10-07-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/07/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-مسألة ( 428 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
مسألة ( 428 ):- يستثنى ممن يجب عليه المبيت بمنى عدّة طوائف:-
1-المعذور كالمريض والممرض ومن خاف على نفسه أو ماله من المبيت بمنى.
2-من اشتغل بالعبادة في مكة تمام ليلته أو تمام الباقي من ليليته إذا خرج من منى بعد دخول الليل ما عدى الحوائج الضرورية كالأكل والشرب ونحوهما.
3-من طاف بالبيت وبقي في عبدته ثم خرج من مكة وتجاوز عقبة المدنيين فيجوز له أن يبيت في الطريق دون أن يصل إلى منى.
ويجوز لهؤلاء التأخير في الرجوع إلى منى إلى إدراك الرمي في النهار.

تتضمن هذه المسألة بيان حكم المعذور ونحوه، والكلام تارةً يقع في الحكم التكليفي وأخرى في الحكم الوضعي أعني الكفارة .
أما من حيث الحكم الوضعي فسيأتي التعرض اليه في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى، وهذه المسألة ناظرة إلى الحكم التكليفي فقط، يعني أنه لا يجب المبيت في منى على طوائف أربع، وهو(قده) صاغها في عبارة المتن وقال ثلاث طوائف ولكن في الواقع هي أربع، المعذور كالمريض ونحوه، والمشتغل بالعبادة في مكّة - ولا تقل بالبيت فالبيت الشريف ليس بلازمٍ بل في مكّة - تمام ليلته عدى الحوائج الضرورية، والذي خرج من منى بعد دخول الليل متوجهاً إلى البيت الشريف فحينئذٍ إذا بقي مشغولاً بالعبادة تمام ليليته فأيضاً يكون معذوراً من وجوب المبيت في منى فهذا بدلٌ يكتفى فيخرج من منى بعد دخول الليل - وليس اللازم أن يخرج بعد أوّله - فهو إذا خرج وتوجّه إلى مكة للعبادة في بقيّة الليل جاز له ذلك كان معذوراً، ومن كان في مكة وبعد دخول الليل اشتغل بالطواف وبقي مستمرّاً بالعبادة فإنه يحقّ له الخروج إلى جهة منى ولكن بإمكانه أن يتجاوز عقبة المدنيين التي حدّ من حدود مكة وينام في الطريق من دون أن يسير إلى منى.
هذا بالنسبة إلى الطواف الأربع،ويقع الكلام عن كلّ واحدة منها:-
الطائفة الأولى:- إن المعذور يجوز له أن يترك المبيت بمنى . والظاهر أنه لم ينقل خلافٌ في ذلك رغم أن الروايات خالية من ذلك، فقد اتفقت الكلمة على أنه لا يجب عليه المبيت في منى، والدليل على ذلك واضح وهو قاعدة نفي الحرج أو الضرر فإن المريض قد يكون البقاء في حقّه في منى حرجيّاً - يعني ذا مشقّة فائقة - أو يكون موجباً للضرر فحينئذٍ يكون وجوب المبيت مرفوعاً بقاعدة نفي الحرج أو قاعدة نفي الضرر ككلّ حكمٍ شرعيٍّ إذا استلزم أحد هذين العناوين، وهذا من المطالب الواضحة وقد ذكره غير واحدٍ من الفقهاء، قال في المدارك:- ( وقد ذكر الشيخ وأكثر الأصحاب أنه قد رخّص في ترك المبيت لثلاثة:- الرعاة ما لم تغرب عليهم الشمس بمنى، وأهل سقاية العباس وإن غربت عليهم بمنى، ومن اضطر إلى الخروج من منى لخوفٍ على النفس أو المال المضرّ فوته أو لتمريض مريضٍ ونحو ذلك )[1]، هذا ما نقله صاحب المدارك عن الشيخ وأكثر الأصحاب.
وقال في الجواهر قال:- ( وأما ذوي الاعذار فلا أجد خلافاً بين الاصحاب في جواز المبيت لهم بغير منى ولعله لنفي الحرج في الدين وفحوى الرخصة للرعاة والسقاية ..... )[2] . وقريب من ذلك جاء في مستند الشيعة[3].
إذن لا كلام في أن صاحب العذر إذا لزم من بقائه في منى أحد هذين العنوانين - أعني الضرر أو الحرج - فلا يجب عليه البقاء في منى وذلك لقاعدة نفي الحرج أو الضرر.
إنما الكلام في الطبيب ولعل الطبيب عنوانٌ آخر غير الممرّض فإن الممرّض هو من يشتغل مع المريض لإجلاسه أو إعطائه الدواء أو غير ذلك من شؤون المريض، ويوجد عنوانٌ آخر وهو الطبيب، ولعلّ كلاهما من وادٍ واحد، فما هو الدليل على جواز تركهما المبيت في منى بعدما فرض أن النتيجة مسلّمة - يعني أنّ الممرّض الذي يحتاجه المريض وهكذا الطبيب الذي يذهب إليه الناس وهو موجود في المركز الطبّي في مكة أو في مكانٍ آخر - فوجود طبيب في غير منى من حيث النتيجة مسلّم الجواز تقريباً ولكن كيف تخريجه الفنّي كيف ؟ وقلت إن النتيجة مسلّمة فهي مسلّمة من أيّ ناحية ؟ إنّها بذوقنا الفقهي ومرتكزاتنا الفقهية وبما نعرفه من الشرع فهو جائزٌ له ولكن كيف نوجّه جواز عدم مبيته في منى ؟
والجواب:- قد يتمسّك لذلك بقاعدة نفي الحرج أو الضرر، فكما تمسّكنا نهما في حقّ صاحب العذر فلنتمسّك بها في حقّ الطبيب.
والجواب واضح:- فإن الحرج ثابت في حقّ المريض فهو الذي سوف يقع في الضرر إذا ذهب إلى منى ولكن الطبيب لا يلزم عليه الحرج، اللّهم إلّا إذا فرض أن المريض كان ممن له صلة وثيقة بالطبيب كوالده فإنه إذا تركه فسوف يسبّب له – أي للطبيب - الحرج وهذه مشقّة نفسيّة، أو كان صديقاً حميماً له فهذه الصورة خارجة عن محلّ الكلام - يعني إذا فرض أن الطبيب كانت له علاقه بالمريض بحيث يكون تركه للمريض يسبب الحرج لنفس الطبيب فهذا يجوز له التمسك بقاعدة نفي الحرج -، أمّا إذا فرضنا أن هذه العلاقة الوطيدة ليست موجودة بل كانوا مرضى عاديين وهو يساعدهم من باب القربة إلى الله تعالى فقاعدة نفي الحرج لا يمكن أن التمسّك بها لأنه لا يقع في الحرج إذا ذهب إلى منى وتركتهم، فهنا قاعدة نفي الحرج لا يمكن أن نتمسّك بها في حقّ الطبيب فماذا نصنع وهل يوجد طريقٌ آخر ؟
قد يقول قائل:- نطبّق قاعدة نفي الحرج في حقّ المريض فإن ذهاب المريض إلى منى حرجيّ ولابد وأن يبقى في غير منى، وحينئذٍ يقال:- إذا جاز له البقاء بقاعدة نفي الحرج فبالدلالة الالتزامية سوف يثبت جواز بقاء الطبيب في غير منى لأن بقاء المريض بلا طبيب أو بلا ممرّض لا ينفع شيئاً . إذن مادمنا قد طبّقنا قاعدة نفي الحرج أو نفي الضرر في حقّ المريض فبالدلالة الالزامية سوف يثبت أن الطبيب يجوز له أن يترك البقاء في منى ويبقى في المستشفى مثلاً عند المرضى وإلّا يلزم محذور اللغوية.
ولكن الجواب:- إن هذه الطريقة شبيهة بالطريقة التي أشرنا إليها في بعض الأبحاث السابقة وهي أن المرأة هل يجوز لها أن تذهب إلى الطبيب ويكشف عن بدنها ؟ فإذا فرض وجود رواية في ذلك كصحيحة أبي حمزة الثمالي التي دلّت على أنه إذا كان الرجل أرفق من المرأة - يعني أفهم وأحذق من الطبيبة - فيجوز أن تذهب إليه، فإذا دلت الرواية على ذلك فهي بنفسها تدلّ على أنه يجوز لها أن تكشف عن بدنها أمام الطبيب فهنا لا مشكلة، ولكن لو فرضنا أن صحيحة أبي حمزة الثمالي لم تكن موجودة وبقينا نحن ومقتضى القاعدة فنقول إن هذه المرأة يجوز لها أن تكشف عن بدنها أمام الطبيب أو تذهب إلى طبيب الاسنان - مع فرض أن النظر إلى داخل الفم حرام – فحينئذٍ يجوز أن تذهب إلى الطبيب الرجل من باب قاعدة نفي الحرج أو الضرر لأنه إذا لم نجوز لها الذهاب إليه فسوف تقع في الضرر أو الحرج فنتمسّك بقاعدة نفي الضرر أو الحرج  لتجويز ذلك إليها لأن بقاء الحرمة في حقّها يكون موجباً للضرر والحرج، ولكن كيف يجوز لطبيب أن ينظر فإنه لا يقع في الحرج فيكف ينظر ؟!! فحينئذٍ يأتي هذا الاقتراح الذي بيّناه قبل قليل:- وهو أنه  إذا جاز لها أن تكشف بدنها أمام الأجنبي فيجوز بالدلالة الالتزامية للطبيب أن ينظر وإلا يلزم لغوية نفي الضرر أو الحرج في حقها، فإذن نتمسّك بالدلالة الالتزاميّة.
هذه المحاولة في مقامنا وفي مقام ذهاب المرأة إلى الطبيب نفس المحاولة ونفس الروح، وهل هذه المحاولة جيّدة أو أنها محلّ تأمّل ؟
إنها محلّ تأمل، والوجه في ذلك ما أشرنا إليه سابقاً:- وهو أن شرط التمسّك هو أن لا يلزم من العمل بالإطلاق مؤونة ثبوتية، وما المقصود من المؤونة الثبوتية ؟ إنّ مصاديق المؤونة الثبوتية أن نفترض أن التمسّك بقاعدة نفي الحرج يلزم منه تقييد إطلاق دليلٍ آخر فإنه آنذاك يكون المقام من الدوران بين تقييد أحد الإطلاقين وحيث لا مرجّح لتقييد أحدهما على الآخر فلا يجوز التمسّك آنذاك بالإطلاق.
وفي المقام نقول:- عندنا إطلاقان إطلاق قاعدة نفي الحرج فإن قوله تعالى:- ﴿ ما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ يشمل بإطلاقه هذه المرأة، إنّ هذا تمسك بالإطلاق، ويوجد دليلٌ آخر له إطلاق أيضاً وهو أنه يجب على كلّ حاج أن يبيت في منى وهذا بإطلاقه يشمل الطبيب، والعمل بكلا الإطلاقين غير ممكنٍ بل لابد من تقييد أحدهما، فإن عملنا بإطلاق قاعدة نفي الحرج في حقّ المريض وقلنا له يجوز لك أن تبقى في حتى لا تقع في الحرج والطبيب أيضاً معك حتى يراقب حالتك وإلا فلا يرتفع الحرج أو الضرر إلا بذاك – أي إنّ لازم العمل بإطلاق قاعدة نفي الحرج هو تقييد ذلك الإطلاق في حقّ الطبيب فإن ذلك الإطلاق يقول في حقّ الطبيب عليك البقاء في منى لأنه ليس عليك حرج ولكن إذا طبّقنا الحرج في حقّ المريض فيلزم تقييد هذا الإطلاق ونخرج منه الطبيب - . إذن نحن أردنا أن نعمل بإطلاق لا حرج في حقّ المريض الذي لازمه تقييد ذلك الإطلاق في حقّ الطبيب ولكن لماذا لا تعكس وتحافظ على ذلك الإطلاق - أيّ اطلاق يجب المبيت في منى على كلّ شخص - ونقيد لا حرج في حقّ المريض ؟ نعم لو فرض أنه جاءنا دليلٌ من الخارج يقول ( إن المريض يجوز له أن يبقى في غير منى ) فهنا تدلّ بالالتزام على أن الطبيب يجوز له البقاء  أيضاً في غير منى ولكن المفروض أنه لا يوجد عندنا رواية تدلّ على أن المريض يجوز له أن يترك منى ويبيت في غيرها، فلو كانت هناك رواية فهي تدلّ بالالتزام كصحيحة أبي حمزة الثمالي فهي جوزت للمرأة أنّ تذهب إلى الطبيب الرجل إذا كان أحذق فإنها تدلّ بالالتزام على أن الطبيب يجوز له أن ينظر، ولكن المفروض أنه لا توجد عندنا هكذا رواية بل نحن والإطلاق - وواقعاً الأمر في موردنا هو هكذا -، فإذن الأمر يدور بين إطلاقين ولا مرجّح بينهما . هذا مطلبٌ سيّالٌ، وهذه درّة ثمينة وقد بينتها أكثر من مرّة، فمتى ما كان المورد من هذا القبيل فلا يجوز التمسّك بالإطلاق.
نعم لو قال شخصٌ:- أنا أجزم بأن لا حرج  يطبّق على المريض فلا نحتمل في حقّ الشارع أنّه لا يقبل بتطبيق لا حرج في حقّ المريض، فإذا جزم بذلك فهذا يكون كما لو جاءت رواية خاصّة وقالت هذا يجوز له ذلك، وهذا خارجٌ أيضاً عن محلّ الكلام - وهو لس ببعيد -، فمن ادّعى هذا فأنا لا أقف أمامه وسف يأتي منّا شيءٌ قريبٌ من ذلك، ولكن لو فرض أنّه لا يوجد عندي اطمئنان كافٍ بأن لا حرج يجب تطبيقه على المقام حتماً والمريض لم يخرج منه في المقام - أي لم يحصل تقييد - فهنا يكون الأمر دائراً بين إطلاقين.
والقضية الكبروية التي استفدناه:- هي أنه متى ما أردت أن تتمسّك بإطلاق مثل لا حرج ولا ضرر وما شاكل ذلك يلزم أن نفترض أن تطبيق هذه القاعدة بإطلاقها مستلزماً لتقييد إطلاق قاعدة ثانية وإلّا كان المورد من الدوران بين الإطلاقين وتقييد أحدهما ولا مرجّح لهذا على ذاك.
وقد تسأل وتقول:- إذن أين نستفيد من قاعدة لا حرج ؟
أقول:- إنّا نستفيد منها فيما إذا لم يستلزم تقييد إطلاق دليلٍ آخر، كما لو فرضنا أن الوضوء كان حرجيّاً في حقّي فإنه إذا كان حرجيّاً فهي جاءت مقيّدة للإطلاقات فتقيّده فتقول ( مادام الوضوء حرجياً في حقّك فيرتفع وجوبه ) ولا يوجد عندنا أطلاقُ دليلٍ آخر يلزم من تقييد دليل الوضوء تقييد ذلك الإطلاق، كّلا لا يوجد عندنا إطلاق دليلٍ آخر، وعلى هذا الأساس لا يكون الأمر دائراً بين إطلاقين بل ابتداء سوف تقيّد قاعدة نفي الحرج اطلاق دليل وجوب الوضوء من دون معارضة بإطلاقٍ آخر، وهذا بخلافة في مقامنا فإن الأمر يدور بين العمل بقاعدة نفي الحرج وبذلك لزم تقييد الإطلاق المتوجّه إلى المريض نفسه - وهو يجب المبيت في منى - فهذا قد قيّدناه ولكن سوف يستلزم تقييد إطلاقُ دليلٍ آخر وهو الذي ورد في حقّ الطبيب والمفروض أن قاعدة لا حرج لم تنظر إلى تقييد مثل هذا الإطلاق . وهذه نكتة يلزم الالتفات إليها فهذا الطريق ليس بتامّ ولابد من التفكير في طريقٍ آخر.