32/05/06


تحمیل

والمهم الذي أريد قوله :- هو انه لابد من تحقيق قضية في علم الأصول ، لعل الأضواء لم تسلط عليها في كلماتهم وهي ؛ انه لو كان لدينا مطلق يشتمل على إطلاق وسيع وبدرجة كبيرة ، ولكن علمنا من الخارج إن هذه السعة بعرضها العريض باطلة وليست مقصودة جدا -أي على مستوى المراد الجدي - ودار الأمر آنذاك - بعد عدم إمكان الحمل على السعة بعرضها العريض - بين حمل الإطلاق على الدرجة الثانية التي هي أضيق من الدرجة الأولى المتعذرة وبين الحمل على القدر المتيقن الذي هو أضيق أكثر، ففي مثل هذه الحالة على ماذا نحمل الإطلاق ، هل نحمله على السعة بالدرجة الثانية أو على القدر المتيقن ؟ ونذكر لذلك مثالاً ولعله ليس من باب الإطلاق ولكنه يوضح الفكرة وهو قوله عليه السلام ( لا يحل مال أمريء مسلم إلا بطيبة نفسه ) إن مقتضى إطلاق هذا الكلام انه لا يجوز حتى النظر إلى مال أمريء مسلم ، أو ما يقرب من ذلك ، ولكن هذا ليس مقصودا جزما ، فإننا لا نحتمل أن النظر أو ما شاكله محرم أيضا ولا يحل إلا بطيب نفس المالك ، وبعد تعذر حمل هذه السعة بعرضها العريض يدور الأمر بين الحمل على القدر المتيقن وهو التصرف الخارجي كالأكل والشرب والإمساك وغير ذلك - فهذا هو القدر المتيقن من هذا الدليل - ، وبين أن نحمله على ما هو أوسع من ذلك اعني ما يشمل التصرف الاعتباري أيضا ، كالبيع والإجارة وما شاكل ذلك وطبيعي المقصود من دون دفع واقباض خارجي وإلا صار تصرفا خارجيا تكوينيا ، والجامع هو التصرفات الاعتبارية التي لا تشتمل على تصرف خارجي - ، وإذا كانت هناك مناقشة في هذا المثال فيمكن إبداله بأمثلة أخرى ، انه لو كان الأمر كذلك فهل نحمل الإطلاق على القدر المتيقن أو على السعة بالدرجة الثانية ؟

 إن هذا لم أره في كلمات الأصوليين ، ولم يسلطوا الأضواء عليه .

وقد يقال بادئ ذي بدءٍ:- انه بعد تعذر المرتبة الوسيعة فلا بد من الانتقال السعة بمرتبتها الثانية ، انه بعد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي يتعين المصير إلى الأقرب قد يقرب بهذا الشكل ، أو يقرب بشكل آخر على لزوم الحمل على السعة بدرجتها الثانية - .

ولكن يمكن أن نقول :- أن هذه مجرد ألفاظ ولا تحمل سمة علمية ، والمناسب الاقتصار على القدر المتيقن إلا أن تقوم قرينة خارجية على الخلاف .

والوجه في ذلك :- هو أن مدرك حجية الإطلاق ليس إلا السيرة ، ولا نجزم ان السيرة قد انعقدت في مثل هذه الحالة على حمل الكلام على السعة بدرجتها الثانية ، انه وان كان شيئا محتملا ولكننا لا نجزم بانعقاد السيرة عليه ، فينبغي آنذاك الاقتصار على القدر المتيقن .

ولعل هذا الكلام يصاغ بشكل آخر فيقال :- انه بعد تعذر إرادة الإطلاق بعرضه العريض فالحمل على غيره يحتاج إلى معيّن وقرينة وحيث لا معين ، فيلزم الاقتصار على القدر المتيقن .

وعلى أي حال فالذي نريد أن نخرج به هو :- أن الحمل على السعة بدرجتها الثانية شيء لا مثبت له في أمثال هذه الموارد فيقتصر على القدر المتيقن ، إلا إذا فرض وجود قرينة معينة ، وهذه مسالة مهمة يمكن الانتفاع بها في موارد متعددة ومن ذلك مقامنا ، فان صحيحة ابن سنان قالت ( لا باس ما لم يصب راسك ) ومقتضى هذا الكلام أن الإصابة متى ما صدرت ولو بجزء يسير من قبيل إصابة الثوب للرأس ولو بمقدار إصبع ، أو الذي يقف في السيارة فيصيب رأسه طرف احد الستائر الموجودة في السيارة ، إن هذه إصابة جزما ولا انصراف عنه لأنه شيء كثير والإطلاق يشمله لأنه إصابة جزما ، ولكن نعلم من الخارج أن الفقهاء لا يلتزمون بذلك فان المدار عندهم على صدق عنوان التغطية ، والخمار ، وستر الرأس ، وبهذا المقدار وما شاكله لا يصدق ستر الرأس .

 إذن الإطلاق بعرضه العريض ليس مرادا جزما ، فيدور الأمر بين إرادة القدر التيقن وهو ستر جميع الرأس ، وبين إرادة السعة بدرجتها الثانية الصادقة على ستر نصف الرأس مثلا ، وبناءً على تلك المقدمة التي اشرنا إليها لا معنى للمصير إلى السعة بدرجتها الثانية بعد تعذر الحمل على الإطلاق بعرضه العريض ، بل يلزم الاقتصار على القدر المتيقن وهو ستر جميع الرأس .

 ونؤكد من جديد ان هذه الكبرى لو تمت لأمكن ان نستفيد منها في موارد متعددة ، وعليه لا يمكن ان نستفيد من صحيحة ابن سنان ما أراده صاحب المدارك والسيد الخوئي وهو حرمة ستر بعض الرأس ، وذلك لما اوضحناه .

وكان المناسب ان يستدل برواية أخرى :- وهي الرواية الأولى - اعني صحيحة عبد الله بن ميمون - حيث جاء فيها ( ان إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه ) وهذا معناه انه يلزم ان يبرز كامل رأسه أو بما يصدق عليه عرفا انه قد ابرز رأسه ولم يستره ، فان الإحرام بالرأس يصدق بذلك ، فلو ستر نصفه فلا يصدق انه قد احرم برأسه .

 انه كان من المناسب التمسك بهذه الرواية فهي واضحة الدلالة ، ومن الغريب عدم التعرض لها ، أو على الأقل ضمها إلى صحيحة عبد الله ابن سنان لا الاقتصار على صحيحة ابن سنان.

والنتيجة من كل هذا :- هي أنه لا يجوز ستر بعض الرأس أيضا ولكن لا لصيحة ابن سنان ، بل لصحيحة ابن ميمون ، فنحن نتفق مع صاحب المدارك والسيد الخوئي في النتيجة ، ولكن نختلف معهم في الطريق .

النقطة الثالثة :- لا يجوز ستر الرأس في حق المحرم ولو بغير الثوب كما لو كان يستره بطين أو ما شاكله ، ولكن كيف نخرِّج هذا الحكم صناعيا وفنيا ؟

 انه في هذا المجال ذكر صاحب المدارك[1] ان العلامة قد ذهب إلى هذا الحكم - يعني عدم جواز ستر الرأس ولو بالطين - واعترض عليه صاحب المدارك بأنه لو رجعنا إلى الروايات لرأينا بعضها يعبِّر بتخمير الرأس وآخر بوضع القناع وثالث بالستر بالثوب ، ولم تذكر رواية عنوان الستر بشكل مطلق بحيث تقول ( لا يجب ستر الرأس ) وإنما قيدت بالقناع أو بالثوب أو بالخمار ، ولو فرضنا أنا تنزلنا وقلنا ان الروايات قد ذكرت عنوان ستر الرأس ، ولكن نقول يلزم حمله على المتعارف - اعني بما يكون من جنس القماش لا ما يكون من قبيل الطين - وعليه فلا مثبت للتعميم ، وان كان ذلك هو الاحوط ، فالتعميم إذن أحوط ، ولكن لا دليل صناعياً عليه .

 وأما السيد الخوئي (قده)[2] ذكر في وجه التعميم ان الأسئلة في الروايات وان كانت خاصة بالقناع والستر بالثوب وما شاكل ذلك ، إلا ان جواب الإمام عليه السلام مطلق ، والعبرة بإطلاق الجواب وان كان السؤال خاصاً ، وكأنه يقصد بهذا الرد على صاحب المدارك ، فانه يريد ان يقول له صحيح ان الروايات خاصة بالقناع وغيره إلا ان جواب الإمام عليه السلام مطلق ، هكذا ذكر (قده) ولكنه لم يبين كيف ان الجواب مطلق .

 ونحن إذا رجعنا إلى الروايات فقد لا نجد إطلاقا في الجواب ، يعني بحيث ان الإمام عليه السلام يُسأل عن وضع القناع على الرأس وهو يجيب ( لا يجوز الستر ) ، انه لو كان الجواب هكذا فانا نسلم ما أفاده السيد الخوئي ولا يضر كون السؤال خاصاً بالقناع ، ولكن لا توجد رواية من هذا القبيل ، فلا توجد رواية مطلقة حتى يمكن التمسك بها ، فما ذكره هو مجرد كبرى من دون ان تكون لها صغرى في مقامنا.

والمناسب التمسك بالوجهين التاليين :-

الأول :- صحيحة ابن ميمون فإنها قالت ( إحرام الرجل في رأسه ) يعني يلزم إبراز الرأس ولم تخصص ذلك بشيء معين.

والثاني :- التمسك بفكرة مناسبات الحكم والموضوع ، أي يقال ان العرف لا يفهم خصوصية للثوب وإنما الثوب منع منه لأنه يستر ، فإبراز الرأس هو لازم ولا يجوز أي ساتر ، إذن لا نحتاج إلى إطلاق في الجواب بل يكفينا ضم مناسبات الحكم والموضوع .

[1] المدارك 7 - 354

[2] المعتمد 4 - 214