34/07/24


تحمیل
 الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية/ حديث الحجب
 فاتنا التنبيه على شيءٍ يرتبط بسند حديث الحجب، قلنا أنّ الراوي المباشر للحديث هو أبو الحسن زكريا بن يحيى، وقلنا أنّه من المحتمل أنْ يكون هو شخصاً آخر غير الواسطي، أو التميمي المنصوص على وثاقتهما بنكتة أنّهما لم تُذكر لهما هذه الكنية في ترجمتهما، فنحتمل أنّ زكريا بن يحيى هذا المُكنّى بأبي الحسن هو غيرهما؛ بل لعلّ ذكر الكنية، وهو شيء غير متعارف في الروايات، لغرض التنبيه على أنّه شخصٌ آخر غير الواسطي والتميمي اللّذان لا يُكنيان بأبي الحسن، فيُحتمَل أنْ يكون النص على الكنية في الرواية لبيان أنّه شخص آخر غيرهما.
 دلالة حديث الحجب
 تقريب الاستدلال بالرواية يكون باعتبار أنّ مقتضى إطلاق الرواية هو أنّ الذي يُحجب عن العباد موضوع عنهم، والوضع عنهم يساوق عدم إيجاب الاحتياط عليهم من ناحيته، فيكون بذلك معارضاً لأدلة وجوب الاحتياط. الحكم المحجوب عن العباد، طبعاً بإطلاق الرواية؛ لأنّ الرواية لم تقل الحكم المحجوب عن العباد؛ بل ما حجب الله علمه عن العباد، وسيأتي أنّها تشمل حتّى الشبهة الموضوعية ولا داعي لتخصيصها بالشبهة الحكمية، كما لا داعي لتخصيصها بالشبهة الموضوعية، والقرينة التي ذُكرت في حديث الرفع من وحدة السياق كان هناك احتمال أنّها تقتضي الاختصاص بخصوص الشبهات الحكمية، بأنّ(ما) في سائر الفقرات يُراد بها الفعل والموضوع، لكن هذه القرينة ليست موجودة كما هو واضح في محل الكلام. إذن: مقتضى الإطلاق هو شموله للشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة، وكلامنا في الشبهات الموضوعية، فهي تدل على أنّ إذا شككت في حكم ولم تعلم به وحُجب عنك هذا الحكم، فأنّه يكون موضوعاً عنك، فإذا كان المراد بالوضع هو عدم إيجاب الاحتياط، فأنّ الرواية تكون دالّة على عدم وجوب الاحتياط تجاه التكليف المشكوك، وهذه هي البراءة المعارضة لأدلّة وجوب الاحتياط.
 الإشكال الذي يرد على الاستدلال بالرواية هو الإشكال المعروف، وهو أن يُدّعى بأنّ الرواية ليست ناظرة إلى محل الكلام، ولا تنفعنا لإثبات ما نريده في المقام عندما نستدل بهذه الأدلّة؛ لأنّ الرواية ناظرة إلى شيءٍ آخر، وما نريد إثباته هو شيء آخر غير ما تنظر إليه الرواية.
 توضيح الإشكال: يقول المستشكل: أنّ الذي يُستفاد من قوله(عليه السلام) في هذه الرواية (ما حجب الله علمه عن العباد) أنّ الحجب أضيف إلى الله(سبحانه وتعالى)، أي أنّ ما يحجبه الله(سبحانه وتعالى) موضوع عن العباد. هذا هو مفاد الرواية، وأين هذا ممّا نحن فيه ؟!! نحن لا نتكلّم عن حكمٍ حجبه الله(سبحانه وتعالى) عنّا بحيث يُنسب الحجب ويضاف إليه (سبحانه وتعالى)، وإنّما نتكلّم عن حكمٍ حجبه الطغاة، وحجبته الأسباب الموضوعية الخارجيّة عنّا، حتّى إذا هو صدر من الله(سبحانه وتعالى)، وبُلّغ به النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة(عليهم السلام)، وبلّغوه(عليهم السلام) لكنّه لم يصل إلينا لسببٍ من الأسباب، نحن نتكلّم عن هذا الحكم الذي لم يصل إلينا حتّى لو كان صادراً ومُبيَناً، ونحن نريد أنْ نثبت البراءة في هذه الحالة، والرواية ليست ناظرة إلى ذلك، وإنّما هي ناظرة إلى تكليفٍ لم يُبينه الله(سبحانه وتعالى)، إمّا لم يُبينه أصلاً، أو بيّنه وأوصله إلى المبلغين، وهم النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة(عليهم السلام)، لكنّه لم يأمره بتبليغه وبيانه للناس.
 وبعبارة أخرى: الحديث يدل على أنّ التكليف غير الصادر، أي مع عدم الصدور هناك تأمين ووضع تجاهه، ولا يجب الاحتياط؛ لأنّ ما حجبه الله(سبحانه وتعالى)، ولم يُبيّنه، يعني ما كان الله(سبحانه وتعالى) هو السبب في حجبه وعدم بيانه، فالرواية تتحدّث عن تكاليفٍ غير مبينة أصلاً، فمثل هذه التكاليف الغير مبيّنة هي تكاليف اقتضائية إنشائية لا تتجاوز هذه المرحلة، فيكون مفاد الحديث الشريف هو مفاد(ما سكت الله عنه فاسكتوا عنه) وهذا المفاد لا ينفعنا في محل الكلام، نحن نريد أنْ نثبت براءةً في حالة عدم الوصول حتّى لو كان التكليف موجوداً وبيّنه النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة(عليهم السلام) لكنّه لم يصل إلينا لسببٍ من الأسباب. فهذا الحديث الشريف لا ينفع لإثبات البراءة في محل الكلام؛ لأنّه ناظر إلى التكاليف التي حجبها الله(سبحانه وتعالى) عن العباد والتكاليف التي يحجبها الله (سبحانه وتعالى) هي التكاليف الغير مبيّنة، فلا يمكن التمسّك بالحديث الشريف لإثبات البراءة في محل الكلام. والقرينة على نظر الحديث واختصاصه بالتكاليف غير المبيّنة وغير الصادرة هي إضافة الحجب إلى الله(سبحانه وتعالى)، أمّا التكاليف المبيّنة والغير الواصلة إلينا لوجود موانع وأسباب، سواء كانت هذه الأسباب تمثّل الأفعال الاختيارية للعباد مثل منع الظالمين وإحراقهم للكتب وأمثال هذه الأمور، أو كانت أسباب تكوينية طبيعية، في كل هذه الحالات لا نستطيع أن نقول أنّ الله حجب علمه عن العباد، وإنّما بيّنه، وأمر الأوصياء ببيانه، وبيّنه الأوصياء، لكنّه لم يصل إلينا لهذه الأسباب، وهذا لا يصدق عليه أنّه ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.
 أجيب عن هذا الإشكال: بأنّه لا إشكال في أنّ ظاهر الحديث الشريف أنّ الحجب أضيف إلى الله(سبحانه وتعالى)، وهذا يقتضي أنْ يكون نظر الحديث إلى التكاليف التي يحجبها الله(سبحانه وتعالى)، لكن إضافة الحجب إلى الله(سبحانه وتعالى)يمكن تصوّرها بنحوين:
 النحو الأوّل: أنْ يُضاف الحجب إلى الله(سبحانه وتعالى) بما هو خالق، وبما هو مدبر، وبما هو موجد للكائنات والعباد.
 النحو الثاني: أنْ يضاف الحجب إليه بما هو مشرّع ومولى. والإشكال على الاستدلال بالرواية في محل الكلام مبني على أنْ تكون إضافة الحجب إلى الله(سبحانه وتعالى) هي من قبيل إضافة الحجب إليه بما هو مولى ومُشرّع، فيجري الإشكال؛ لأنّ الحجب من الله(سبحانه وتعالى) بما هو مولى وشارع يقتضي أنْ يكون المقصود به هو عدم بيان التكاليف للعباد، وحتّى للأوصياء وللنبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيكون النظر في الرواية إلى التكاليف غير المُبيّنة، فالبراءة إذا كانت مستفادة من الحديث هي براءة في حالة عدم بيان التكاليف من قِبل الله(سبحانه وتعالى) بما هو شارع، ولا تشمل محل الكلام، يعني لا تشمل صورة عدم وصول التكليف إلى المكلّف حتّى لو كان غير محجوب منه (سبحانه وتعالى) بما هو شارع، وقلنا أنّ المهم هو إثبات أنّ التكليف لم يصل إلى المكلّف، فنجعل فيه البراءة، ونستفيد البراءة حتّى لوكان هذا التكليف قد صدر وبُيّن، ولم يحجبه الله(سبحانه وتعالى)عن العباد، هذا الحديث لا يثبت هذه البراءة؛ لأنّه يقول (أنّ ما حجب الله علمه بما هو شارع يعني ما لم يُبيّنه الله لأوليائه، ولم يأمر أولياءه بتبليغه إلى الناس هو موضوع عنهم)، وهذا لا ينفعنا في محل الكلام؛ لأننّا نتكلّم عن تكاليفٍ غير واصلة وإنْ كانت مبيّنة، وأنْ بلّغها الحجج إلى الناس، لكنّها لم تصل لسببٍ أو لآخر، فيتم الإشكال.
 وأمّا إذا كان المقصود بالإضافة هو إضافة الحجب إلى الله(سبحانه وتعالى) بما هو خالق وموجد للأشياء، ويرجع إليه الأمر كلّه، وكلّ ما في الوجود يرتبط به؛ فحينئذٍ يرتفع هذا الإشكال؛ لأنّ الحجب حينئذٍ يُنسب إليه (سبحانه وتعالى) في جميع هذه الموارد حتّى في حالات عدم وصول التكليف إلى المكلّف بفعل الأسباب الطبيعية أو التكوينية من قبيل صاعقة أو مطر أو غيرهما؛ بل حتّى إذا كان سببه منع الظالمين، وإتلافهم للتراث الذي كان موجوداً سابقاً أيضاً يصدق عليه أنّ الله(سبحانه وتعالى) بما هو خالق حجب هذه التكاليف عن العباد؛ لأنّ كل الأفعال حتّى الاختيارية التي تصدر من الظالمين والمعاندين هي بحسب ما نعتقد يصح نسبتها بشكلٍ أو بآخر إلى الله(سبحانه وتعالى) بما هو خالق. نعم يصح نسبتها إلى العبد، لكن في نفس الوقت يصح نسبتها إلى الخالق، والحديث يريد أنْ يقول ما كان الله(سبحانه وتعالى) سبباً في حجبه عن العباد فهو موضوع عنهم، وهذا أعمّ من أنْ يكون الحجب حدث بسبب عدم بيان التكليف من قِبل الشارع، أو حدث بعد بيانه لكن بسبب حادثة طبيعية اتلفت الكتب، فأنّه يصدق عليها أنّ الله(سبحانه وتعالى) بما هو خالق حجبه عن العباد.
 فإذن: الحديث يشمل كلا الأمرين وليس ناظراً فقط إلى التكاليف غير المبيّنة والصادرة؛ بل هو ناظر حتّى إلى التكاليف المبيّنة والصادرة وغير الواصلة إلى المكلّف، فيمكن التمسّك بالحديث لإثبات براءةٍ عند عدم وصول التكليف إلى المكلّف حتّى لو كان مبيّناً وصادراً، وهذا هو المطلوب في محل الكلام. إذن: الإشكال مبني على تفسير، بينما على الاحتمال الآخر لا يتم هذا الإشكال.
 حينئذٍ يتممّ الجواب عن الإشكال فيقال: أنّ المستظهر من الحديث الشريف هو الثاني لا الأوّل، يعني أنّ إضافة الحجب إليه(سبحانه وتعالى) هي إضافة إليه بما هو خالق ومدبر وموجد للكائنات، لا بما هو شارع. وهذا الاستظهار يكون إمّا باعتبار أنّ الحجب أُضيف إلى لفظ الجلالة فقط من دون أيّ قرينة أخرى، فيقال بأنّ لفظ الجلالة لا يستبطن إلاّ الخالقيّة والموجديّة والمدبّرية، أمّا حيثيّة المولوية والتشريعية لله(سبحانه وتعالى) فهي أمر زائد على لفظ الجلالة، ويحتاج إلى قرينةٍ، فمع عدم القرينة يكون المقصود بلفظ الجلالة هو الموجد والخالق والمُدبّر، فتكون إضافة الحجب إليه بما هو كذلك. نعم، يمكن أنْ تكون إضافة الحجب إليه بما هو شارع، لكن هذه الحيثية فيها مؤنة زائدة على لفظ الجلالة تحتاج إلى إثبات، فمع عدم قرينةٍ إثباتيّةٍ عليها يكون ظاهر الدليل هو أنّ الإضافة هي إضافة إليه بما هو خالق وبما هو مُدبّر؛ وحينئذٍ يقال: بعد هذا الاستظهار يمكن أنْ نثبت أنّ الحديث الشريف ينفع في مقام الاستدلال لإثبات البراءة بعد دفع ذلك الإشكال.
 هناك نكتة أخرى غير مسألة الإضافة إلى لفظ الجلالة، وأنّ لفظ الجلالة لا يستبطن المولوية والتشريع، وهي أنْ يقال: أنّ التكاليف التي يتصدّى المولى(سبحانه وتعالى) ويتعمّد بما هو مولى وشارع لحجبها عن المكلّف، إمّا بأنْ لا يُبلّغها لأوصيائه، وإمّا أنْ يبلّغها لهم ولكن يأمرهم بعدم تبليغها إلى العباد لأسبابٍ ومصالح يدركها، هذه التكاليف ليست في معرض أنْ يتوهّم العبد أنّ عليه مسئولية تجاهها، بحيث يريد الحديث الشريف أنْ يرفع هذا التوهّم والمسئولية ويثبت عدم المسئولية والأمن والوضع، وأنّ المكلّف لا يجب عليه الاحتياط تجاه هذه التكاليف، فكون نفس المولى تصدّى لحجبها عن العبد يعني أنّه لا يريدها منه؛ ولذا هي ليست في معرض توهّم أنّ المكلّف يكون مسئولاً تجاه مثل هذه التكاليف بحيث يتصدّى الشارع لرفع هذا التوهّم ولبيان عدم المسئولية، ولبيان أنّ هذا التكاليف موضوعة عن العباد، بخلاف التكاليف التي هي محل كلامنا ونريد أنْ نثبت بها البراءة، التكاليف غير الواصلة إلى المكلّف والتي يشك فيها، حتّى إذا كان مُبيّناً وصادراً من الشارع المقدس، مثل هذه التكاليف هي في معرض توهّم أنّ هناك مسئوليّة تجاهها؛ لأنّها تكاليف بيّنها الشارع ولم يحجبها، لكنّها اختفت ولم تصل إلينا لسببٍ من الأسباب، مثل هذه التكاليف في معرض توهّم أنّ العبد له مسئولية تجاهها؛ فحينئذٍ يكون تصدّي الشارع لرفع هذه المسئولية، ورفع هذا التوهّم له مجال ويكون مقبولاً عرفاً، وهذا أيضاً يكون قرينة على أنّ الحجب يُضاف إليه(سبحانه وتعالى) بما هو خالق حتّى يكون الحديث ناظراً حتّى إلى هذه التكاليف التي نتكلّم عنها، وهي التكاليف المشكوكة، غير الواصلة إلى المكلّف التي نريد إثبات البراءة بها حتّى لو صدر بيانها وصدرت من الشارع.