16-06-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/06/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:- الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
النقطة الثانية:- يلزم قصد القربة في المبيت.
ولم ينقل خلافٌ في ذلك، ولكن في نفس الوقت إمّا أنه لم يذكر دليل على لزوم قصد القربة، أو أنه ذُكِر ولكن بشكلٍ ضعيف كما سوف نرى، ولعل بعضهم أخذ يتحدث عن كيفية قصد القربة وأنه يقول إمّا قبيل المبيت بفترةٍ أو بدايته ( أبيت في منى لحج التمتع .. الخ )، فأخذ يبيّن قضايا جانبية وتناسى أصل المطلب - وهو أنه ما هو الدليل على ذلك - فلاحظ كشف اللثام مثلاً حيث قال:- ( وتجب النيّة كما في الدروس )[1] ثم نقل صيغة للنيّة وهي:- ( أبيت هذه الليلة بمنى لحج التمتع حج الاسلام لجوبه قربة الى الله تعالى )، ثم نقل أنه ( لو أخلّ بالنيّة )، ثم قال ( وفي الفدية وجهان كما في .. الخ )، فإذن هو لم ينقل دليلاً على لزوم قصد القربة وإنما أخذ يتكلّم عن قضايا جانبية.
وصاحب الجواهر(قده) بعد أن ذكر ما أشار إليه كاشف اللثام أضاف التمسّك بالأصل حيث قال:- ( وكيف كان فتجب فيه النيّة التي هي الأصل في كل مأمورٍ به وقد نصّ عليه في الدروس وغيرها )[2]، إنه ذكر هذا المقدار - يعني الدليل الذي ذكره هو أن الأصل في كلّ مأمورٍ به أن يكون قربيّاً -.
وإذا لاحظنا دليل الناسك[3] نجد أنه علّل ذلك بقوله- ( لأنه عبادة ).
وتمسك السيد الخوئي(قده) في المعتمد لإثبات اعتبار قصد القربة بقوله تعالى ﴿ واذكروا الله في أيام معدودات ﴾ بعد ضمّ مقدّمة نصّها ما يلي:- ( ومعلومٌ أن ذكر الله من الأعمال العباديّة القربيّة )[4].
إنه من خلال هذا حصلنا على ثلاثة وجوهٍ لإثبات القربيّة من كلمات الاعلام:-
الأوّل:- الأصل في كل مأمور به ذلك.
الثاني:- إنه عبادة.
الثالث:- ما ذكره السيد الخوئي(قده).
والجميع كما ترى:-
أما الأوّل:- فمن أين هذا ؟! فإنّه لو أراد الأصل اللفظي - يعني الاطلاق - فهو يقتضي التوصليّة كما قراناه في الكفاية وإن كان صاحب الكفاية(قده) تأمّل في إمكان التمسّك بالاطلاق لمحذور الدور مثلاً، لكن بالتالي ليس مقتضى الأصل اللفظي هو العباديّة، وإذا كان يقصد من الأصل هو الأصل العملي فالمورد من الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين - يعني شكٌّ في الجزئيّة أو الشرطيّة - وهذا العلم الإجمالي على ما تقدّم في علم الأصول هو منحلٌّ ولا أقل عدم انحلاله ليس من الأمور الواضحة حتى يرسل صاحب الجواهر ذلك المطلب إرسال المسلّمات.
نعم قال صاحب الكفاية(قده) على ما قرأنا في الكفاية:- أنه بما أن الأحكام ناشئة من الأغراض وحيث إن الغرض مردّدٌ بين أن يحصل بالأقل أو يحصل بالأكثر فيلزم حينئذٍ تحصيل الفراغ اليقيني بتحقّقه وذلك لا يمكن إلّا بالإتيان بالأكثر.
وتوجد عدّة أجوبة على هذا نذكر منها واحداً:- وهو أنه نحن لسنا مطالبين بالأغراض وإنما نحن مطالبون بما يحصّل الغرض وهو الصلاة أو الصوم أو الحج .... أما نفس الغرض فهو لم يقع مورداً للتكليف والعقل يقول أنت ليس لك علاقة بالغرض بل عليك امتثال التكليف وهو الذي يحصّل الغرض، فعلى هذا الأساس لم تشتغل الذمة بالأغراض حتى يقال إن تحصيل الفراغ اليقيني منها يكون لازماً . إذن ما أفاده صاحب الجواهر قابل للمناقشة.
وأما ما افاده السيد الحكيم من التعليل بالعبادية:- فهو تعليلٌ بنفس المدّعى والمتنازع فيه ؛ لأن العباديّة تعني اعتبار قصد القربة، فكيف يكون هذا ؟!! إلّا اللهم أن يقال:- إنّ مقصوده ليس التعليل الحقيقي وبيان المدرك حقيقةً وإنما يراد أن يقال إنه حيث أن عباديته من الأمور الواضحة المسلّمة فلأجل ذلك يلزم فيه قصد القربة، فإذا كان هذا مقصوده فلا بأس به في الجملة، ولكنه بالتالي لم يذكر دليلاً إلا أن نقول دليله هو الوضوح مثلاً، وهذا ما سيأتي التعليق عليه.
وأما ما أفاده السيد الخوئي(قده):- من التمسك بقوله ﴿ فاذكروا الله في أيام معدودات ﴾ بعد ضم مقدّمة وهي أن كلّ ذكر هو قربي - فنقول :- لو سلمنا هذه المقدّمة ولكنها تدلّ على أن الذكر قربيٌّ بالدلالة الالتزاميّة، فهي أوجبت بالدلالة المطابقيّة الذكر وبالالتزام أوجبت قصد القربة في الذكر، والمبيت في منى شيء آخر غير الذكر، فكون الذكر أمراً قربيّاً وعباديّاً لا يلازم أن يكون المبيت في منى عبادياً أيضاً، وهذا من الامور الواضحة.
هذا مضافاً إلى أنه لو تنزّلنا وقلنا إن عباديّة الذكر المأمور به تلازم عباديّة مكانه أو زمانه - وهو المبيت أو الكون في منى - ولكن نقول:- إن الذكر الذي أمر به لم يقيّد بكونه في الليل فهو لم يقل ( واذكروا الله في ليالي الأيام المعدودة ) بل فقال ( في أيامٍ ) وهذا يصدق على النهار فإذا ذكرنا الله عز وجل في النهار يكون ذلك كافياً.
على أنّه يمكن أن يقال:- إن الذكر يتحقّق بمثل الصلاة، فأقصى ما يدلل  على أن الذكر واجبٌ بالمطابقة وأن القربيّة بلحاظ الذكر هي واجبة - التي هي مثل قراءة سورة الفاتحة - فهذا يلزم أن يكون قربياً، أمّا أنه تلزم نيّة القربة في المبيت فهذا شيءٌ آخر.
وعلى أيّ حال ما ذكره واضح الوهن جداً.
وواضحٌ أنه ذكر مقدّمةً واحدةً وهي أن الذكر قربي، ولكن يلزم أن نضمّ مقدّمة ثانية وهي أن المقصود من الأيام المعدودات هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر، ولكن لعله لأجل وضوح المطلب لم يشر إلى ذلك.
إذن اتضح من خلال هذا أن الوجوه الثلاثة لإثبات القربية أمرٌ مشكل.
وقد يقول قائل:- لماذا لا نتمسّك بما أثباتنا به قربيّة بعض العبادات كالوضوء والصلاة والصوم والحج ... فإننا أثبتنا قربية وعباديّة هذه العبادات بالارتكاز المتوارث، يعني يوجد ارتكاز بين المسلمين في زماننا بل في كلّ زمان على لزوم الإتيان بالوضوء مثلاً بقصد القربة، وهذا الارتكاز يكشف عن تلقّيه من معدن العصمة والطهارة وإلا يلزم حدوث المعلول بلا علّة، ولأجل الوضوح لا يستحقّ ذلك أن يُنقل ذلك في روايةٍ . هكذا أثبتنا قربيّة الوضوء وغيره من العبادات،  فلماذا لا نتمسّك بنفس هذا الكلام في موردنا ؟
والجواب:- إن صغراه محلّ تأمّل في المقام، يعني أن وجود ارتكازٍ بين المسلمين على اعتبار قصد القربة فيه ليس بثابتٍ عندنا، فلو كان ثابتاً بين كلّ المسلمين فلا بأس حينئذٍ ولكن الصغرى ليست واضحة في المقام، ولذلك لا نتمسّك بها الوجه في المقام . نعم من قَبِل الصغرى فلا بأس بأن يطبق الكبرى التي أشرنا إليها.
وربما يخطر إلى الذهن ما تمسّك به السيد الخوئي(قده) في بعض الموارد:- حيث كان يقول مثلاً إن الحجّ مما بني عليه الإسلام، وهذه المقدمة ثابتة بالرواية الواردة عن الإمام الباقر عليه السلام:- ( بني الإسلام على خمسة أشياء ) وأحدها الحجّ، ثم نضمّ مقدّمة ثانية وهي أن ما بُني عليه الإسلام من البعيد أن يكون توصّلياً، وهذه قضيّة وجدانيّة وليست برهانيّة فقد يقبل شخص بذلك ويقول كيف يبنى الاسلام على شيء ليس عبادياً وقد يرفض آخر، فمن قبلها فهو جيّدٌ ومن شكّك فيها فلا يتمّ هذا الوجه، وكأنها عند السيد الخوئي من الواضحات، وأمّا عندي ففيه تردّد وتوقّف، فإذن نقول:- إن الحجّ مما بين عليه الإسلام وما بني عليه الإسلام يلزم أن يكون قربيّاً، وحيث إن المبيت بمنى هو من واجبات الحجّ والحجّ ليس إلا عبارة عن مجموع واجباته فمن قربيّته يلزم أن تكون واجباته قربيّة . فلماذا لم نتمسّك بهذا الوجه أو على الأقل لماذا لم يتمسّك به السيد الخوئي(قده) ؟
وجوابه واضح حيث يقال:- إن قربيّة الشيء تستدعي قربيّة أجزائه إمّا أجزاءه الأساسية أو مطلق الأجزاء ركنيةً أو غير ركنية - على كلامٍ -، ولكنّ المفروض هو أن المبيت في منى لم يثبت أنه من أجزاء الحجّ فلا معنى للتمسّك بهذا البيان.
ومن خلال هذا كلّه اتضح أن الفتوى باعتبار قصد القربة في المبيت بمنى أمرٌ مشكلٌ، نعم المصير إلى ذلك من باب الاحتياط الوجوبي تحفظاً من الاتفاق الذي يمكن أن يدّعى على اعتبار قصد القربة شيء وجيه.
وألفت النظر إلى شيءٍ جانبي:- وهو أنه لو أردنا أن نكتب مناسك الحجّ فلا نسلّط الأضواء فيها على قضايا النيّة بشكلٍ عام، فصحيحٌ أنّا سلّمنا اعتبار قصد القربة ولكن بمعنى الداعي، يعني أن الدّاعي لك لابد وأن يكون هو التقرب إلى الله عزّ وجل، وهذا الداعي موجودٌ عند المكلف إذ أنت لماذا جئت للمبيت ؟! نعم توجد قضيّة ثانية وهي أنه هل يلزم أن أكون ليس نائماً وقت الغروب حتى يتحقّق الدّاعي وتكون النيّة وقت الغروب أو يجوز النوم قبل الغروب مادام الداعي موجوداً عندي ؟ أمّا أن نجمع الحجّاج عند الغروب ونقول لهم ( قولوا هكذا ) فهذا ليس بلازمٍ، والتأكيد عليه ليس بشيءٍ ضروري، نعم أن يجمعهم المرشد الديني ويوضح لهم فلعله أقرب وألصق وأحبّ إلى قلوبهم، ولكن لو سألنا شخصٌ وقال أنا لم أقل ذلك فنقول له إنه لا شيء عليك وعملك صحيح.


[1]  كشف اللثام، الفاضل الهندي، ج6، ص237.
[3]  دليل الناسك، الحكيم، ص434.
[4]  المعتمد، الخوئي، ج5، ص377.