقال: يا غلام ابتع لنا جبناً، ثم دعا بالغداء فتغدينا معه، فأتى بالجبن، فأكل وأكلنا، فلمّا فرغنا من الغداء، قلت: ما تقول في الجبن ؟ قال: أو لم ترني آكله ؟ قلت: بلى، ولكنّي أحب أن أسمعه منك، فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما كان فيه حلال وحرام، فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه، فتدعه).الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 339.
 الذي يمكن أنْ يُقال أنّ هذه الروايات كلّها، وغيرها ممّا سنشير إليه يمكن تقسيمها بلحاظ المضمون بالنحو الذي يمكن أنْ يُستدل به في محل الكلام، إلى قسمين:
 القسم الأوّل: الروايات التي ذُكر فيها تقسيم الشيء إلى قسمين، وسيأتي أنّ الظاهر من هذا التقسيم هو التقسيم الفعلي، أنّ هذا الشيء ينقسم بالفعل إلى حلال وإلى حرام. هذه الطائفة تشتمل على عدّة روايات، كصحيحة عبد الله بن سنان، حيث يقول فيها(كل شيءٍ فيه حلال وحرام) يعني أنّ هذا الشيء ينقسم انقساماً فعلياً إلى حلال وحرام، يعني يوجد فيه فعلاً قسم حلال، ويوجد فيه فعلاً قسم حرام، وكذلك رواية عبد الله بن سليمان أيضاً ورد فيها هذا التعبير(كل ما كان فيه حلال وحرام) فهي أيضاً ذُكر فيها تقسيم الشيء إلى حلال وحرام، وكذلك هناك رواية أخرى فيها هذا التقسيم وهي مرسلة لمعاوية بن عمّار، يرويها البرقي في المحاسن، عن اليقطيني، عن صفوان، عن معاوية بن عمّار، عن رجلٍ من أصحابنا، قال:(كنت عند أبي "عليه السلام" فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر "عليه السلام": أنّه لطعام يعجبني، وسأخبرك عن الجبن وغيره، كل شيءٍ فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه).المحاسن، احمد بن محمد بن خالد البرقي، ج 2، ص 495.
 هذه ثلاث روايات، وفيها بلا إشكال ما هو تام سنداً، على الأقل صحيحة عبد الله بن سنان.
 القسم الثاني: ما ليس فيه ذلك. فيه(كل شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه) لكن ليس فيه هذا التقسيم. وهذا القسم يتمثّل برواية مسعدة بن صدقة، ورواية عبد الله بن سليمان، والتي يرويها الشيخ الكليني في الكافي، عن احمد بن محمد الكوفي، عن محمد بن أحمد النهدي، عن محمد بن الوليد، عن أبان بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سليمان، عن أبي عبد الله(عليه السلام) في الجبن، قال:(كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة).الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 339.
 هذا القسم الثاني فيه مشكلة سندية، في الرواية الأولى هناك خلاف معروف في مسعدة بن صدقة، والرواية الثانية فيها أشخاص لا يمكن التعويل عليهم، مثل أبان بن عبد الرحمن، فهو مجهول، بالإضافة إلى أنّه ليس له إلاّ رواية واحدة، وفيها أيضاً احمد بن محمد الكوفي، فهو وإنْ روى عنه الشيخ الكليني، لكنّه مجهول لم تثبت وثاقته، فالقسم الثاني فيه هذه المشكلة السندية، بينما القسم الأوّل لا توجد فيه مشكلة من هذه الجهة. وكلامنا في كلا القسمين:
 أمّا بالنسبة إلى القسم الأوّل الذي فيه التقسيم، هذا القسم ذكره الشيخ الأنصاري (قُدّس سرّه) في الرسائلفرائد الأصول، الشيخ الأنصاري، ج2، ص 45. واستدلّ به على البراءة في محل الكلام الذي هو الشبهات الحكمية، ولم يذكر رواية مسعدة بن صدقة، وإنّما ذكرها في مقام الاستدلال على البراءة في الشبهة الموضوعية، تماماً عكس صاحب الكفاية(قُدّس سرّه) الذي ذكر القسم الثاني، يعني ما ليس فيه هذا التقسيم، واستدل به في محل الكلام، يعني رفض الاستدلال بما فيه الانقسام الفعلي إلى حلال وحرام، وإنّما استدل بما ليس فيه هذا التقسيم كرواية مسعدة بن صدقة وغيرها.
 عمدة الإشكال في الاستدلال بالقسم الأوّل كصحيحة عبد الله بن سنان هو دعوى أنّ هذه الروايات ظاهرة في الاختصاص بالشبهات الموضوعية؛ فحينئذٍ لا يصح الاستدلال بها في محل الكلام. وذكروا قرائن على اختصاص القسم الأوّل بالشبهات الموضوعية، قد تشترك بعض هذه القرائن مع القسم الثاني. القرينة الأولى: وهي المختصّة بالقسم الأوّل، وغير موجودة في القسم الثاني، ولعلّه لذلك لم يستدل صاحب الكفاية(قدّس سرّه) بالقسم الأوّل، وهي انقسام الشيء إلى حلال وحرام، والظاهر أنّ هذا الانقسام فعلي(كل شيء فيه فعلاً حلال وحرام) فالرواية تتحدّث عن الشيء الذي ينقسم فعلاً إلى حلال وحرام( كل شيء فيه حلال وحرام هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام) ويظهر من هذا التعبير أنّ منشأ الشك هو وجود حلال وحرام؛ لأنّ هذا الشيء فيه قسم حلال، وفيه قسم حرام يُشك في شيءٍ هل أنّه يدخل في القسم الحلال، أو يدخل في القسم الحرام ؟ الشارع يقول هذا لك حلال إلى أنْ تعرف أنّه يدخل في القسم الحرام، هذا هو مفاد الرواية. فالإشكال يقول أنّ المستفاد من هذه الرواية التي يُذكر فيها التقسيم أنّها ناظرة إلى شيءٍ ينقسم بالفعل إلى حلال وحرام، وأنّ سبب الاشتباه والشك في حكم الشيء الذي يريد الإمام(عليه السلام) أنْ يقول هو لك حلال هو وجود هذين القسمين، هذا المعنى الذي يُستفاد من الروايات لا يمكن تطبيقه إلاّ على الشبهات الموضوعية، حيث في الشبهات الموضوعية عندما تشك ــــ مثلاً ـــــ في أنّ هذا اللّحم الذي تشتريه من السوق، هل هو مُذكّى، أو غير مُذكّى ؟ هذا يصدق عليه بأنّ اللّحم فيه حلال وهو المُذكّى، وفيه حرام وهو الميتة، فالشيء الذي تشكّ في حلّيته وفي حرمته، باعتبار وجود قسمين للشيء وأنت لا تعلم أنّ هذا المشكوك هل يدخل في القسم الحلال، أو في القسم الحرام، هو لك حلال.
 إذن: يصح أنْ يقال بأنّ اللّحم ينقسم إلى قسمين: حلال، وهو المُذكّى، وحرام وهو الميتة، وأنّ شكك في هذا اللّحم الذي تشتريه من السوق ناشئ من وجود حرام وحلال، وناشئ من ترددّك في أنّ هذا اللّحم هل هو مُذكّى، يعني داخل في القسم الحلال، أو غير مُذكّى، يعني داخل في القسم الحرام ؟ منشأ الشك هو وجود هذين القسمين من اللّحم. أو تشك في أنّ هذا العصير الذي تشتريه من السوق ــــ مثلاً ــــ هل هو مغلي، أي أنّه غلي حتّى ذهب ثلثاه، فيكون طاهراً، أو لم يذهب ثلثاه، فيكون حراماً، يعني منشأ الشك هو أنّه هل ذهب ثلثاه حتّى يدخل في القسم الحلال، أو لم يذهب حتّى يدخل في القسم الحرام. فيصح أنْ يقال: هذا شيء فيه حلال، وفيه حرام، بمعنى أنّه ينقسم فعلاً إلى حلال وحرام، فهذا الشيء الذي فيه حلال وحرام، وأنت تشك فيه، ومنشأ شكك هو وجود هذين القسمين، فهو لك حلال، هذا ينطبق بكل وضوح على الشبهة الموضوعية، وأمّا الشبهة الحكمية، فمن الصعب تطبيق هذا المعنى في الشبهة الحكمية؛ لأنّه في الشبهة الحكمية أنا اشك في حرمة أكل لحم الأرنب، هذا الشك ليس ناشئاً من الشك في وجود لحم حلال، وهو لحم الغنم، ولحم حرام وهو لحم الخنزير، منشأ الشك في حرمة أكل لحم الأرنب هو كما قالوا فقد النص، أو إجمال النص، أو تعارض النصّين، هذا هو منشأ الشك في الشبهة الحكمية؛ لأننّي لا اشك في أنّ هذا يدخل في هذا القسم أو في هذا القسم، وإنّما أنا أشك فيه لذاته بقطع النظر عن اي شيءٍ آخر، وإنّما أشك في أنّ هذا هل هو حلال أم حرام، فالقضية ترتبط بالدليل، فكون هذا حلال وهذا حرام ليس هو منشأ الشك في هذا؛ ولذا لا يمكن تطبيق الحديث على الشبهات الحكمية، وهكذا المثال المعروف وهو شرب التتن، الذي هو شبهة حكمية، فأنا أشك في حرمة شرب التتن، ولا علاقة له بأنّ الماء يحل شربه والخمر يحرم شربه، بقطع النظر عن هذا كلّه الشك في حرمة شرب التتن يبقى على حاله؛ لأنّه شك ناشئ بلحاظ ذاته، وبقطع النظر عمّا عداه، فلا استطيع القول أنّ منشأ الشك في حرمة الشيء هو وجود القسمين، وجود القسمين لا يصح إلاّ على الشبهات الموضوعية. هذا ما يمكن أنْ يقال في مقام تقريب الاعتراض على الاستدلال بروايات القسم الأوّل في محل الكلام.