وإذا كانت الحالات العادية للأمر والنهي تتفاوت في خطورتها وأهميتها بما يستدعي هذه المرتبة من الإنكار أو تلك .
فإن الحالات الكبرى التي لا بُدَّ فيها من تدخل الحاكم العادل ، والأمة كلها قد تبلغ درجة من الخطورة التي لا بُدَّ فيها من الإنكار بالقلب واللسان ، وأقصى حالات الإنكار باليد وهو القِتَال .
وهذا هو ما كان يواجهه المجتمع الإسلامي في عهد الإمام ( عليه السلام ) ، فيتمثَّل تارة في ناكثي البيعة الذين خرجوا على الشرعية واعتدوا على مدينة البصرة .
ولم تفلح دعوته ( عليه السلام ) لهم بالحسنى في عودتهم إلى الطاعة ، واضطرّوه إلى أن يخوض ضدهم معركة الجمل في البصرة .
ويتمثَّل تارة أخرى في المتمردين على الشرعية في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان الذي رفض جميع الصيغ السياسية التي عرضها عليه الإمام ( عليه السلام ) ، ليعود من خلالها إلى الشرعية .
وتارة في المارقين الخوارج على الشرعية والذين رفضوا كل عروض السلام التي قُدِّمت لهم ، وأصرّوا على الفتنة ، ومارسوا الإرهاب ضد الفلاَّحين والآمنين والأطفال والنساء .
وفي هذه الحالات وأمثالها على المسلم المستقيم أن يبرأ من الإنحراف في قلبه ، وأن يدينَه عَلناً بلسانه ، وأن يَنخَرِطَ في أي حركة يقودها الحاكم العادل لتقويم الإنحراف بالقوة إذا اقتضى الأمر ذلك .
ونلاحظ أن الإمام ( عليه السلام ) وضع للإنكار بالسيف – وهو أقصى مراتب الإنكار باليد – شرطاً ، وهو أن تكون الغاية منه إعلاء كلمة الله ، وليس العصبيَّة العائلية ، أو العُنصُريَّة ، أو المصلحة الخاصة ، أو العاطفة الشخصية .
وهذا شرط في جميع أفعال الإنسان ، وفي جميع مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
إِلا أنَّ الإمام ( عليه السلام ) صرَّح به في هذه المرتبة لخطورة الآثار المترتِّبة على القيام بها حيث أنها قد تؤدي إلى الجرح أو القتل .
ويقدِّر الإمام ( عليه السلام ) أنَّ كثيراً من الناس يتخاذلون عن ممارسة هذا الواجب الكبير ، فلا يأمرون بالمعروف تاركَهُ ، ولا ينهون عن المنكر فَاعِلُه .
وذلك بسبب ما يتوَّهمون من أداء ذلك إلى الإضرار بهم ، كَتَعريضِ حياتهم للخطر ، أو تعريض علاقاتِهم الاجتماعية للاهتزاز والقلق ، أو تعريض مصادر عيشهم للإنقطاع ، وما إلى ذلك من شؤون .
فقال ( عليه السلام ) :
( وإنَّ الأمرَ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنكرِ لخُلُقان مِن خُلُق الله سُبحانه ، وإنَّهُما لا يُقرِّبان مِن أجَلٍ ، ولا ينقصانِ مِن رزقٍ ) .
وكما قلنا سابقاً من أنَّ إحياء هذه الفريضة ، وجعلها إحدى هواجس المجتمع الدائمة ، وإحدى الطاقات الفكرية الحَيَّة المحركة للمجتمع ، كان من شواغل الإمام ( عليه السلام ) الدائمة .
وكان يحمله على ذلك عاملان :
أولاهما :
أنه ( عليه السلام ) إمام المسلمين ، وأمير المؤمنين ، ومن أعظم واجباته شأناً أن يراقب أمَّتَه ، ويعلِّمها ما جَهِلَت ، ويُعمِّق وَعْيَها ممَّا عَلِمَت ، ويجعل الشريعة حَيَّة في ضمير الأمة وفي حياتها .
ثانيهما :
هو قضيته ( عليه السلام ) الشخصية في معاناته لمشاكل مجتمعه الداخلية والخارجية في قضايا السياسة والفكر .
فقد شكا الإمام ( عليه السلام ) كثيراً من النخبَة في مجتمعه ، وأدان هذه النخبَة بأنها نخبة فاسدة في الغالب ، لأنها لم تلتزم بقضية شعبها ووطنها ، وإنما تَخَلَّت عن هذه القضية سعْياً وراء آمال شخصية وغير أخلاقية .
وإذ يئس الإمام ( عليه السلام ) من التأثير الفَعَّال في هذه النخبة ، فقد توجَّه ( عليه السلام ) بشكواه إلى عَامَّة الشعب ، محاولاً أن يحرّكه في اتجاه الإلتزام العملي بقضيته العادلة ، وموجهاً وعيه نحو الأخطار المستقبلية ، ومحذِّراً من تَطَلّعات نُخبَته .
فقد كانت شكواه ( عليه السلام ) وتحذيراته المُترَعة بالمَرارة والألم نتيجة لمعاناته اليومية القاسية من مجتمعه بوجه عام ، ومن نُخبَة هذا المجتمع بوجه خاص .
ولا بُدَّ أن هؤلاء وأولئك قد سمعوا من الإمام ( عليه السلام ) مِراراً كثيرة مثل الشكوى التالية التي قالها ( عليه السلام ) في أثناء كلامٍ له عن صِفَة مَن يَتَصدَّى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل :
فقال ( عليه السلام ) :
( إِلى اللهِ أشكُو مِن معشر يعيشُون جُهَّالاً ويمُوتُون ضُلاَّلاً ، ليس فيهم سِلعة أبورُ مِن الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوتهِ ، ولا سِلعة أنفقُ بيعاً ولا أغلى ثمناً مِن الكِتاب إذا حُرِّف عن مواضعهِ ، ولا عندهُم أنكر من المعرُوف ولا أعرفُ من المُنكرِ ) .
وقد بَلَغ ( عليه السلام ) من خطورة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإِمام ( عليه السلام ) أنه جعلها إحدى وصاياه البارزة الهامة لابنيهِ الإمامين الحسن والحسين ( عليهما السلام ) .
وقد تكرّرت هذه الوصية مرتين ، إحداهما لابنه الإِمام الحسن ( عليه السلام ) في وصيته الجامعة .
والأخرى في وصيته ( عليه السلام ) للإمامين الحسن والحسين ( عليهما السلام ) في وصيته لهما وهو على فراش الإستشهاد ، بعد أن ضربه ابن ملجم المرادي ( لعنه الله ) بالسيف على رأسه في المسجد عند قيامه ( عليه السلام ) من السجود .
فقال ( عليه السلام ) في الوصية الأولى لابنه الحسن ( عليه السلام ) :
( وأمُرْ بِالمعرُوفِ تكُن من أهلهِ ، وأنكِرِ المُنكر بيدك ولِسانِك ، وبَايِنْ من فعلهُ بجُهدك ، وجاهِدْ في الله حقَّ جهادِه ، ولا تأخُذك في الله لَومَةُ لائمٍ ) .
وقال ( عليه السلام ) في الوصية الثانية لابنيه الحسنين ( عليهما السلام ) :
( أوصيكُما وجميع ولدِي وأهلي ومن بَلَغه كتابي .. إلى أن قال بعد عِدَّة وصايا – : وعليكُم بالتّواصُلِ والتّباذُلِ ، وإيَّاكُم والتدابُر والتّقاطُع ، لا تترُكُوا الأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ ، فيُوَلَّى عليكُم شِرارُكُم ، ثُمَّ تَدعُونَ فلا يُستجابُ لكُم ) .