37/07/18


تحمیل

الموضوع:- مسألة ( 19 ) – المكاسب المحرمة.

وأما إذا بنينا على أن علمهم ثابت بشكل مطلق وليس معلقاً على الارادة كما ربما توحي به بعض النصوص من قبيل الخطبة الموجودة في نهج البلاغة المرتبطة بقضية التتار وإخبار الامام عليه السلام بأنه سوف يدخل بغداد جماعة ما يعبر عنهم بالتتار حيث ورد فيها ما نصّه:- ( كأني أراهم قوماً كأنهم وجوههم المجان المطرقة[1] يلبسون السرق والديباج ويعتقبون الخيل العتاق ويكون هناك استحرار[2] قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ويكون المفلت أقل من المأسور ، فقال له بعض أصحابه:- لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ، فضحك عليه الصلاة والسلام وقال للرجل وكان كلبياً:- يا أخا كلب ليس هو بعلم الغيب وإنما هو تعلّمٌ من ذي غيب )[3] ، والشاهد هو قوله عليه السلام ( وإنما هو تعلّم من ذي غيب ) يعين أن هذه الأمور قد تعلمتها ممن اطلع على الغيب ، ولعل المقصود منه النبي صلى الله عليه وآله ، ويشير بذلك إلى الحديث الذي يقول فيه:- ( علمني رسول الله ألف باب ..... ) ، وهذا يفهم منه أن هذه العلوم كانت عنده فعليّة والمسالة ليست معلّقة على الارادة فإنّ النصّ ربما يوحي بذلك.

ونذكر شيآن جانبيان:-

الأوّل:- إنّ ابن أبي الحديد حينما يذكر هذه الفقرة يقول:- ( اعلم أنّ هذا الغيب الذي أخبر عليه السلام عنه قد رأيناه نحن عياناً ووقع في زماننا وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقة القضاء والقدر إلى عصرنا وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق )[4] .

الثانية:- وبهذا يندفع الإشكال الذي يورد علينا هو أنّ أئمتكم كيف يعلمون الغيب والحال أنّ القران الكريم يقول:- ﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [5] وهذا يتنافى مع صريح القرآن الكريم ؟! والامام عليه السلام أجاب وقال:- إنّ هذا ليس بعلم الغيب وإنما هو تعلّمٌ من ذي غيب ، فعلم الغيب هو عند الله عزّ وجلّ وهو قد أعلمنا بواسطة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.

إذن هذا النصّ لعلّه يوحي بأنهم عليهم السلام كانوا يعلمون الأمور الغيبية بالفعل وليس معلقاً على الارادة ، وهكذا حديث ( علّمني رسول الله ألف باب ينفتح لي من كلّ باب ألف باب ) ، وهذا الحديث وارد في موارد مختلفة وليس من البعيد أنه كان التعليم في هذا المورد ألف باب ينفتح منه ألف باب ، وأيضاً في ذاك المورد أيضاً ألف باب ثانية ينفتح منها ألف باب .... وهكذا ، فالمقصود هو أنّ هذا ليس تأكيداً ، فإنه عليه السلام كانت له دخلات مع النبي صلى الله عليه وآله في النهار وكانوا يجلسون في الحجرة فحينما كان يخرج كان يقول ( علمني رسول الله .. ) ، ومن موارده أيضاً عند احتضار الوفاة للنبي صلى الله عليه وآله دخل عليه السلام تحت الغطاء معه وبقي فترة وعندما خرج قال:- ( علّمني رسول الله .... ) ...... وهكذا موارد أخرى ، والقصود أنّ هذه النصوص تدل على أنّ العلم بالغيب كان عندهم علماً فعلياً ، وإذا بينا على أنّ علمهم بالغيب كان علماً فعلياً كيف الجواب على مسألة أكل البيضة وبقية المسائل ؟

والجواب:- صحيحٌ أنهم كانوا يعلمون الغيب ولكن في نفس الوقت كانوا مأمورين بأن يسلكوا المجرى الطبيعي ويتعاملوا التعامل الطبيعي وكفردٍ من سائر الأفراد؛ إذ لولا ذلك يلزم اختلال نظام حياتهم ، لأنه يلزم أنه إذا دعي الإمام عليه السلام دعوة فسوف لا يذهب إلى بيت فلان أو فلان لأنّ طعامهما فيه نجاسة أو غير ذلك وهكذا سائر الأمور فهو مطلع عليها فلا يتمكن أن يتعامل مع الناس تعاملاً طبيعياً ، بل يلزم أكثر من ذلك فيلزم أن يفرّ من القضاء الإلهي ومن الموت ، فمثلاً النبي صلى الله عليه وآله حينما تزوّج ببعض نسائه ألا يعلم أنها تفعل ما تفعل فلماذا تزوجها إذا كان يعلم بذلك ؟ أوليس قد قال لها:- ( إياك أن تكوني التي تنبحها كلاب الحوأب ) فلماذا أقدم على الزواج منها ، وأمير المؤمنين عليه السلام حينما دخل المسجد ألا يعلم أنّ هذا الرجل نائم في المسجد وبعد دقائق سوف يغتاله فلا أقل أن يأمر بحبسه ولا أقل مراقبته بشكلٍ من الأشكال حتى لا يدخل على أمير المؤمنين عليه السلام أثناء الصلاة ، والإمام الحسن عليه السلام حينما تزوج بجعدة ألا كان يعلم أنها تفعل ما تفعل ؟! ، فكلّ هذه الأمور كانوا يعلمون بها بيد أنهم مأمورون بأن لا يسيروا على طبق علمهم وإلا تلزم بعض اللوازم الباطلة.

إن قلت:- كيف يطبق الامام عليه السلام أصالة الطهارة أو أصالة الحلّية حينما يذهب إلى بيوت بعض الناس ويشرب يأكل والحال أن هذه الأصول مختصّة بحق غير العالم وهو عالمٌ فكيف يطبّقها ؟

قلت:- هذا في صالحي وليس في صالحك ، فإن هذا يدلّ على أنه عليه السلام كان مأموراً أن يلقي علم الغيب جانباً ويتعامل كإنسانٍ طبيعيٍّ ، فعلى هذا الأساس تبقى الأصول جارية في حقّه وليست معطّلة وإلا إذا أراد أن لا يعملها فسوف يلزم اختلال نظام حياته.

إن قلت:- هذا جيّدٌ ولكن تبقى الآثار الوضعية ماذا نصنع تجاهها ؟ فهو حينما يشرب هذا الشيء بعد إجراء أصالة الطهارة فإذا فرض واقعا أنّه كان جساً أو أجرى أصالة الحلّية وكان واقعاً حراماً فهنا سوف يدخل الحرام والنجس في بطنه وهذا له آثاره الوضعية كما نعرف فكيف نجيب عن هذا ؟

قلت:- إما أن نلتزم بأن مقاماتهم وذاتهم عالية جداً بحيث لا تؤثر هذه الأمور عليهم بسبب علو ّ مقاماتهم ، فأكل النجس أو الحرام يؤثر عليّ وعليك لأنّ مقاماتنا وذواتنا ضعيفة ، أما من بلغ المقام السامي فهذه الأمور لا تترك آثارها الوضعية عليه بسبب علو ذواتهم وسموّ مقامه.

أو نقول- من قال إنّ الآثار الوضعية تترتب في حقّ الجاهل فإنّ هذا كلام ينبغي الوقوف عنده ، فربما يقال إنّ تشريع الإمام الصادق عليه السلام لقاعدة الحلّية وقاعدة الطهارة والسماح لنا في أن نطبق ( كلّ شيء لك نظيف حتى تعلم أن قذر ) و ( كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) معناه بالدلالة الالتزامية أنه لا توجد آثار وضعية وإلا كيف سمح لنا بتطبيق هاتين القاعدتين وسائر القواعد الظاهرية ؟!! إنه ربما يلتزم في أمثال هذه القواعد بأنّ الآثار الوضعية تعطّل بعد تشريع هذه القواعد ومن تمسّك بها لا تترتب عليه هذه الآثار الوضعية ، إنّ هذا كلامٌ يمكن أن نقول به ، وعلى هذا الأساس لا مشكلة من هذه الناحية.

ونشير إلى شيء آخر:- وهو أنّ هذا الحديث الذي ذكرناه هو حديثٌ بشكلٍ عامٍ ويشمل جميع الموارد ولا يختصّ بمسألة البيضة التي أكلها الإمام عليه السلام ، وأما إذا أردنا أن نتحدث عن خصوص رواية البيضة فربما يقال إنّ هذه الرواية لها جواب خاصّ يمكن به حلّ المشكلة ولا نحتاج إلى هذه الأجوبة العامّة - فهذا الجواب الذي ذكرناه هو في المجال العام ولكن يوجد جواب خاصّ بالنسبة إلى هذه الرواية سواء قبلنا بذاك الجواب العام أم لم نقبله - وذلك بأن يقال:- إنّ الرواية لم تفترض أنّ ما مدّ الإمام يده إليه كان من البيض الذي تقومر عليه ، بل يمكن أن يقال إنّ الغلام أمره الإمام بشراء البيض فذهب واشترى بيضة أو بيضتين ثم ذهب ولعب بالقمار فحصل بواسطة هذه البيضة أو البيضتين بيضتين أخريين وجاء الى البيت ببيضاتٍ أربع فحينئذٍ اختلط الحلال بالحرام والرواية تقبل هذا المعنى فلاحظها حيث قالت:- ( قال بعث أبو الحسن عليه السلام غلاماً يشتري له بيضاً فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بهما فلما أتى به أكله )[6] ، إن قوله ( فقامر بها ) يعني بيضة أو بيضتين قد اشتراهما ثم قامر بها فلما أتى به أكله عليه السلام ولكن هل أكل نفس تلك البيضة المشتراة ؟ فإذا كان هذا هو المقصود فقوله ( قامر ) ليس له معنى ، فحينما فرض أنه قامر يعني حصل بواسطة البيضة المشتراة على بيضة ثانية ، فإذن كان هناك خليطٌ - بيضةٌ من قمار وبيضةٌ من حلال من شراء صحيح - ، مضافاً إلى أنّ المولى قال للإمام عليه السلام ( إنّ فيه ) ولم يقل ( هي قمار ) بل قال في هذا المجموع قمار وهذا يساعد أكثر ، وحينما مدّ الإمام يده لعلّه مدّها إلى البيضة الحلال وأكلها وحينما قال له مولاه بأنّ فيه من القمار فأمر بالطشت ليتقيأ أراد في الحقيقة أن يعلّم الناس ويعطي درساً لهم بأنّ ما فيه شبهة القمار لابدّ من التحرّز عنه لكنه لم يرتكب ما فيه الشبهة ، ولا يلزم أن يقول لهم أنا ارتكبت الحلال ولم ارتكب ما فيه الشبهة فإن هذا لا يلزم أن يبينه لهم.

بل نتمكن أن نقول أكثر:- وهو أنه من قال إنّ هذا الغلام قامر ولعلّ ذلك كان مجرّد دعوى عليه ، فإنّ الإمام عليه السلام لم يقل ذهب وقامر وإنما الذي نقل ذلك هو عبد الحميد لأنّ الرواية تقول:- ( عن عبد الحميد بن سعيد قال بعث أبو الحسن عليه السلام غلاماً يشتري له بيضاً فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها فلما أتى به أكله ، فقال له مولىً له إن فيه من القمار .... ) ، فهي كانت مجرّد دعوى لا مثبت لها ، فأصل كون وجود قمارٍ ولو بنحو العلم الاجمالي مجرّد ادّعاء لا مثبت له ، ولكن لماذا أمر الإمام عليه السلام بالطشت فقاءه ؟ قلنا هذا من باب التعليم وإلفات نظر الناس إلى أنه لابدّ من التحرّز الشديد عن مسألة القمار وإلا فواقعاً لم يثبت أنّ هذا الغلام قد قامر وأتى ببعض البيض الذي فيه القمار.

إذن إذا أردنا أن نتعامل مع هذه الرواية فهي لها حلول خاصّة بها بقطع النظر عن ذلك الحلّ العام الذي أشرنا إليه.

وهناك قيضة أخرى :- وهي أنه رب قائل يقول:- إنه توجد مسألتان مسألة عصمة الأئمة عليهم السلام ومسألة علمهم للغيب ، والمشكلة التي تواجهنا هي أنّ الامام عليه السلام فعل ما يتنافى مع العصمة وليست المسألة مسألة أنه فعل ما يتنافى مع علمهم بالغيب حتى يأتي الكلام أنّ علمهم بالغيب وسيع أو لا وهل هو مقيّد بالمشيئة أو لا أو غير ذلك ، كلا بل كيف يرتكب الإمام عليه السلام ما هو المحرّم وكيف ويخطأ وهذا يتنافى مع فكرة العصمة ؟

وإذا كان الإشكال من هذه الناحية فقد اتضح جوابه أيضاً:- وهو أنه لم يثبت أنه عليه السلام ارتكب ما يتنافى مع العصمة - في هذا المورد من الرواية - لما أشرنا إليه من الوجهين ، فإما أن يقال إنه كان هناك اختلاط بين البيض الحلال والبيض الحرام والإمام عليه السلام مدّ يده إلى البيض الحلال وأكل منه ويبقى القيء فحل مشكلته بما أشرنا إليه ، أو يقال إنّ هذا كان مجرّد ادّعاء ولم يثبت أنّ الغلام قد قامر وحصل على بيضٍ من القمار ، فالمشكلة من الأساس تكون ليست ثابتة ولم يحصل شيءٌ يتنافى مع العصمة.


[1] المجان هو ما يأخذه المحارب كوسيلة للحماية أي الترس من حديد وهذا توجد فيه نتوءات فيشبه الامام عليه السلام وجوه هؤلاء بأن وجوههم ثخينة.
[2] أي شدة قتل.