09-08-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/08/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-  مسألة ( 429 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
وإذا رجعنا إلى الروايات وجدناها على طوائف ثلاث، فبعضها واردٌ فيمن بات في مكة المكرمة لا أنه مقيّد بذلك بل إنّ مورده ذلك لا أنّه أخذ قيداً، والطائفة الثانية هي ما كان مقيّداً بالمبيت في مكة المكرمة، والطائفة الثالثة هي ما كانت مطلقة من هذه الناحية فلم لم يؤخذ فيها المبيت في مكة مورداً ولا قيداً.
ومثال الأولى:- صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة حيث جاء فيها عن أخيه موسى عليه السلام:- ( عن رجل بات بمكة في ليالي منى حتى أصبح، قال:- إن كان أتاها نهاراً فبات بها حتى أصبح فعليه دم يهريقه ) ، إنها واردة في الرجل الذي بات في مكة المكرمة والسؤال هو عن ذلك لا أنّ الإمام عليه السلام قيّد وجوب الشاة بما إذا كان قد بات في مكة المكرمة فالمبيت في مكة أخذ مورداً ولم يؤخذ قيداً.
وعلى هذا المنوال صحيحة صفوان:- ( سألني بعضهم عن رجل بات ليالي منى بمكة فقلت لا أدري، فقلت له:- جعلت فداك ما تقول فيها ؟ فقال:- عليه دم شاة ) فهي أيضاً قد أخذ فيها المبيت بمكة مورداً . وعلى هذا المنوال أيضاً رواية جعفر بن ناجية التي ذكرناها فيما سبق ضمن الروايات الست السابقة.
ومثال الثانية:- رواية جميل بن دراج وصحيحة هشام، فرواية جميل تقول:- ( من زار فنام في الطريق فإن بات بمكة فعليه دم ) فأخذ المبيت في مكة المكرمة قيداً، وهكذا الحال في صحيحة هشام.
ومثال الثالثة:- صحيحة معاوية المتقدّمة حيث جاء فيها:- ( لا تبِت ليالي التشريق إلا بمنى فإن بِتّ في غيرها فعليك دم ) فهنا أخذ عنوان المبيت في غير منى.
وبعد اتضاح هذا نقول:- ما هو المناسب ؟
الذي يخطر إلى الذهن أن يقال:- إنّ الطائفة الثانية مادام قد أخذ المبيت في منى قيداً فيها فمن المناسب أن تكون مقيّدة للطائفة الثالثة التي هي مطلقة فتكون النتيجة آنذاك هي أنّ الكفارة ثابتة على من بات في مكّة أمّا إذا بات خارج منى ولكن ليس في مكّة فلا شيء عليه لأصل البراءة بعد قصور المقتضي.
وهو وجيهٌ لولا وجود نكتة تدعونا لرفع اليد عن ذلك وهي أنّ الطائفة الثانية التي أخذ فيها المبيت بمكة قيداً لوحظ فيها مَن خرج من مكة وبات في الطريق فهنا قيل إذا خرجت وبت في الطريق فإن بِتَّ في الطريق الذي هو بَعدُ داخل مكّة فعليك الكفارة وإن بِتَّ بعد عقبة المدنيين - أي بعد الخروج من مكة - فلا شيء عليك . إذن موضوعها هو من بات في الطريق - أي الطرق من مكة إلى منى - فحينئذٍ كيف نتعدّى إلى غير ذلك ؟! اللّهم إلّا أن نجزم بعدم الخصوصيّة من هذه الناحية فإذا جزمت فبها وإمّا إذا احتملنا أنّ الخروج من مكة والبيتوتة في مكة قبل الخروج منها له خصوصيّة فإذا فيكون هذا خاصاً حينئذٍ بهذا المورد فلا نتعدّى في حقّ من بات خارج منى ولكن ليس في الطريق، وعليه فالمناسب هو الاقتصار في ثبوت الكفارة على من كان داخل مكة وبات داخلها غايته أنّ من بات في غير هذه الحالة - أي في غير الطريق - يكون الحكم بثبوت الكفارة عليه من باب الاحتياط الوجوبي لاحتمال عدم الخصوصيّة من هذه الناحية.
الأمر الثالث:- إنّ الروايات ورد فيها عنوان الدم أي من بات في غير منى فعليه دم حيث قيل:- ( لا تبت ليالي التشريق إلّا بمنى فإن بِتَّ في غيرها فعليك دم ) كما في صحيحة معاوية بن عمّار فالوارد عنوان الدم لا عنوان الشاة فكيف نثبت أنّ المقصود من الدم هو خصوص الشاة ؟ فما هو الوجه الفنّي في ذلك ؟
والجواب:- إنّ مقتضى الاطلاق كفاية أيّ دم يعني حتى لو كان دم دجاجة أو عصفور ولكن الفقهاء لم يحتملوا ذلك ففنيّاً هذا أمرٌ غير محتمل وإلّا فالإطلاق يقتضي كفاية مطلق الدم خصوصاً إذا التفتنا إلى قضيّةٍ أخرى وهي أنّ المسألة ابتلائية لا أنّها نادرة الابتلاء فالذي يبيت في غير منى ليس بالأمر النادر وإذا كانت مسألة ابتلائية فلابد وأن يكون حكمها واضحاً وذلك الحكم الواضح لا نحتمل أن يكون هو كفاية مطلق الدم إذ لم يُعرَف ذلك من الفقهاء بل العروف منهم هو الشاة، فعلى هذا الأساس يكون المدار على الشاة لأجل هذا ولكن ليس المقصود الشاة بعنوانها بل بما هي مصداقٌ للدم فلو أراد أن يذبح الحاج بقرة أو بعيراً أولى فإنه دمٌ، فالشاة إذن حينما ذكرت فهي من باب أقلّ المصاديق لا من باب أنّ غيرها ولو كان أكبر منها لا يجزي فهذا ليس بمحتمل . إذن الوجه في اعتبار الشاة هو هذا.
ومن هنا لا معنى لأن يتدخّل الشخص الغريب عن الفقه في هذه القضيّة.
إن قلت:- توجد بعض الروايات بعنوان الشاة فتكون هذه الروايات مقيدة بلا حاجة إلى تطويل الطريق أو على الأقل يذكر هذا كوجهٍ ثانٍ ومن تلك الروايات صحيحة صفوان المتقدّمة حيث جاء فيها:- ( سألني بعضهم عن رجل بات ليالي منى في مكة فقلت لا أدري، فقلت له:- جعلت فداك ما تقول فيها ؟ فقال:- عليه دم شاة ) فكلمة شاة إذن موجودة في صحيحة صفوان وعلى هذا الأساس يكون هذا خير دليل على التقييد.
قلت:- إنّ ذكر الشاة ورد في نقل صاحب الوسائل ولكن إذا رجعنا إلى المصدر أعني التهذيب[1] فلا يوجد هذا القيد، وعلى هذا الأساس يظهر أنه إمّا حصل الاشتباه من صاحب الوسائل أو على الأقل إنّ نسخ التهذيب مختلفة، وعليه فلا مثبت لوجود كلمة شاة إلا اللهم أن تستعين بكبرى أنه لو دار أمر الكلمة بين الزيادة والنقيصة فنتمسّك بأصالة عدم الزيادة . وعلى أي حال هذه طريقة غير صافية، فالمقصود إذن هو إن كلمة شاة لم يثبت وجودها في هذه الصحيحة حتى نتمسّك بها، نعم هي وردت في روايات أخرى ولكنها محلّ كلامٍ من حيث السند من قبيل رواية جعفر بن ناجية:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عمّن بات ليالي منى بمكة، فقال:- عليه ثلاثة من الغنم يذبحهن )، إنّ الوارد هو ثلاثة من الغنم، وورد أيضاً في رواية عليّ - وقلنا لعل المقصود هو علي بن أبي حمزة البطائني - عن أبي إبراهيم عليه السلام:- ( سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم رجع فغلبته عينه في الطريق فنام حتى أصبح، قال:- عليه شاة ) . إذن عنوان الشاة قد أخذ هنا ولكن كما قلنا سابقاً إن رواية ابن ناجية ضعيفة به مضافاً إلى أنه قد ورد في السند محمد بن سنان وهو على المبنى ولكن على الأقل إنّ جعفر بن ناجية محلّ كلامٍ إلّا على كبرى وثاقة كلّ من ورد في سند كامل الزيارات . ورواية عليّ على الكلام في البطائني، مضافاً إلى أنّه قد ورد في سندها القاسم بن محمد وهو أيضاً لم يثبت توثقيه . وعلى هذا الأساس لم يثبت ورود كلمة شاة في روايةٍ صحيحةٍ، نعم تصلح هذه الرواية أن تجعل مؤيداً أمّا كدليلٍ أو وجهاً ثانياً فالأمر مشكل من هذه الناحية.
الأمر الرابع:- هل الشاة واجبة على من ترك المبيت في الليالي الثلاث أما من ترك ليلة واحدة فلا أو أنها تجب حتى على من ترك ذلك ليلة واحدة ؟ فليس موضوع وجوب الشاة هو ترك المبيت في مجموع الليالي بل هو حكمٌ ثابتٌ حتى لمن ترك ليلةً واحدةً ؟
ومنشأ هذا التساؤل هو أنه لو رجعا إلى الروايات وجدناها تذكر عنوان الليالي حيث قالت:- ( لا تبت ليالي التشريق إلا في منى فإن بِتَّ في غيرها فعليك دم )  . إذن عنوان الليالي قد أخذ وأن من ترك مبيت الليالي فعليه دمٌ أمّا من لم يبت ليلة واحدة فلا مثبت لوجوب الدم عليه، هكذا قد يقال، وهناك جملة من الروايات هي على هذا المنوال من قبيل صحيحة معاوية المتقدّمة التي تقول:- ( لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى )، ومن قبيل صحيحة صفوان وعليّ بن جعفر، هذه الروايات الثلاث قد أخذ فيها عنوان الليالي، نعم هناك رواية دلّت على أنّ من ترك المبيت في الليالي الثلاث فعليه ثلاثة من الغنم وهي رواية جعفر بن ناجية المتقدّمة فإن هذه تدلّ على ترك مبيت الليلة الواحدة يكفي لوجوب الشاة، ولكن كما قلنا هذه الرواية هي ضعيفة السند من ناحية ابن ناحية ومن ناحية محمد بن سنان على خلافٍ في محمد بن سنان.
وقد تقول:- توجد رواية أخرى يمكن الاستفادة منها في هذا المجال وهي صحيحة صفوان فإن الوارد فيها:- ( سألني بعضهم عن رجلٍ بات ليلةً من ليالي منى بمكة فقلت لا أدري، فقلت جعلت فداك ما تقول فيها ؟ فقال عليه السلام:- عليه دم شاة ) - أو ( عليه دم ) على اختلافٍ النقل - يعني على من ترك مبيت الليلة الواحدة، فإذن يستفاد منها أنّ الشاة ليست حكماً لمن ترك مبيت الليالي الثلاث بل هي ثابتة في حقّ من ترك المبيت ليلةً واحدةً وهي قرينة جيّدة إن ثبت وجود كلمة ( ليلة )، وإذا رجعنا إلى التهذيب[2] وجدنا أنها ثابتة، ولكن إذا رجعنا إلى الوسائل وجدناها غير ثابتةٍ، يعني أنّ الثابت هو كلمة ( ليالي ) وهذا يدلّ على اختلاف النسخة، فلا أقل يولّد هذا الاحتمال أي احتمال أنّ النسخ مختلفة فلا مثبت لوجود كلمة ( ليلة ) إلا كما قلنا نتمسّك بأصالة عدم الزيادة - على كلامٍ - فماذا نصنع إذن ؟
وفي الجواب نقول:- صحيحٌ أنّه لم يثبت وجود كلمة ( ليلة ) في صحيحة صفوان ولكن توجد قرينة في الرواية - تتضح بالتأمل - على أنّ ترك المبيت ليلةً واحدةً يكفي في ثبوت الشاة ولا يلزم ترك المبيت في مجموع الليالي، وما هي تلك القرينة ؟