36/08/19


تحمیل
الموضوع: الصوم , المفطرات, فصل يكره للصائم امور .....)
استدل صاحب الحدائق بالمطلقات الدالة على الترغيب في الشعر في رثاء اهل البيت عليهم السلام على استثناء هذا القسم من الشعر من الحكم بالكراهة بالنسبة للصائم وذكر الروايات التي تدل على هذا الامر.
لكن هذا الكلام لا يمكن قبوله بظاهره لوضوح أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق فتلك الروايات تحث على قول الشعر فيهم عليهم السلام مطلقاً (للصائم وغيره), فإذا كانت رواية معتبرة تدل على الكراهة في خصوص محل الكلام (أي للصائم) لابد من تخصيص تلك المطلقات بها.
اللهم الا أن يدّعي_ وهو لم يدّعي ذلك_ بأن تلك المطلقات تأبى التخصيص وحينئذ تتحقق حالة التعارض.
ويضاف إلى ذلك أن العنوان المأخوذ في المطلقات غير العنوان المأخوذ في محل الكلام, فأن ما رغّب فيه الشارع في تلك المطلقات هو انشاء الشعر (من قال فينا بيتاً من الشعر) وليس (من انشد بيتاً) والذي يفهم من (قال) انشاء الشعر ونظمه لا انشاده, ومحل كلامنا في انشاد الشعر, فيكون الموضوع متعدد, وحينئذ لا داعي للجمع بينهما حتى بالجمع العرفي, فتبقى المطلقات على اطلاقها ولعلها تشمل حتى الصائم, بينما نلتزم بروايتنا بهذا المقدار, هذا هو مقتضى القواعد العامة.
ومن هنا يظهر أن النوبة لا تصل إلى اعمال قواعد باب التعارض, وحينئذ لا يأتي ما ورد في كلمات بعضهم من حمل الرواية(صحيحة حماد الاولى أو الثانية) على التقية, لأن الحمل على التقية فرع التعارض, وقد بينا عدمه, وكذلك لا تصل النوبة إلى تساقط الروايات (صحيحة حماد والروايات المتقدمة) لكي نرجع إلى المطلقات التي تدل على استحباب الشعر فيهم عليهم السلام.
ومن هنا يظهر أن ما ذهب اليهم العلماء المعاصرون من استثناء مراثي اهل البيت عليهم السلام ومدائحهم من الكراهة يحتاج إلى توجيه, وهناك وجوه لتخريج هذا الاستثناء:
الوجه الاول: كما ذكر بعضهم أن المسألة ليست داخلة في الاحكام الالزامية فتأتي مسألة التسامح في الاحكام غير الالزامية وكأنه يريد أن يقول بأن الرواية السابقة (رواية الطبرسي) التي هي ضعيفة السند لا يضر ضعف سندها في المقام لأنه مقام تسامح لأنه مقام حكم غير الزامي, فتكون معارضة للصحيحة وحينئذ إما أن نحمل الصحيحة على التقية أو نلتزم بالتساقط والرجوع إلى المطلقات الدالة على الجواز.
وهذا الوجه لا يتم بقطع النظر عن مسألة التسامح في الاحكام غير الالزامية, وذلك لما تقدم من أن الاشكال في رواية الطبرسي لا ينحصر في الاشكال السندي, وإنما يوجد اشكال في الدلالة كما تقدم حيث انها واردة في انشاء الشعر لا في انشاده.
مضافاً إلى أن الصائم لم يذكر في رواية الطبرسي وإنما ذكر في صحيحة حماد فالموضوع مختلف في كل منهما فلا تعارض بينهما.
الوجه الثاني: وهو ما ذكره المحدث الكاشاني وقد استحسنه كثير ممن تأخر عنه وقد ذكره في الوافي وذكره بشكل مفصل في المحجة البيضاء في شرح الاحياء, وحاصل كلامه:
(فاعلم أنّ الشعر يطلق على معنين أحدهما الكلام الموزون المقفّى سواء كان حقّا أو باطلا وعلى حقّه يحمل حديث « إنّ من الشعر لحكمة » وحديث « أنّ للَّه كنوزا تحت عرشه ومفاتيحه في ألسنة الشعراء » وكذا كلّ ما ورد في مدح الشعر ونفي البأس عنه كما سنذكره فإنّ المراد منه ما كان حقّا من الموزون المقفّى ليس فيه تمويه وكذب، والمعني الثاني الكلام المشتمل على التخييلات المؤذية والتمويهات المزخرفة الَّتي لا أصل لها ولا حقيقة سواء كان لها وزن وقافية أم لا وعليه يحمل ما ورد في ذمّه وهو المراد من قول قريش حيث نسبوا القرآن إلى الشعر وقالوا للنبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم : إنّه شاعر فإنّ القرآن ليس بموزون ومن هذا القبيل مجادلات المتكلَّمين في المذاهب وشبهاتهم المزخرفة المضلَّة، قال الباقر عليه السّلام في قوله تعالى : « والشعراء يتّبعهم الغاوون » : هل رأيت شاعرا يتبعه أحد إنّما هم قوم تفقّهوا لغير اللَّه فضلَّوا وأضلَّوا »)[1]
وذكر
(الإنشاد قراءة الشعر والشعر غلب على المنظوم من القول وأصله الكلام التخييلي الذي هو إحدى الصناعات الخمس نظما كان أو نثرا ولعل المنظوم المشتمل على الحكمة والموعظة أو المناجاة مع اللَّه سبحانه مما لم يكن فيه تخييل شعري مستثنى عن هذا الحكم أو غير داخل فيه لما ورد أن ما لا بأس به من الشعر فلا بأس به وإن كان فينا أي في مدحنا أهل البيت فقال وإن كان فينا وذلك لأن كونه في مدحهم عليه السّلام لا يخرجه عن التخييل الشعري )[2]
وهذا الوجه يبدو لأول وهلة أنه لا بأس به لكنه لا شاهد عليه( أي لا شاهد على أن الشعر له معنيان).
وان كان يفهم من بعض الكلمات هذا المعنى مثلاً ورد في كتاب العين (وسمي شعرا، لأن الشاعر يفطن له بما لا يفطن له غيره من معانيه)[3].
وفي مفردات الراغب
(وسمى الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم ليت شعري وصار في التعارف اسما للموزون المقفى من الكلام)[4]
ومسألة اطلاق قريش على النبي صلى الله عليه واله وسلم بأنه شاعر وعلى القرآن بأنه شعر _ولو بالملازمة_ يبدو أنه يؤيد كلام المحدث الكاشاني لأنه صلى الله عليه واله لم يأتي بكلام مقفى وموزون ومع ذلك اطلق عليه بأنه شاعر فلابد من أن يكون المقصود بالشاعر معنى غير المتعارف, لكن يبدو من بعض المفسرين انكار هذا المعنى وقالوا بأن قريش اطلقوا (الشاعر) عليه بالمعنى المتعارف, بأعتبار أن القرآن توجد فيه الاوزان الشعرية وجمعوا شواهد على ذلك.
لكن هذا الكلام غير مقبول لأن القرآن ليس كله كذلك.
وقال البعض بأن قريش اطلقت عليه صلى الله عليه واله بأنه شاعر بأعتبار أن الطابع العام للشعر وللشاعر هو الخيال (والكذب), وهم يرون بأنه صلى الله عليه واله لم يأتي بما هو واقع وإنما هو كذب وخيال.
وهذا يمكن ارجاعه إلى ما ذكره المحدث الكاشاني بأن نقول أن اطلاق الشاعر على النبي صلى الله عليه واله دليل على أن المراد بالشاعر معنى آخر وان المراد بالشاعر هو من اتى بكلام خيال محض لا اصل له ولا واقع.
لكن هذا لا ينتج النتيجة التي انتجها المحدث الكاشاني وهي أن الشعر له معنيان (المتعارف والكلام الذي يتضمن التخييل الذي لا واقع له), ويكفي في توجيه رمي النبي صلى الله عليه واله بأنه شاعر هو أن الغالب والانطباع العام أن الشعراء يتكلمون بما هو خلاف الواقع.
ولعل الآية الشريفة التي تقول حكاية لقولهم { بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ }فكأن الشاعر_ كما يظهر من الترقي_ اشد من المفتري بأعتبار أن المفتري يرتب ويحسن ما يفتريه والشاعر يقول كلاماً خيالياً بلا ترتيب, بل لعله يعترف بأن ما يقوله خيال محض, والمفتري لا يعترف بأن ما يقوله ليس له واقع.
وهذا لا يعني أن الشعر له معنيان.
التوجيه الثالث: وهو محاولة بعضهم في أن يوقع التزاحم فقال بأن كراهة انشاد الشعر للصائم تزاحم اقامة المجالس التي فيها احياء لذكر اهل البيت عليهم السلام وان امر الدين قائم على اساس هذا الاحياء , ولا اشكال في أن هذا يقدم على الكراهة فترتفع الكراهة.
وهذا المطلب لا بأس به لكن حينما يقع التزاحم أي عندما يكون احياء امر اهل البيت عليهم السلام منحصر بإنشاد الشعر في اثناء الصوم, ومن الواضح عدم وجود التزاحم بهذا الشكل فأن احياء امر اهل البيت لا يتوقف على الانشاد للصائم فمن الممكن احياء الشعائر بطريق آخر.
الوجه الرابع: أن صحيحة حماد الاولى التي هي المدرك للعنوان (كراهة انشاد الشعر للصائم) يوجد فيها (تكره رواية الشعر للصائم) وليس انشاد الشعر, والظاهر _والله العالم_ أن هناك تشكيك في صدق رواية الشعر على قراءة الابيات في المجالس للحكمة والموعظة ومراثي ومدح اهل البيت عليهم السلام , فأن انشاد الشعر يراد به رفع الصوت بالشعر, والظاهر أن المراد برواية الشعر معنى آخر والراوي يطلق على من يتحمل الشيء من مصدره وينقله إلى غيره, ومن هنا سمي الجمل (الراوية) لأنه يتحمل الماء وينقله إلى فاقده, وكذلك الكلام في راوي الحديث حيث يطلق عليه ذلك عندما يتحمل الحديث وينقله إلى فاقده, ولا يطلق على من يرتقي المنبر ويقرأ رواية للموعظة.
فإذا امنا بهذه النكتة يمكننا دفع الاشكال عن صحيحة حماد الاولى, فنقول أن الرواية تدل على كراهة رواية الشعر للصائم وهذا لا ينطبق على الخطيب الذي يرتقي المنبر وينشد شعراً لمدح ورثاء اهل البيت عليهم السلام أو للحكمة أو الموعظة, لأنه لا يصدق على فعله رواية الشعر, بل يصدق عليه انشاده ورفع الصوت به.