كرم الإمام الحسن ( ع )

البريد الإلكتروني طباعة
فهرست كتاب من وحي الإسلام ج 1


كرم الإمام الحسن ( ع )

 


الكرم من الصفات النبيلة التي لمعت في حياة كل واحد من اهل البيت عليهم السلام واذا لاحظنا مصدر هذه الصفة وغيرها من الصفات الحميدة والاخلاق الرفيعة وادركنا انه هو الايمان الصادق .
نعرف ان اتصاف اهل البيت عليهم السلام بالكرم امر طبيعي جدا لان كل واحد منهم بلغ ارقى درجة واعلى مرتبة من الايمان الراسخ .
والوجه في ترتب صفة الكرم ونحوها من الصفات السامية وارتباطها بالايمان الصادق هو ان المؤمن معتقد بحب الله للكرم والكريم وانه يجازيه على ذلك معجلا بسعة الرزق وطول العمر ودوام النعمة ودفع البلاء وقد ابرم ابراما ـ مضافا الى ما يناله غدا من النعيم الدائم والسعادة الخالدة يوم الجزاء فيكون تعامله مع الله سبحانه على ضوء هذه العقيدة الصحيحة بتجمله بصفة الكرم النبيلة وغيرها من الصفات المجيدة مع قيامه بالاعمال الصالحة المقربة منه تعالى والنافعة لخلقه . نظير تعامل التاجر مع غيره بتجارة يعتقد بترتب الربح الكثير عليها ـ وقد اشار الإمام علي عليه السلام الى هذا المضمون بقوله :
« من ايقن بالخلف جاد بالعطية » كما يستفاد ما ذكرته من ترتب الفوائد الكثيرة على صرف نعمة الله سبحانه كالمال ونحوه ـ في سبيل مرضاته من صريح قوله تعالى :
( لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) (1) .
____________
(1) سورة إبراهيم ، آية : 7 .


( 129 )


وذلك باعتبار ان الاتصاف بصفة الكرم ونحوها من المزايا الحميدة مع القيام بالاعمال الصالحة المقربة من الله سبحانه والنافعة لعباده من اوضح مصاديق الشكر العملي كما هو واضح .
وقد تناولت هذا الموضوع ـ وهو صفة الكرم والسخاء ـ بحديث تفصيلي في الجزء الاول من كتابنا ( من وحي الإسلام ) .
ولذلك سأقتصر على ذكر بعض القصص المتعلقة بشخصية الإمام الحسن عليه السلام وهي تدل على تجمله بصفة الكرم مع بعض الصفات الاخرى الحميدة ـ وهي منقولة عن الجزء الاول من كتاب (1) ( أئمتنا ) منها ما روي عنه عليه من انه مر على فقراء قد وضعوا على وجه الارض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها وهم يأكلون منها فدعوه الى مشاركتهم فأجابهم الى ذلك وهو يقول : « ان الله لا يحب المتكبرين » . ولم فرغوا من الطعام دعاهم الى ضيافته فأطعمهم وكساهم .
وهذه القصة تدل على كرم الإمام عليه السلام مع تواضعه كما هو واضح وقيل له : « لاي شيء نراك لا ترد سائلاً وان كنت على فاقة ؟ .
فقال : « إني لله سائل وفيه راغب وانا استحي ان اكون سائلا وارد سائلا وان الله عودني عادة ان يفيض نِعَمَهُ عليّ وعودته ان افيض نعمه على الناس فأخشى ان قطعت العادة ان يمنعني العادة وانشد يقول :

إذا ما أتاني سائل قلت مرحبا * بمن فضله فرض علي معجل


وروي عنه انه اشتري عليه السلام حائطا ـ اي بستانا ـ من قوم من الانصار بأربعمائة الف درهم فبلغه انهم احتاجوا ما في ايدي الناس فرده اليهم .
وروي ايضا انه جاءه بعض الاعراب فقال : اعطوه ما في الخزانة فوجد
____________
(1) للمؤمن الصالح والمؤلف الناجح الحاج علي محمد علي دخيل .


( 130 )


فيها عشرون الف درهم فدفعها اليه فقال الاعرابي :
« يا مولاي الا تركتني ابوح بحاجتي وانشر مدحتي » ؟ . فأنشأ الحسن يقول :


نحن أناس نوالنا خضــل * يرتع فيه الرجاء والامـــل
تجود قبل السؤال انفســنا * خوفا على ماء وجه من يسـل


واما شجاعة الإمام الحسن عليه السلام وغيرها من الصفات الكمالية فلا اراني بحاجة الى ذكرها تفصيلا وتكفي الاشارة اليها اجمالا بعد ملاحظة ان الإمام الحسن عليه السلام وبقية افراد بيت النبوة والإمامة الطاهرين المعصومين ـ ملتقى لجميع الصفات النبيلة والاخلاق الجميلة ـ كما هو المعلوم الواضح لدى جميع العارفين بحقهم الإلهي والمطلعين على مقامهم السامي واذا اقتضت المصلحة ان يؤتى على ذكر بعض مزاياهم الغراء كما حصل بالنسبة الى ما تقدم ذكره من فضائل هذا الإمام العظيم .
فذلك من اجل التبرك بذكر فضائلهم الميمونة واستحياء بعض الدروس التربوية من سيرتهم العاطرة .


( 131 )


صلح الإمام الحسن أسبابه ونتائجه
والدروس المستفادة منه

 


قد حان وقت الوفاء بما وعدت به في صدر الحديث عن شخصية الإمام الحسن عليه السلام ـ من الكلام حول مصالحة هذا الإمام العظيم الحكيم لعدوه معاوية ـ بذكر الاسباب التي ادت اليه والنتائج الايجابية التي ترتبت عليه والدروس التربوية التي يمكن ان تستلهم منه .
وقبل الشروع بذلك احب ان امهد بمقدمة مختصرة تلقى الضوء على الموضوع وتميزه بوضوح وجلاء فأقول : ان الاصل الاولي والقاعدة الاساسية في الإسلام هي السلم والسلام واما الحرب التي شرع من اجلها نظام الجهاد العسكري فهي حالة استثنائية تفرضها المصلحة العامة للمجتمع البشري كالدواء المر والعملية الجراحية اللذين يصفهما الطبيب الحكيم الرحيم للمريض عندما يتوقف شفاؤه من عارضه عليهما فهو يريد ان ينقله بمرارة الدواء الى حلاوة الشفاء كما يريد ان ينقله بواسطة الالم القليل ـ بسبب العملية ـ الى الشفاء الطويل .
وعلى هذا تكون الحرب والجهاد العسكري بكلا قسميه الابتدائي والدفاعي لخدمة المجتمع الإنسان ي ومصلحته عندما يكون الهدف من البدء بالقتال ـ قتل الكفر واخطاره ـ ومن الدفاع دفع العدوان واضراره ـ وقد اشار الله سبحانه الى حكمة الجهاد الدفاعي بقوله تعالى :


( 132 )


( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين * ) (1) .
وقوله سبحانه :
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز * ) (2) .
وبعد هذا المقدمة الموجزه ندخل في الحديث حول الموضوع الاساسي وهو الصلح الذي وقع في التاريخ بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية ويسرني في المقام ان انقل نص الكلمة التي كتبتها سابقا حول شخصية الإمام الحسن عليه السلام بمناسبة ولادته الميمونة في النصف من شهر رمضان المبارك سنة 1407 هـ وذلك لاشتمالها على الحديث حول موضوع الصلح المشار اليه مع الاشارة الى شخصية اخيه الحسين عليه السلام وبيان السبب الذي اقتضى اختلاف موقفه الابي عن موقف اخيه الحسن الزكي أخيراً حيث وافق على ترك الاستمرار على محاربة معاوية والمصالحة معه بينما رفض الحسين ذلك من البداية واستمر على ثورته ضد حاكم عصره حتى النهاية التي تمخضت عن استشهاده مع من كان معه من ابنائه الاعزاء ـ باستثناء الإمام زين العابدين عليه السلام ـ واخوانه الاحباء واصحابه الاوفياء مع حصول ما حصل بعد ذلك من السبي والتجول بالنساء الطاهرات والاطفال الابرياء وشمول ذلك للإمام السجاد عليه السلام وفيما يلي نص هذه الكلمة :
من وحي مناسبة ولادة الإمام الحسن عليه السلام نقدم لمحة موجزة عن حياته المباركة والحديث عن حياة هذا الإمام العظيم يعتبر في واقعه حديثا عن القرآن الناطق الذي تجسمت مفاهيم الإسلام السامية وتعاليمه المربية ـ في حياته الشريفة المعطاء وذلك لان سيرة كل واحد من اهل البيت عليهم السلام تعتبر
____________
(1) سورة البقرة ، آية : 251 .
(2) سورة الحج ، آية : 40 .


( 133 )


في واقعها تجسيداً حياً وتطبيقاً عملياً لكل ما جاء في الرسالة المحمدية من عقائد حقة وتعاليم سامية ونظم حكيمة عادلة تنطلق بالإنسان فردا ومجتمعا على درب الفضيلة والكمال الى هدف السعادة والمجد والخلود ـ وقد اكد النص القرآني هذه الحقيقة بقوله تعالى :
( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (1) .
وقوله تعالى :
( يايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأُولي الامر منكم ) (2) .
بعد ملاحظة النصوص المعتبرة التي فسرت كلمة أُولي الامر ـ بالأئمة المعصومين عليهم السلام ـ ويؤكد ذلك ورود الامر باطاعتهم في سياق الامر باطاعة الله سبحانه ورسوله الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ مضافا الى ورود النصوص المعتبرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الشأن ومنها حديثا السفينة والثقلين المنقولان في كتب الفريقين بشهرة بلغت حد التواتر .
وهناك نصوص خاصة وردت في حق الإمام الحسن عليه السلام وحده ونصوص اخرى وردت في فضله وفضل اخيه الحسين عليهم السلام .
من الاولى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
من احبني فليحب ولدي هذا واشار الى الحسن عليه السلام ومن الثانية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : إبناي هذان إمامان قاما أو قعدا إنهما ريحانتاي من الدنيا .
وإذا أدركنا أن حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لولديه هذين لم يكن بدافع عاطفي محض وانما كان من خلال ما توسمه فيهما وادركه في شخصيهما المباركين من القابلية والاستعداد الذاتي الذي اودعه الله فيهما لغرض نهوضهما بالدور
____________
(1) سورة الاحزاب ، آية : 33 .
(2) سورة النساء ، آية : 59 .


( 134 )


الطليعي المعدين له في مجال حفظ الرسالة من الانهيار وصون المسيرة الإسلامية من الانحراف عن جادة الحق .
اذا ادركنا ذلك جيدا فإننا ندرك عظمة هذين السبطين بصورة خاصة وعظمة الأئمة من ذرية الحسين المعصومين عليهم السلام بصورة عامة .
واذا كان لا بد من تجلية نقطة خاصة تتعلق بصاحب الذكرى فإن اهم نقطة تستحق البحث الموضوعي والقاء الضوء الكاشف هي نقطة صلحه مع النظام الجائر المعاصر له بعد ثورته عليه ومحاربته له أول الامر .
وذلك لان عدول الإمام عليه السلام عن موقفه الاول الرافض الى موقفه الثاني المهادن اقتضى الحيرة والتساؤل من قبل الكثيرين قديما وحديثا بعد ملاحظة موقف اخيه الحسين الصلب الذي انطلق به ضد الحاكم الجديد وبقي عليه حتى استشهد ومن معه من الاعزاء الذين جاهدوا معه ـ دون ان يقدم له ويعطيه شيئا من المصالحة والمهادنة مرددا شعاره الابي المشهور :
« والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر لكم اقرار العبيد » وقبل ان اجيب على هذا السؤال وادفع الشبهة التي ثارت او اثيرت حول هذا الموضوع لا بد من الاشارة الى المبدأ العام المشترك بين الأئمة الذي ينطلقون منه في مقام التعامل مع الاخرين والحوادث التي تجري على صعيد هذه الحياة فأقول :
ان اهل البيت عليهم السلام بحكم مسؤليتهم الهامة وقيادته الشرعية العامة التي اعطيت لهم بالتعيين الإلهي المبلغ من قبل النبي صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين ـ عبر النصوص الكثيرة المعتبرة لغرض حفظ الرسالة وصون الامة كما سلف فهم لا يتجاوزون الدور المحدد لكل واحد منهم ـ من قبل الله تعالى ولا يصدر عنهم الا ما تقتضيه المصلحة العامة في الحاضر او المستقبل .
وهذا يختلف من شخص لاخر باختلاف العوامل الموضوعية التي


( 135 )


تحكم الساحة وتملي الموقف المعين الذي تقتضيه طبيعة المرحلة وتحتمه المقتضيات الراهنة .
وحيث اقتضت المصلحة الإسلامية العليا موافقة الإمام الحسن عليه السلام ـ على الصلح مع معاوية بعد محاربته له اولا لتوفر العدد القابل لان يعتمد عليه من افراد جيشه بحسب الظاهر وتبين عدم اخلاص الكثيرين منهم للقيادة الشرعية بدليل التحاق البعض منهم بجيش العدو واستعداد غيرهم لذلك بل لاكثر واخطر منه وهو تسليم الإمام عليه السلام لعدوه اذا اراد .
اجل : بعد ملاحظة الإمام الحسن عليه السلام عدم جدوى الاستمرار على محاربة عدوه وان نتيجتها ستكون سلبية على الإسلام والمسلمين في الحاضر والمستقبل ـ نظرا لما كان متوقعا حصوله على فرض الاستمرار وعدم المصالحة ـ من القضاء على حياته وحياة اخيه الحسين عليه السلام ومن كان باقيا معهما من الانصار ـ في ظل ظروف غامضة وتعتيم اعلامي متعمد من قبل النظام الجائر واعوانه حيث كان الكثيرون وخصوصا الشاميين معتقدين بشرعية حكم العدو ولازم ذلك تفسير محاربته بأنها خروج على الشرعية التي كان متوقعا لها ان تنتقل بالوراثة الى الحاكم الجديد ـ كما حصل بالفعل ـ بدون وجود ما يقتضي الثورة عليه والاطاحة بنظامه الجائر ـ ما دام الحاكم الاول كان منصبه شرعيا والثاني مثل سابقه وان الحسنين تجاوزا حدهما فقتلا بسيف جدهما ـ كما ورد على لسان بعض وعاظ السلاطين مبررا قتل يزيد الظلم والجور لحسين العدل والحق .
ونتيجة ذلك ان تذهب تلك الدماء الطاهرة هدراً من دون ان يترتب على بذلها بسخاء في ساحة النضال ـ اي اثر ايجابي بل كان المتوقع ترتب الكثير من المضاعفات السلبية والآثار السئية المتمثلة بالقضاء على الدين من خلال القضاء على رموزه الحافظة له فكراً وعقيدة ومنهجاً ونظام حياة .
ولذلك اضطر الإمام الحسن عليه السلام للموافقة على الصلح ضمن شروط


( 136 )


أملاها على خصمه مدخلاً في حسابه ترتب احدى الحسنين اما الوفاء بها وفي ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين بلحاظ المستقبل او النكث بالعهد ومخالفة تلك الشروط كما كان الإمام عليه السلام متوقعا ـ وفي ذلك مصلحة ايضا حيث يتعرى معاوية ويبدو على واقعه وانه حاكم جائر ينكث بالعهد ولا يفي بالشرط ـ وهذا يسلب عنه شرعية الحكم ويبرزه على واقعه ـ وهو واقع الظلم والغصب للمنصب الشرعي من اهله ـ وهم اهل البيت عليهم السلام وبذلك يتهيأ الجو المناسب للإمام الحسين ليثور على الحاكم الجديد الغاصب للمنصب الشرعي من الحسين بعد ان غصبه ابوه سابقا من الحسن عليه السلام .
ويزيد الموقف وضوحا والثورة واقعية وسدادا تجرد يزيد من كل الشعائر الدينية ومحاربته بصراحة للرسالة المحمدية بإنكاره نزول الوحي على الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهذا منه كفر صريح غير قابل للتأويل والحمل على وجه صحيح ـ وذلك بما نقل عنه من قوله المتحلل :

لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل


وهذا مضافا الى تجاهره بالفسق والفجور بتركه اهم الواجبات وارتكابه اكبر المنكرات مثل الزنا وشرب الخمر بكل وقاحة واستخفاف بأهم الاركان الدينية وهي الصلاة وذلك بما نقل عنه من قوله :


دع المساجد للعباد تســـكنها * ومل الى دكة الخمار واسقينا
ما قال ربك ويل للألى شربوا * بل قال ربك ويل للمـصلينا


ومن المعلوم انه بعد تردي الوضع الديني الى هذا الحد وبلوغ الجمود والركود في الامة الى هذه المرحلة التي تنذر بالخطر على الدين وجهود وتضحيات سيد المرسلين ـ لا يبقى مجال للمهادنة والسكوت عن كلمة الحق امام السلطان الجائر ـ مع علم الإمام الحسين عليه السلام بأن سكوته لا يكفي لسلامته ومن يتعلق به لو اراد السلامة المادية الدنيوية الزائلة ـ على حساب المبدأ والرسالة ـ بل لابد ان يبايع الحاكم الجديد وينزل على حكمه ـ كما


( 137 )


طلب منه ـ وحاشا لحسين البطولة والشمم ولرجل المبدأ والفضيلة ان يضع يده الطاهرة في تلك اليد النجسة ليتعاون مع صاحبها على هدم صرح الشريعة المحمدية لتعود الامة الى ما كانت عليه من الضلال والجاهلية .
أجل : بعد تحقق ما اراد الإمام الحسن عليه السلام ـ ان يتحقق ببركة مصالحته لعدوه الجائر ـ من ظهور واقع النظام الاموي على واقعه وانه نظام جاهلي يحمل في طيه كل احقاد التاريخ وانحراف الجاهلية وان الثورة ضده تكون صادرة من اهلها وواقعة في محلها ـ الامر الذي يحرك الرأي العام ضد ذلك النظام ويحوله الى صف الحق والشرعية من اجل ان ينقلب عليه ويطيح به ويقضي على رموز اعداء الحق والفضيلة .


( 138 )


اشارة الى سبب الثورة الحسينية

 


بعد تحقق ذلك كله وادراك الإمام الحسين عليه السلام ان دمه الطاهر وبقية الدماء الزكية ـ اذا بذلت في سبيل نصرة الدين سوف لا تذهب هدراً بل لا بد ان تتحول الى مشاعل تضيء درب الحرية والثورة على اولئك الظالمين ليقضى على وجودهم مادياً بعد ان فقدوا وجودهم المعنوي بتجردهم من روح الرسالة وقلب الفضيلة واصبحوا اشباحا بلا ارواح ـ فاقدين لحياة العزة والكرامة والشرف والفضيلة بعد هذا التحول في الاوضاع والتغير في المعادلة وحصول الجو المناسب للجهاد المثمر المعطاء والهادم البناء .
كانت الثورة الحسينية المجيدة التي اطاحت بعرش بني امية بعد ذلك ببركة تلك الثورات المباركة التي انطلقت بقصد نصرة الحق والاخذ بالثأر من اولئك الذي تعاونوا على الاثم والعدوان بمحاربتهم لاهل البيت الطاهر وارتكابهم في حقهم ابشع المجازر .
وقد اشار الشاعر الى ما حصل لاعداء الحق وخصوم المبدأ من تحول نصرهم المادي الزائف الى هزيمة عسكرية منكرة بعد انهزامهم من الاول معنويا بقوله مخاطبا الحسين عليه السلام .

قتلوك للدنيا ولكن لم تــدم * لبني امية بعد قتلك جــيلا
ولرب نصر عاد شر هزيمة * تركت بيوت الظالمين طلولا


وتحصل مما تقدم ان الظرف في عهد الإمام الحسن لم يكن صالحا


( 139 )


للإستمرا على الحرب لذلك آثر ان يصالح ويقعد عنها وقعد معه اخوه الحسين منتظراً سنوح الفرصة وحصول الظرف الملائم وقد تحقق ذلك ببركة الصلح الذي اظهر العدو على حقيقته وحفظ للحسين حياته ليثور في الوقت الملائم وينال الشهادة المحققة لهدفين كبيرين احدهما نصره الحق بعد ذلك على ايدي الابطال الحسينيين الذين تخرجوا من مدرسة كربلاء النضالية ـ والثاني نيل شرف الشهادة في الدنيا مع السعادة الخالدة ورضوان الله سبحانه في الاخرة وذلك هو الفوز المبين وقد ظهر من مجموع ما تقدم الجواب الواضح على السؤال الذي طرح سابقا ولا يزال يطرح لاحقا وهو : لماذا صالح الحسن معاوية وحارب الحسين يزيد وهناك جواب اجمالي عام يستفاد من العلم بعصمة كل واحد من اهل البيت عليهم السلام وان تصرف اي واحد منهم يصدر منسجما مع الحكم الشرعي الذي يتوجه اليه على ضوء ظروفه الحاكمة ولذلك قد يختلف تكليف احدهم عن غيره من ابناء هذا البيت الطاهر تبعا لاختلاف ظرفه عن ظرف الغير ـ وهذا ما تحقق بالفعل وبشكل واضح بالنسبة الى هذين الإمامين المعصومين حيث حتم على الحسن عليه السلام ظرفه ووضعه الخاص ان يصالح ويقعد عن الحرب بانتظار سنوح الفرصة ومساعدة الظرف لاخيه الحسين عليه السلام ليقوم بعد ذلك بالاصالة عن نفسه والنيابة عنه ( اي عن الحسن عليه السلام ) بواجب الثورة على الحاكم الجائر .
وخلاصة الحديث : ان الظرف الحسني حتم عليه وعلى اخيه الحسين معه ان يقعدا عن الحرب فقعدا عملا بوظيفتهما الشرعية والظرف الحسيني حتم عليه ان يثور فثار قياما بواجبه الشرعي ولو كان اخوه الحسن باقيا الى زمانه لثار معه لنفس السبب والى ذلك اشار النبي الاعظم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : الحسن والحسين امامان قاما او قعدا .
واما الدروس التي يمكن استفادتها من صلح الإمام الحسن عليه السلام فكثيرة واهمها وابرزها ما يلي :


( 140 )


دروس توجيهية من صلح الإمام الحسن ( ع )

 


الدرس الاول : في تحديد الميزان الشرعي السليم الذي يعتمد عليه لمعرفة مشروعية الحرب ورجحانها وعدم ذلك وبعد التأمل في روح التشريع الإسلامي وفلسفة احكامه التي شرعت من اجل خدمة الإنسان ية بتحصيل المنافع لها ودفع الاضرار عنها .
اجل : بعد التأمل في ذلك ندرك ان الميزان في مشروعية الحرب ورجحانها هو ترتب ما يعود على الدين بالسلامة وعلى الامة بالعزة والكرامة وعلى الوطن بالاستقلال والحرية فلا يخضع اهله الا لله سبحانه وشرعه العادل الكامل في كل المجالات وبكل التصرفات ـ وعليه فأي حرب تنتج ذلك تكون مشروعة وراجحة وربما تصبح واجبة كما هو الغالب في اكثر الموارد ـ بالوجوب الكفائي ـ وقد يتحول الى وجوب عيني في حق بعض الاشخاص الذين يكون له دور بارز واثر بليغ في انتزاع النصر والانتصار على الاعداء في ساحة المواجهة .
وكل ما يبذل في هذا السبيل يعتبر مبذولا في سبيل الله فإن كان المبذول نفسا ـ كان الباذل شهيدا مستحقا ما اعطاه الله سبحانه له من المنزلة الرفيعة في الدنيا بحيث يصبح معها حيا خالدا لا ينطبق عليه عنوان الميت في المنظور القرآني والمنطق الإسلامي القائل :
( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون ) (1) .
____________
(1) سورة آل عمران ، آية : 169 .


( 141 )


والقائل :
( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات بل احياء ولكن لا تشعرون * ) (1) .
مضافا الى ما يناله في الآخرة من النعيم الخالد والسعادة الدائمة ورضوان من الله أكبر .
وكذلك كل ما يبذل في السبيل المذكور من المال ونحوه يعتبر مبذولا في سبيل مرضاة الله سبحانه بحيث يكون من مصاديق الجهاد في سبيل الله بالمال وهو ما صرح الله به في قوله تعالى :
( يايها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون * ) (2) .
وقوله تعالى :
( * إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التورات والانجيل والقران ومن اوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * ) (3) .
واذا لم تكن الحرب راجحة بالميزان المذكور وللهدف المذكور ـ بأن كان الظرف حسنيا لا حسينيا ومكيا لا مدنيا ـ فلا تكون مشروعة بل تصبح محرمة اذا ترتب عليها اضرار جسيمة في الانفس والاموال من دون ترتب اثر ايجابي وهدف شرعي عقلائي .
وذلك لان الحرب لم تشرع في الإسلام الا لدفع خطر جسيم او لتحصيل نفع عظيم يفوق ما يبذل من الانفس والاموال في هذا السبيل كما تقدم وبدون ذلك تكون لغواً والقاء للانفس في التهلكة وصرفا للطاقات
____________
(1) سورة البقرة ، آية : 154 .
(2) سورة الصف ، آية : 10 و 11 .
(3) سورة التوبة ، آية : 111 .


( 142 )


المادية والمعنوية ـ وهي ملك الله سبحانه في غير مرضاته وهذا هو السبب الذي اقتضى ان يقعد الإمام الحسن عليه السلام عن القتال .
كما ان دفع الضرر الجسيم والخطر العظيم الذي كان متوقعا حصوله للرسالة والامة لو استقر نظام بني امية ـ في الوجود هو الذي كان المبرَر الشرعي والعقلائي لان ينهض الحسين عليه السلام بثورته المباركة في سبيل حفظ الدين من الانهيار والمحافظة على معطياته الايجابية الكثيرة والكبيرة التي ترتبت عليه منذ بزغ فجر رسالته الخالدة المنقذة واستمرت معه جنبا الى جنب في كل القرون التي سلفت وستبقى ملازمة له ملازمة النور والحرارة للشمس ـ وان اختلفت في النوعية والكمية تبعا لاختلاف الظروف الموضوعية والعوامل الخارجية التي تؤثر سلبا وايجابا بحسب طبيعة المرحلة كما هو المعلوم .
والشاهد التاريخي الواضح على هذه الحقيقة الموضوعية هو الازدهار والانتشار الذي حصل للرسالة الإسلامية المباركة في زمن الإمامين الباقر والصادق عليهم السلام الامر الذي سبب انتساب المذهب والطائفة الشيعية الى الإمام جعفر الصادق عليه السلام فقيل المذهب الجعفري والطائفة الجعفرية .
الثاني من الدروس التي تستلهم من قضية مصالحة الإمام الحسن عليه السلام لمعاوية هو درس في التنسيق والتفاهم على موقف موحد تملية المصلحة الإسلامية العليا ـ كما اتفق بين الإمامين العظيمين الحسن والحسين عليهم السلام حيث رجحا معا التوقف عن الحرب بانتظار سنوح الفرصة وعدم المغامرة بالاستمرار عليها مع ظهور العلامات الكثيرة المنذرة بالفشل وعدم ترتب اي اثر ايجابي عليه ـ اي على الاستمرار ولم يكن اتفاق الرأي وتوحيد الموقف بين الإمامين عليهما السلام من جهة العصمة بل من جهة الوعي والحكمة التي تقتضي التدبر والنظر الى القضايا بعين البصيرة النافذة التي تنظر الى الحاضر وملابساته والمستقبل ومعطياته .
والجهة التي يتوقع استفادتها هذا الدرس ـ هي الرموز القيادية التي


( 143 )


تتحمل مسؤولية قيادة الشعب والسير به نحو اهدافه النافعة مع تجنب كل المغامرات التي تبعده عن هذه الاهداف وتوقعه في متاهات خطيرة ومضاعفات سلبية كثيرة .
وحيث ان التنسيق في المواقف واتخاذ القرارات الجادة يؤدي الى توحيد الموقف المثمر لكل خير والمنجي من سلبيات التصادم وسوء التفاهم ـ فلا بد من التضحية في سبيل انجازه وذلك بالتنازل عن بعض الخصوصيات التي يؤدي التقيد بها والوقوف عندها ـ الى اهتزاز الموقف وضعف الصف والذي يساهم في تحقق التضحية والتنازل هو الاخلاص لله سبحانه ووضع المصلحة العليا التي يثمر تحقيقها رضا الله سبحانه ونفع الامة فوق كل اعتبار .
ولذلك أمر الله سبحانه بالاعتصام بحبل الوحدة ونهى عن التفرق بقوله تعالى :
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا ) (1) .
كما نهى عن التنازع لانه يؤدي الى الضعف والفشل في تحقيق هدف النصر وغيره من الاهداف الكبيرة التي تتوقف على التعاون والتضامن وذلك بقوله تعالى :
( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين * ) (2) .
وارشد الله سبحانه الى الاسلوب الراجح الناجح المساعد على حل التنازع بهدوء وحكمة وهو رده الى الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون الحل السليم على ضوء الشرع الحكيم وذلك بقوله تعالى :
____________
(1) سورة آل عمران ، آية : 103 .
(2) سورة الانفال ، آية : 46 .


( 144 )


( يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأُولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تأويلا * ) (1) .
الثالث درس في اعتماد الرأي والتدبير السياسي وحمله سلاحا معنويا في ساحة المواجهة قبل نشوب الحرب العسكرية اذا امكن الاكتفاء به لدفع الاخطار المتوقعة او بعد نشوبها اذا كان الاستمرار عليها مؤديا الى مضاعفات سلبية كبيرة وخطيرة كما حصل مع الإمام الحسن عليه السلام حيث وافق على الصلح ضمن تلك الشروط المعهودة مدخلا في حسابه حصول احدى الحسنيين اللتين مرت الاشارة اليهما سابقا بعد يأسه من جدوى الاستمرار على الحرب العسكرية المادية .
واخيرا نجحت الخطة وادى الصلح هدفه وهو حفظ حياة الحسين وبقاؤه الى الظرف المناسب مع تعرية الخصم وظهوره على حقيقته اللاإسلامية امام الرأي العام عندما نكث بالعهد وخالف الشروط المتفق عليها وفي ذلك مخالفة صريحة لقوله تعالى :
( يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعقود ) (2) .
وقول الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم : « المؤمنون عند شروطهم » .
وقد انضم الى مخالفته للشرع بصراحة ووقاحة ـ تنصيبه ولده يزيد المعروف بالاستهتار والفسق والفجور كما وصفه الحسين عليه السلام بعد ذلك .
فمجوع الامرين المذكورين مخالفة الشروط الشرعية وتنصيبه نغله يزيد خليفة ـ للامة الإسلامية ـ كشفه وعراه على حقيقيته اللاإسلامية وهيأ الارضية الصالحة لان تزرع فيها شجرة الثورة الحسينية بعد ذلك وتسقى بالعرق والدماء وبكل انواع التضحية والفداء من اجل ان تثمر الحرية والعزة والكرامة
____________
(1) سورة النساء ، آية : 59 .
(2) سورة المائدة ، آية : 1 .


( 145 )


في ظل شريعة العدالة والرحمة .
وقد اشار الشاعر الى دور سلاح الرأي السديد والتخطيط السياسي المفيد في انتراع النصر باسلوب لا يتحقق بدونه وذلك بقوله :


الرأي قبل شجاعة الشجعان * هو اول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة * بلغت من العلياء كل مكان


هذا ما سمحت الفرصة للتحدث به حول شخصية الإمام الحسن عليه السلام بمناسبة ميلاده المبارك .


( 146 )


قصيدة من وحي ميلاد الإمام الحسن ( ع )

 


ويسرني ان اختم الحديث عنه بذكر مقدار من قصيدة نظمتها سابقا بوحي من مناسبة عيد ميلاده السعيد .
وذلك في 17 / 3 / 1991 م و 150/ 9 / 1411 هـ . وهي كما يلي :

بسنا الهدى والحق اشرق مــولد * للسبط توجه العـلى والــسؤدد
وسما الى افق الخلــود جـلالة * فغدا يقوم له الزمان ويــــقعد
هو قمة المــجد الاثـيل وذروة * الشرف الاصيل بلا خلاف يوجد
لم لا ووالده الوصــي وامــه * فخر النساء وجده هـو أحــمد
ورث الفضائل كلها فغدا الافاضل * كلهم في شخـصه تتــجــسد
هو أحمد برشاده هــو حــيدر * بجهاده وهو الحـسين الامــجد
وهو الأئمة من أخـيه تــحدروا * نسباً به يسمو العـلاء ويـصعد
بعلومه انكشف الضلال واشرقـت * شمس الكـمال بــنوره تـتوقد
وبجوده انحسر الشقاء وامـطرت * سحب الندى تروي الظماء وترفد
وبحلمه رد السفاهة مـن فتــى * اضحى على شرع السما يتمـرد
وبصلحه حقن الدماء واصبـحت * سبل الجهاد لمـا يريد تمـــهد
لولاه ما انتـفض الحسين محـققا * بنضـاله ما يــبتغيه وينــشد
بالرأي يدرك عــاقل مــتبصر * يوم الوغى ما لا يفيــد مهــند
والحق مـيزان لنـصر حــاسم * بجسامه يطوى الهـوى ويــبدد
هذا الحسين وقد قضى يوم الوغى * ظلما وعزله النـصير المنــجد




( 147 )

 

لكنه قتل الـعدو بموقـف * حق به يحمى الهدى ويشيد


وبعد الفراغ من الحديث عن شخصية الإمام الحسن عليه السلام بمناسبة ولادته في النصف من شهر رمضان المبارك .
يأتي دور الحديث عن معركة بدر الكبرى لوقوعها في السابع عشر من هذا الشهر المبارك من السنة الثانية للهجرة النبوية وقد ترجح عندي ان انقل نص الكلمة التي كتبتها حول هذا الموضوع واذيعت عبر الاذاعة اللبنانية ليلة السابع عشر من الشهر الميمون سنة 1407 هـ . وهي كما يلي :