37/06/24


تحمیل

الموضوع:- الولاية للجائر - مسألة ( 36 ) – المكاسب المحرمة.

الأمر الخامس:- وهو يشتمل على تلخيصٍ لما سبق مع شيءٍ من الاضافة ، وحاصل ما ذكره(قده):- إنه ينبغي التفرقة بين ما إذا صدق الاكراه في المورد وبين ما إذا لم يصدق ، والمقصود من حالة عدم الصدق ما إذا كان الضرر لاحقاً للأجنبيّين كأن قال السلطان للوالي ( انهب مال فلان وإلا نهبت مال فلان الآخر ) فهنا الاكراه لا يصدق ، فإذن ينبغي التفرقة بين مورد صدق الاكراه وبين مورد عدم صدقه ، فإن صدَقَ فيحلّ له حينئذٍ كلّ محرّم.

وواضحٌ أنه لابد وأن يكون مقصوده ما عدى القتل ، ولعله اعتمد على ما سبق ، وهذا المطلب قد أشار إليه في التنبيه الأوّل ، حيث تعرضنا فيه إلى هذه القضيّة وهي أنّ الولاية إذا جازت بالإكراه من قبل السلطان الجائر فهل تجوز لوازمها من حبس هذا أو ذاك أو ضرب هذا أو ذاك أو لا ؟ وذكرنا هناك أنه توجد ثلاثة احتمالات في المسألة وأحد الاحتمالات التي ذكرناها وهو الذي بنى عليه الشيخ الأعظم(قده) وهو أنّ كل محرّمٍ يجوز له ما عدى القتل ، والاحتمال الثاني هو أنّ المدار على أقل الضررين ، والاحتمال الثالث هو أنّ حديث الاكراه يختصّ بالمحرّمات الإلهية ولا يشمل مورد حقوق الناس وهذا هو الذي اخترناه وملنا إليه لأننا قلنا أنه لا يمكن تطبيقه لأنه خلاف المنّة.

فالشيخ اختار هناك أنه يحلّ كل محرّم ما عدى القتل واستدل على عدم جواز القتل بصحيحة محمد بن مسلم التي تقول:- ( إنما جعلت التقية ليحق بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية )[1] ، واستدل على الجواز في غير مورد القتل من حبسٍ وضربٍ وغير ذلك بثلاثة وجوه ، الوجه الأوّل التمسّك بإطلاق حديث نفي الاكراه حيث إنّ الحديث يقول ( رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه ) فكلّ ما يترتّب على الاكراه جائز.

ونحن أشكلنا وقلنا:- إنّ هذا هو ليس مكرهاً وغير مختار ، بل هو باختياره سوف يسجن الثاني ، وإذا يسجنه فلا يترتب شيء سوى دخوله السجن وأيّ مشكلة في ذلك ؟!! فأنه فعل سجن ذاك باختياره.

والشيخ(قده) أجاب عن هذا وقال:- إنّ الضرر ابتداءً هو متوجهٌ إلى الشخص.

وكأنه قاس المورد على مسألة السيل الذي يأتي من أعالي الجبل إلى إنسان فإنه لا يلزم تحويله عليَّ ، ونحن علّقنا عليه بما تقدّم ، فالشيخ في مسألة الاكراه بنى على جواز ارتكاب كلّ محرّمٍ سوى القتل ، ونحن قلنا لا يجوز ارتكاب كلّ محرّم بل حديث الاكراه يختصّ بالمحرّمات الالهية ، نعم لو قال لي اشرب الخمر وإذا لم تشربه فسوف أسجنك فهنا يجوز شربه لا أنّ كلّ محرّمٍ يجوز فعله حتى لو كان من قبيل حقوق الناس.

فإذن هذا بالنسبة إلى الاكراه ، فيجوز به ارتكاب كلّ محرّمٍ ما عدى القتل.

وأمّا في غير الاكراه كما لو دار الضرر بين أجنبيين:- فهناك حالات خمس ، وقد أشار إلى هذا بقوله:- ( وكيف كان فههنا عنوانان الاكراه ودفع الضرر المخوف عن نفسه وعن غيره من المؤمنين من دون إكراه والأوّل[2] يباح به كلّ محرّمٍ والثاني[3] ) ، والحالات الخمس هي:-

الحالة الأولى:- وقد ذكرها(قده) بحسب الترتيب ثانيةً ونحن نقدّمها ونجعلها الاولى لأجل أن يكون العرض أسهل ، وهي أن يدور الضرر بين خصين أجنبيين ويكون الضرر ما لياً كأن يقول ( انهب مال فلان وإذا لم تنهبه فأنا سوف أنهب مال فلان الآخر ) ، ففي مثل هذه الحالة لا يجوز نهب مال هذا ولا نهب مال ذاك حتى لو فرضنا أن أحد المالين كان أعظم من الثاني ، كأن فرض جاء السبع فإما أن يقدّم له فرس هذا المؤمن أو حمار ذلك المؤمن ، فلا يجوز تقديم الحمار للأسد من باب أنّ الفرس سعره أعظم ، ولكن ماذا نفعل في مثل هذه الحالة ؟ نقول:- لا تفعل شيئاً ، فإنّ حفظ أموال الناس ليس بلازم ، والشيخ(قده) قال إنّ حديث نفي الاكراه لا يمكن تطبيقه لأنّ الضرر لا يصيب الوالي وإنما يصيب أحد هذين المؤمنين ، ونحن قلنا:- كان من المناسب أن يعلّل بتعليلٍ آخر وهو أن يقال هو حديث امتناني ويقبح الامتنان بالتضحية بأحد المالين في سبيل الحفاظ على المال الآخر ، وقد أشار إلى هذه الحالة بقوله:- ( وإن كان متعلقاً[4] بالمال فلا يسوغ معه الاضرار بالغير أصلاً حتى في اليسير من المال فإذا توقف دفع السبع عن فرسه بتعريض حمار غيره للافتراس لم يجز ).

الحالة الثانية:- والتي جعلها هو الأوّلى وهي أنّ يدور الأمر بين القتل وغيره ، فالضرر إذن لا يحلق بالوالي ولكنه إمّا أن يحبس ذاك الشخص وإذا لم يحبسه فسوف يقتل السلطان ذلك الثاني ، ففي مثل هذه الحالة يقدم حفظ الدم.

ونحن عللنا بأنه يلزم حفظ الدم من باب أهميته ، يعني قلنا إمّا أن يدخل المورد في التزاحم فيما إذا فرض أنّ الثاني كان فيه تكليف - والآن في موردنا هذا الحبس ليس فيه تكليف فدع المؤمن يحبس فإنه لا يجب التحفظ على المؤمن من الحبس فهذا لا يكون تزاحماً ، ومرّة يكون تزاحماً فإذا فرض أنّ المورد كان من موارد التزاحم فنتحفّظ على القتل من باب أهميته - وإذا لم يكن من موارد التزاحم كما في هذا المثال - يعني الدوران بين قتل أحدهما وحبس الآخر أو نهب مال الآخر - فيتحفظ على الدم لأجل أن حفظه واجبٌ ، وعند الدوران بين الواجب وغير الواجب يقدّم الواجب بلا إشكال ، فيقدّم التحفظ على دم المؤمن وذلك بسلب مال ذاك المؤمن.

ولكن حينما يسلب مال ذاك المؤمن فسوف يثبت الضمان ن ولكن يبقى هل يتمكّن أن يرجع الوالي إلى غيره - أي الى السلطان - أو لا ؟ فالشيخ اعظم(قده)لم يتعرّض إلى ذلك ، ونحن قلنا يوجد مجال في الرجوع إلى نفس السلطان ، أو يكون الرجوع على بيت المال.

وهذه قضية سيّالة حتى إذا لم يكن هناك سلطان ووالي ، بل توجد حتى في حياتنا الاعتيادية ، فأنا علم أنّ السيل سوف يأتي فإما أن يقتل هذا المؤمن وإما أن يتلف ماله ، فأنا إما أن انقذ هذا المؤمن أو أنقذ ماله ، فإنقاذ المال حيث إنّه ليس بواجبٍ فيجب عليَّ حينئذٍ انقاذ حياة المؤمن ، وقد أشار إلى هذه الحالة بقوله:- ( والثاني[5] إن كان متعلّقاً بالنفس جاز له كل محرّم حتى الاضرار المالي بالغير ، لكن الأقوى استقرار[6] الضمان عليه إذا تحقق سببه لعدم الاكراه المانع عن الضمان أو عن استقرار الضمان ) ، والشيخ(قده) لم يتعرّض إلى مسألة أنه هل يتمكن من الرجوع على الغير أو لا ، ولكن لعلّه يشير إلى ذلك بتعبير ( استقرار ).

الحالة الثالثة:- أن يدور الأمر بين القتل والعِرض ، يعني يقول له السلطان ( إما أن تزني بفلانة وإلا قتلت فلاناً ) فهنا دار الأمر بين القتل وبين العٍرض ، فهنا لا يبعد أن يكون التحفظ على الدم هو المقدّم فيجوز له التجاوز على العرض آنذاك لا من باب حديث نفي الاكراه لأنّ الاكراه هنا لا يصدق بل لأهمية حفظ الدم.

وفي مثل هذه الحالة يلزم أن يعلّل بالتزاحم ، لأنه يوجد تكليفان هما حرمة القتل وحرمة الزنا فيقدم الأهم منهما وهو حرمة الدم ، وقد أشار إلى هذا بقوله:- ( وأما الاضرار بالعرض بالزنا ونحوه ففيه تأمّل ولا يبعد ترجيح النفس عليه ).

الحالة الرابعة:- الدوران بين المال والعٍرض ، يعني قال له السلطان ( إما أن تسلب مال فلان وإلا سوف أزني بتلك المرأة ) ، ففي مثل هذه الحالة أيهما المقدّم فإنّ الدم ليس موجوداً في البين وإنما الدوران هو بين السلب والزنا ولا يوجد تزاحم هنا فإن التحفّظ على أموال الناس ليس بلازمٍ كما أنّ الزنا هو الذي يريد يرتكبه ، فبالتالي لا يوجد تكليفان في حقّ الوالي بل السلب عليه حرام فلا يتحقّق التزاحم ، والشيخ(قده) تأمل هنا.

وهذا التوقّف توقّف صغروي لا كبروي ، يعني من باب أنّنا لا نجزم بأهّمية التحفّظ على العٍرض عند الدوران بين المال وبين العرض ، فنحن لا نجزم بأنّ الشارع في مثل هذه الحالة عنده إلزامٌ بالتحفّظ على العٍرض ، فهو(قده) يتأمّل من حيث الصغرى.

ثم يقو:- وهكذا يقول إذا دار الأمر بين العِرضين الأخف والأقوى ، كما لو قال السلطان للوالي ( إما أن تقبّل فلانة أو أنا أزني بها ) فهنا يقول فيه تردّد.

وتردّده في محلّه فإنّ هذا لا يدخل تحت باب التزاحم ، لأنّ المرتكب للزنا ليس هو الوالي ، والتحفّظ على الدم لازمٌ أمّا التحفظ من عدم وقوع هذه الأمور فليس بلازمٍ عليه ، وقد أشار إلى هذا بقوله:- ( وإن كان متعلّقاً بالعِرض ففي جواز الإضرار بالمال مع الضمان[7] أو العِرض الأخفّ[8] ففيه تأمّل ) ، وقد قلنا إنه إذا أدخلناه في باب التزاحم فالأهمية المحتملة تكفي ، وأمّا إذا لم ندخله في باب التزاحم فحينئذٍ الأهمية المحتملة لا تكفي وإنما الجزميّة.

الحالة الخامسة:- إذا دار الأمر بين القتل وبين العرض أو المال ، فإما أن يقتل هذا أو أنه يصير تجاوز على العرض أو المال ، فهنا لا إشكال في لزوم التجاوز على العِرض أو المال في سبيل التحفّظ على النفس ، وهكذا لو فرض أن الدوران كان بين التجاوز على العِرض الكبير كالزنا وبين التجاوز على المال أو العرض الأخفّ فلا إشكال في عدم جواز التجاوز على العرض الكبير بل المناسب التجاوز على العرض الأخف ، وقد أشار إلى هذا بقوله:- ( وأمّا الاضرار بالنفس أو العرض الأعظم[9] فلا يجوز بلا إشكال ).


[2] أي الاكراه ومقصوده غير القتل.
[3] الذي هو مورد غير الاكراه والذي قلنا له حالات خمس.
[4] يعني الضرر.
[5] يعني غير الاكراه.
[6] والافضل أن يعبر بثبوت الضمان عليه اي الوالي المتلف أو في المسألة السيالة وهو الشخص الذي يتصدى لمثل هكذا شيء.
[7] يعني في مقابل التحفظ على العرض.
[8] الاخف من العرض المدفوع عنه في سبيل أن لا يقع الزنا فهو يقبل هذه المرأة في سبيل أن لا يقع الزنا.
[9] يعني في مقابل التجاوز على المال أو العرض الأخف.