34/06/26


تحمیل
 الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
 كان الكلام في الوجه الثاني لإثبات عدم شمول حديث الرفع للآثار والأحكام من قبيل القسم الثالث.
 والوجه الثاني ليس وجهاً عقليّاً كالوجه الأوّل، وإنّما هو وجه استظهاري لا يخرج عن كونه استظهاراً من حديث الرفع، ويبتني على استظهار أنّ العناوين التسعة المذكورة في حديث الرفع مأخوذة على نحو المعرّفيّة والمشيريّة إلى الأفعال التي تصدر من المكلّف في الخارج مُتَعَنْونة بواحدٍ من هذه العناوين التسعة، فعنوان(ما اضطروا إليه) هو مجرّد مشير إلى الأفعال التي يضطرّ الإنسان إلى فعلها، أو إلى تركها، وهكذا(ما أكرهوا إليه)، و(الخطأ) ......الخ. وهذا معناه في الحقيقة أنّ الرفع هو رفع لآثار تلك الأفعال، بمعنى أنّ الرفع الموجود في الحديث هو رفع لما تشير إليه هذه العناوين، وما تكون معرّفة له، وطريقاً له، وإلاّ هي دورها دور المعرّفيّة، والطريق إلى هذه الأفعال، فعُبِّر عن هذه الأفعال بما اضطرّوا إليه، وما أكرهوا عليه، وهذا قد يُفهم منه أنّ هذه العناوين هي حيثيات تعليليّة، بمعنى أنّ الاضطرار هو حيثيّة تعليليّة لتعلّق الرفع بهذه الأفعال، والإكراه، والخطأ، والنسيان كلّها حيثيات تعليليّة، فإذا تعلّق الرفع بهذه الأفعال التي تشير إليها هذه العناوين، فيكون الحديث ظاهراً في رفع الأحكام والآثار للأفعال التي تصدر عن إكراهٍ، أو عن اضطرارٍ، أو عن نسيانٍ، ومعنى رفع هذه الأفعال هو رفع الأحكام والآثار لهذه الأفعال بعناوينها الأوّلية التي يشير إليها عنوان(ما اضطروا إليه)، فيختصّ الحديث بالقسم الأوّل من الآثار، يعني الآثار والأحكام الثابتة للفعل في حدّ نفسه بعنوانه الأوّلي. وأمّا الآثار والأحكام من القسم الثالث، يعني الأحكام والآثار الثابتة لنفس العنوان ـــــ الاضطرار، الإكراه، الخطأ ـــــ فلا يشملها حديث الرفع، وكون الرفع متوجّهاً إلى آثار وأحكام نفس الاضطرار، هو خلاف الظاهر؛ لأنّ المفروض أننّا استظهرنا من الحديث أنّ هذه العناوين أُخذت على نحو المعرّفيّة للأفعال التي تصدر عن اضطرارٍ، أو عن إكراهٍ، وأنّها حيثيات تعليليّة، وهذا معناه أنّ الرفع يتوجّه إلى هذه الأفعال التي تشير إليها هذه العناوين بحيثيّة وبعلّة هذه العناوين.
 فإذن: من ناحية استظهاريّة يكون الحديث ظاهراً في الاختصاص بالقسم الأوّل، ولا يشمل القسم الثالث. ويظهر من هذا الكلام، والكلام الذي قلناه في الدرس السابق أنّ النتيجة النهائية هي أنّه من ناحيةٍ عمليّةٍ لا إشكال في العمل بالدليل الدال على ثبوت ذلك الحكم الذي أُخذ في موضوعه الاضطرار والإكراه والنسيان، ويجب العمل به على كل حالٍ، سواء قلنا أنّ حديث الرفع يشمل القسم الثالث، أو قلنا بعدم شموله له، ولا مجال للتمسّك بحديث الرفع لنفي هذا الأثر؛ لأنّ هذه الآثار إمّا خارجة عنه تخصصّاً، أو خارجة عنه تخصيصاً. هذا من ناحية عمليّة.
 أمّا من ناحية أصل المطلب الذي هو هل الحديث يشمل القسم الثالث، أو لا؟ فإذا التزمنا بهذا الاستظهار؛ فحينئذٍ يمكن القول بأنّ الحديث لا يشمل القسم الثالث، ويختصّ بالقسم الأوّل، لكن لا لوجود محذورٍ ثبوتي في هذا الشمول، وإنّما لوجود محذورٍ إثباتي؛ لأنّه خلاف ظاهر الدليل، فشموله لآثار نفس هذه العناوين هو خلاف ظاهر حديث الرفع، الذي ظاهره هو الشمول لأحكام وآثار الفعل الذي يطرأ عليه الاضطرار.
 الأمر الرابع من فقه الحديث: في هذا الأمر نبحث عن مسألة الامتنان، وما هي الآثار التي تترتب على افتراض أنّ حديث الرفع مسوق مساق الامتنان ؟
 ذُكر في تقريرات بحث السيّد الخوئي(قدّس سرّه) أنّه يُعتبر في شمول حديث الرفع بالنسبة إلى الاضطرار والإكراه، وما شابههما، أمران: [1]
 أوّلاً: أنْ يكون في رفع الحكم في ذلك المورد الواقع عن اضطرارٍ، أو نسيان، أو إكراه مِنّة على العباد. وعلى هذا الأساس لا يشمل حديث الرفع صحّة بيع المُضطرّ، فإذا اضطرّ الإنسان إلى بيع داره لكي يعالج نفسه، أو يقضي حاجته، فهل يشمل حديث الرفع صحّة هذا البيع، فيرفعها ؟ بحيث لا يكون البيع صحيحاً، ولا يترتب عليه الأثر ؟ قالوا لا يشملها؛ لأنّ في رفع الصحّة خلاف الامتنان، بينما يُشترَط في حديث الرفع عندما يشمل مورداً، أنْ يكون في الرفع مِنّة على العبد، والحال أنّ في رفع صحّة بيع المضطرّ خلاف المِنّة، بخلاف بيع المُكرَه، فأنّ حديث الرفع يشمله، وإذا وقع البيع عن إكراهٍ، فحديث الرفع يرفع أثر البيع الواقع عن إكراهٍ، وهو الصحّة، فيرفع الصحّة، وليس هناك مشكلة في رفع الصحّة هنا؛ لأنّه ليس على خلاف الامتنان أنْ تقول لمن باع مُكرَهاً أنّ بيعك ليس صحيحاً.
 ثانياً: يُعتبر في شمول الحديث لموردٍ أنْ يكون في الرفع مِنّة على الأمّة، وليس على شخصٍ دون شخص. ومن هنا فرّع على ذلك أنّ الاتلاف إذا وقع عن اضطرارٍ، أو عن إكراهٍ، أو نسيانٍ، فحديث الرفع لا يرفع الضمان في موارد الاتلاف غير الاختياري، وإنْ كان في رفعه مِنّة على المُتلِف إكراهاً، أو اضطراراً، قالوا: لا يكفي في شمول الحديث لموردٍ أنْ تكون فيه مِنّة على الشخص نفسه؛ بل مضافاً إلى ذلك لابدّ أنْ لا يكون في الرفع خلاف الامتنان بالنسبة إلى الغير؛ لأنّ هذا معناه أنّه ليس مِنّة على الأمّة كأمّة، فعندما نرفع الضمان عن هذا المُتلِف اضطراراً، فأنّه يستلزم إيقاع الضرر بالمالك، فلا يكفي في شمول حديث الرفع لموردٍ أنْ تكون فيه مِنّة على ذلك الشخص نفسه؛ بل لابدّ أنْ لا يكون هناك خلاف الامتنان، وإيقاع المشقّة على الغير، وعبّروا عنه بأنّه يلزم لرفع الحكم في موردٍ، أنْ يكون فيه مِنّة على الأمّة.
 أُعترض على هذا الكلام: بأنّ دعوى ورود الحديث مورد الامتنان على الأمّة بحيث يكون الامتنان امتناناً نوعيّاً لا شاهد عليها؛ بل غاية ما يُستفاد من الحديث هو وروده مورد التسهيل، وهو ظاهر في التسهيل الشخصي من قبيل نفي الحرج، وليس فيه ظهور في التسهيل النوعي، أي التسهيل على الأمّة، وإنّما كل موردٍ فيه امتنان على شخصٍ يجري فيه الحديث، حتّى إذا كان فيه خلاف الامتنان على غيره؛ لأنّ منع شمول الحديث لمثل هذا يتوقّف على أنْ يُفسّروا الحديث بالامتنان النوعي على الأمّة، فعندما يكون الحديث مشروطاً بأنْ يكون الرفع فيه امتنان على الأمّة، هنا نمنع من شمول الحديث لهذا الفرد؛ لأنّ فيه إيقاع لفردٍ آخر، أو لأفراد آخرين في المشقّة، وفي خلاف الامتنان، فيمنع. لكن هذا موقوف على أنْ يُراد بالامتنان الامتنان النوعي، أي الامتنان على الأمّة، بينما الحديث ليس فيه دلالة على ذلك، وإنّما غاية ما فيه أنّه وارد مورد التسهيل على العباد، والظاهر من التسهيل هو التسهيل الشخصي، لا النوعي، فعلى هذا الأساس لا محذور في أنْ يجري حديث الرفع في مسألة الضمان بالإتلاف غير الاختياري، ونلتزم برفع الضمان إعمالاً لحديث الرفع، فلا ضمان على هذا، وإنْ أوقعنا المالك في المشقّة.
 فإذن: الاعتراض يتوجّه على الأمر الثاني الذي ذُكر في كلمات السيّد الخوئي(قدّس سرّه)، من أنّه يُعتبر أنهْ يكون في الرفع مِنّة على الأمّة، ويقول المعترض: أنّ هذا لا دليل عليه.
 ما يمكن أنْ يقال في المقام: أنّ ما يمكن أنْ يُستند إليه لإثبات ظهور الحديث في أنّ الغرض منه هو التخفيف على العباد والامتنان عليهم، هو قرينتان:
 القرينة الأولى: تعدية الرفع بــ(عن) في(رُفع عن أمتي). ويُستفاد منها التخفيف، بأنّ الرفع الذي يُتعدّى بــ(عن) فيه دلالة على التخفيف وإلقاء الثقل، فعندما يُرفع شيء مُلقى على كاهل المكلّف، فهذا تخفيف، والرفع الذي يتعدى بــ(عن) فيه هذا المعنى.
 القرينة الثانية: القرينة السياقيّة، أي أنّ سياق الحديث هو سياق الامتنان، والمقصود هو الرفع المنسوب إلى الأمّة المنسوبة إليه(صلّى الله عليه وآله وسلّم). فيُفهم من هذا السياق أنّه بصدد التودد والتحبب إلى الأمّة، ومن الواضح أنّ التودد والتحبب لا يكون بجعل أمر ثقيل عليهم، وإنّما يكون بالتخفيف، فيُفهم من كلا القرينتين هذا الأمر.
 بالنسبة إلى القرينة الأولى: إذا لوحظت بقطع النظر عن القرينة الثانية، يمكن أنْ تكون هي مستند كلام السيّد الخوئي(قدّس سرّه) في اعتباره للأمر الأوّل في شمول الحديث للمورد، وهو أنْ يكون في الرفع مِنّة على المكلّف، فيمكن أنْ يكون مستنده هو تعدّي الرفع بـــ(عن)؛ لأنّه فيه دلالة على التخفيف، والمِنّة، فيقال بأنّ هذا الشخص الذي يكون في رفع الحكم عنه تخفيف ومِنّة عليه يشمله الحديث؛ لأنّ الحديث عدّى الرفع بـــ(عن)، رُفع عن أمّتي، ونأخذ كلمة(أمّتي) على نحو العام الاستغراقي الانحلالي، يعني رفع عن هذا كذا، ورفع عن هذا كذا، وهذا فيه تخفيف ومِنّة، وليس على نحو العام المجموعي؛ فحينئذٍ يكون الحديث شاملاً له، وقرينة شمول الحديث لذلك هو التعبير بـــ(عن)؛ لأنّ التعبير بـــ(عن) قرينة على أنّ الحديث وارد مورد التخفيف والتحببّ إلى العبد.
 أمّا القرينة على الأمر الثاني: وهو اشتراط أنْ يكون في الرفع مِنّة على الأمّة، فهي القرينة الثانية التي هي قرينة السياق. هذه القرينة تقتضي أنْ يكون في الرفع مِنّة على الأمّة؛ لأنّه هو(صلّى الله عليه وآله وسلم) قال:(رُفع عن أمّتي) وكلمة (أمتي) في هذه القرينة لابدّ أنْ تؤخذ بنحو العام المجموعي، يعني مجموع الأمّة، وليس كل فردٍ فردٍ من الأمّة؛ لأنّ نسبة النبي(صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى كل أفراد الأمّة، وتحببّه وتوددّه إلى كل أفراد الأمّة على نحوٍ واحدٍ، ولا معنى لأنْ يُفترض أنّ النبي(صلّى الله عليه وآله وسلم) يتوددّ ويَمُنّ على بعض الأمّة برفع الحكم عنهم، لكن مع إيقاع البعض الآخر منهم في المشقّة وخلاف الامتنان، هذا خلاف أنْ يكون هو يمتنّ على الأمّة، فامتنانه على الأمّة يكون بأنْ يمتنّ على جميع الأمّة، وليس أنْ يُفرّق، فيوقع ضرراً ببعضهم ويمتن على بعضهم، هذا ليس مشمولاً للحديث، وإذا لم يكن مشمولاً للحديث، ولا يُفهم من الحديث، فلابدّ أنْ تكون الأمّة مأخوذة على نحو العموم المجموعي، أي أنْ يكون في الرفع مِنّة على الأمّة بما هي أمّة، وهذا هو مستند ما يقول السيّد الخوئي(قدّس سرّه) في مسألة الضمان في الإتلاف غير الاختياري، من أنّ الحديث غير شامل له؛ لأنّه وأنْ كان في شمول الحديث له فيه امتنان وتخفيف عن شخص المُتلِف، لكنّه فيه مشقّة وخلاف الامتنان على غيره، بينما الامتنان في الحديث لابدّ أنْ يكون على مجموع الأمّة. وبعبارة أخرى: أنّ الحديث إنّما يشمل مورداً إذا لم يكن فيه خلاف الامتنان وإلحاق الضرر بالغير؛ حينئذ يقال هذا امتنان عليه، وإمّا إذا كان فيه خلاف الامتنان فلا يشمله الحديث.
 ما يقوله السيّد الخوئي(قدّس سرّه) يمكن أنْ يكون مستنداً إلى هاتين القرينتين.
 


[1] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد الشاهرودي، ج 3، ص 246.