39/05/06


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/05/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 45 ) بعض مستحبات التجارة - المكاسب المحرّمة.

القضية الثالثة:- هل الحكم بالكراهة يعم الدخول ولو لمرة واحدة من دون أن يكون ذلك عادةً له ؟ يعني كان الشخص من أهل السوق ولكنه في يوم من الأيام أراد أن يدخل أوّلاً ويخرج آخراً فهل يعمه دليل الكراهة أيضاً أو أنه يختص بمن كان ذلك عادةً له[1] ؟

ربما يقال:- إنَّ النكتة في الكراهة هي قضية الحرص على الدنيا وانكباب عليها وهذا يتحقق لو كان الشخص قد اتخذ ذلك عادةً له ، أما لو فرض أنه تحقق مرّة أو مرتين فلا يشمله الحكم بالكراهة.

وفيه:- إنَّ هذه النكتة لم يشر إليها في الرواية - وهي مسألة الحرص - ، وإنما المذكور هو أنَّ السوق أبغض البقاع ، وما دامت النكتة هي أنه أبغض البقاع فلا فرق آنذاك بين أن يدخل مكرراً أو يتحقق ذلك منه مرّة واحدة ، فحتى لو تحقق منه مرة واحدة بالتالي هو قد شغل فترة كبيرة من الوقت أكثر من المقرر في أبغض بقاع الله عزّ وجلّ فلا يبعد أن يكون دليل الكراهة شاملاً له.

نعم لو فرض أنَّ دخوله قبل الوقت لم يكن بهدف قضية ترتبط بالأرباح والتجارة وإنما دخل لأجل قضية خاصة كما لو قرّر موعداً مع بعض الأشخاص فيلزم أن يذهب أوّل الوقت من باب الموعد أو لأجل قضية ثانية فهنا يمكن أن يقال لا يشمله النص الدال على الكراهة ، سواء فرض أنَّ ذلك كان في الدخول أو في الخروج مرّة أو أكثر.

ولعلّ البعض يصعّد اللهجة ويقول:- إن النص لا يشمله حتى لو كان ذلك عادةً له ، فإنه يمكن أن يقال إنَّ النص منصرف عن مثل هذه الحالة ، كما لو كان يأتيه بعض الأطفال فيعلمهم القرآن أو المسائل الشرعية ، فهدفه لم يكن هو السوق وإنما هو هدف آخر ، فهنا يمكن أن يقال بأنَّ النص منصرف عنه.

الأدب التاسع:- يكره مبايعة الأدنين.

هذا العنوان ورد في كلمات الفقهاء ولكنه لم يرد في الرواية ، إنما الوارد في الرواية شيء آخر ، إذ الوارد هو مخالطتهم وليس عنوان المعاملة ، كما أنَّ لفظ ( الأدنَين ) ليس موجوداً في الرواية وإنما الموجود هو لفظ ( السِّفْلة ) بكسر السين وسكون الفاء ، فكيف ترك الفقهاء تعبير الرواية وصاروا إلى تعبيرٍ آخر - ولو بالمساوي - فإنَّ هذا قد لا يكون محبوباً ؟!! وهذه قضية ملفتة للنظر ، والرواية هي ما نقل عن الصدوق:- ( قال الصدوق: وقال عليه السلام: إياك ومخالطة السفلة فإنَّ السفلة لا يؤول إلى خير )[2] ، وقد نُقِل هذا الحديث من غير طريق الصدوق أيضاً ولكن بنفس هذا التعبير.

وما المقصود من السِّفْلة ؟

ذكر الشيخ الصدوق(قده) أربعة احتمالات ، وقد نقلها صاحب الوسائل حيث قال:- ( قال الصدوق: جاءت الأخبار[3] في معنى السفلة على وجوه منها إنَّ السفلة هو الذي لا يبالي بما قال ولا ما قيل فيه ، ومنها أنَّ السفلة من يضرب بالطمبور ، ومنها إنَّ السفلة من لم يسّره الاحسان ولم تسؤه الاساءة ، والرابع من ادّعى الامامة وليس لها بأهل)[4] .

وعلى أيّ حال الاحتمال المتداول بيننا هو الأوّل ، والقريب منه هو الاحتمال الثالث ، فإنَّ الرواية واردة بهذا الشكل بينما تعبير الفقهاء هو بشكل آخر.

ومن اللطيف ما ذكره صاحب الحدائق(قده) حيث قال:- ( ومنها كراهة مبايعة الأدنَين ..... أقول: وكان الأولى في العبارة هو التعبير بهذا اللفظ[5] ..... ، إلا أنا جرينا على ما جرى عليه تعبير الأصحاب )[6] .

ونحن لا نريد الاطالة ، فإذن معاملة مثل هؤلاء من المكروهات.

الأدب العاشر:- كراهة مبايعة ذوي العاهات والنقص في أبدانهم[7] .

ولو كان يذكر إلى جنب ذلك ( ومعاملة من لم ينشأ في الخير ) كان أفضل ، فيصير اثنان هما مبايعة ذوي العاهات ومعاملة من لم ينشأ في الخير.

أما في كراهة معاملة ذوي العاهات:- فتوجد رواية عن ميسر بن عبد العزيز قال:- ( قال لي أبو عبد الله عليه السلام: لا تعامل ذا عاهة فإنه أظلم شيء )[8] ، وعلى منوالها أحاديث أخرى في نفس الباب , فهي قالت ( لا تعامل ذا عاهة ) وعللت وقالت ( فإنه أظلم شيء ).

وقد يقول قائل:- ما معنى ( أظلم شيء ) ؟

والجواب:- إنه مرّة نأخذها كقضية تعبّدية بغضّ النظر عن المعنى ، ومرّة لو أراد شخص أن يتوقّف ويفحص عن هذه القضية فليلاحظ ما نقله صاحب الحدائق(قده) عن بعض من فسّر هذا الحديث حيث قال:- ( قال بعض متأخري المتأخرين لعل نسبة الظلم إليهم لسراية أمراضهم أو لأنهم مع علمهم بالسراية لا يجتنبون من المخالطة ، انتهى ، ولا يخفى بعده ، بل الظاهر أنَّ ما هو كون الظلم أمراً ذاتياً فيمن كان كذلك )[9] .

أقول:- إنَّ كلا التفسيرين قد لا يتناسب مع ما نعرفه عن الاسلام ، ولعل الأنسب أن يفسّر بأنَّ صاحب المحل التجاري قد يحاول التغلب عليهم في المعاملة لأنهم أصحاب عاهة ولو من حيث لا يدري ، وسوف يصير صاحب العاهة هو المظلوم لا أنه هو الظالم ، فتعبير ( فأنه أظلم شيء ) أي أنَّ صاحب العاهة يكون أشدّ مظلومية لا من حيث الظالمية ، فكأن صاحب الحدائق وبعض متأخري المتأخرين فسّروه بالظالمية وهذا بعيد ، فإذن هو أشد مظلومية ، ولعلّ هذا هو الأنسب مع تعاليم الاسلام وما نعرفه عنه.

وأما من لم ينشأ في الخير:- فالمقصود منه هو أنَّ بعض الناس في بداية أمره يعيش الفقر والحاجة وبعد ذلك أقبلت عليه الدنيا فجأةً ، فهذا ما قد تعبّر عنه الروايات بــ ( من لم يكن ثم كان ) ، فهذا الشخص قد تكون عنده روح انتقامية ويكون عنده حبَّ للدينا أكثر ممن عاش في الخير ، وقد ذكرت ذلك رواية ظريف بن ناصح:- ( قال أبو عبد الله عليه السلام: لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير )[10] ، وليس من البعيد أنَّ المقصود هو الاشارة إلى من لم يكن ثم كان ، حيث وردت رواية في هذا المجال عن حفص بن البختري قال:- ( استقرض قهرماً[11] لأبي عبد الله عليه السلام من رجل طعاماً لأبي عبد الله عليه السلام فألحّ[12] في التقاضي ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ألم أنك أن تستقرض لي ممن لم يكن فكان )[13] .

إذن المقصود أنه يوجد عندنا عنوانان عنوان معاملة ذوي العاهات وهو الذي ذكر في عبارة المتن ، ومن المناسب أيضاً إضافة عنوان ( من لم ينشأ في الخير ) أي الذي قد يعبّر عنه بمن لم يكن ثم كان.


[1] أما إذا لم يكن من أهل السوق فقد تكلمنا عنه في القضية الأولى.
[3] مع أنه لم تنقل هذه الأخبار ولعلها من التراث الضائع.
[5] أي اللفظ الوارد في الرواية.
[7] والتعبير بـ ( والنقص في ابدانهم ) هو عطف تفسير على ذوي العاهات.
[11] والقهرمان هو القائم بالأعمال يعني مدبر الأمور.
[12] اي ألحّ المستقرض منه على القهرمان في قضاء دينه.