38/08/17


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/08/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

والخلاصة التي انتهينا إليها:- هي أنَّ حرمة المخالفة في الوعد لا يمكن اثباتها بأدلة حرمة الكذب فإنَّ الكذب من مقولة الكلام وخلف الوعد ليس من مقولة الكلام أو بالروايات الأربع الخاصة المتقدمة وقد عرفت التأمل في دلالتها.

ولو تنزلنا وافترضنا أن دلالة الروايات كان تامة دلالةً وسنداً فيلزم حملها على الكراهة الشديدة ونرفع اليد عن ظاهرها في الحرمة ، وذلك باعتبار أنَّ سيرة المتشرعة قد جرت على مخالفة الوعد وأن من يخالف لا يرى أنه ارتكب محرّماً ، بل أنت وأنا وغيرنا نخالف الوعد ، فمثلاً لو فرض أنَّ شخصاً صنع وليمة ودعاني ووعدته بأن أجيء إليه ولكني تكاسلت بعد ذلك فهل نفعل هذا العمل أو لا ؟ إنّا نفعله ولا شيء فيه ، وهكذا أمور أخرى نفعلها ، فنحن عملاً تصدر منّا المخالفة ، نعم إذا فرضنا أن ذلك الطرف لو لم نذهب إليه سوف يتضرر كما لو فرض أنه صنع الوليمة لأجلنا ودعا الناس إليها وقد اجتمعوا فهذا اضرار بالمؤمن وإيذاء له فهذا نتمكن أن نقول إنَّ المتشرع لا يصنع ذلك ، أما لو فرض أنه لا يحصل إضرار كأن عمل وليمة عامة ولكني وعدته بالمجيء ولكني تكاسلت ولم أذهب فهذه قد جرت عليها سيرة المتشرّعة من دون نكير ، وهي ليست سيرة جديدة بل هي موجودة من زمن المعصوم عليه السلام ، ولو قلت:- من أين لك أنها ثابتة من زمن المعصوم ؟ فأقول:- هم ناس مثلنا وهل أنهم لا يتكاسلون مثلنا في بعض المرّات ولا يذهبون ؟! إنَّ هذا هو شأن الانسان بما هو إنسان ، فهذه القضيّة من عادات الإنسان وليست خاصة بنا ، فإذن مسألة التخلّف عن تنفيذ الوعد قضية ثابتة من المتشرّعة في زمن المعصوم عليه السلام ، فعلى هذا الأساس هي ليست سيرة حادثة وإنما هي سيرة المتشرّعة ويفعلونها من غير نكير وهذا يدل على شرعيتها وإلا سوف يكون ذلك خلف فرض كونهم متشرّعة ، فلأجل هذا نحمل الروايات على الكراهة الشديدة ، ولكن كما قلت هذا خاص بما إذا لم يترتب على ذلك إدخال الضرر على ذلك الطرف ، أما إذا أدخل الضرر كما مثّلنا أو أنه جاء أشخاص ليستقبلوني خارج البلد فهذا إيذاء لهم وهو لا يجوز ولكن هذه قضية ثانية.

والذي أريد أن أقوله:- إنَّ خلف الوعد إذا كان لا تترتب عليه عناوين ثانوية من الإضرار ونحوه فنتمكن أن نقول إنَّ السيرة المتشرعية قد انعقدت على المخالفة من دون نكير وهذه السيرة تصير سبباً إلى أن نحمل الروايات الشريفة على الكراهة الشديدة حتى لو تمت دلالتها على التحريم.

ونستثني من جواز مخالفة الوعد أيضاً حالة ما إذا كان الطرف الذي وَعَد صاحب مقام ، فإنه إذا لم في بالوعد فهذا يعدّ وهناً للعنوان كطالب العلم أو العالم فهذا بما أنَّ هذا المقام مقام سامٍ فربما يكون وعدك للعوام والخلف ليس بصحيح بالعنوان الثانوي ، فربما لا يجوز خلف الوعد من بعض الأشخاص بالعنوان الثانوي.

إذن مخالفة الوعد وإن انتهينا إلى أنها جائزة على كراهة شديدة ولكن نستثني حالة ما إذا فرض ترتب عنوان ثانوي مثل إدخال الضرر على المؤمن أو إيذاء المؤمن والاستهانة به أو يفترض أنَّ الذي وعد هو ذو مقام سامي وإذا لم في بالوعد تكون اهانته للعنوان وللمقام وليس لشخصه وهذا يختلف باختلاف الموارد ، فلربما يصدق في حقّ شخصٍ دون آخر وفي بلدٍ دون آخر وفي زمانٍ دون آخر.

وأضيف شيئاً:- وهو أنه ربما يساعد على الحمل على الكراهة الشديدة غير مسألة السيرة أنه لا توجد شهرة بين الأعلام على الحرمة في مخالفة الوعد ، بل على العكس قد نقل الشيخ الأعظم(قده) الشهرة على الجواز ، حيث ذكر:- ( إنَّ الكذب بهذا المعنى ليس محرّماً على المشهور وإن كان غير واحد من الاخبار ظاهراً في حرمته ) [1] ، وحينما عقد صاحب الوسائل(قده) الباب في مخالفة الوعد قال ( باب استحباب الصدق في الوعد ) ولم يقل حرمة خلف الوعد فهو رغم وجود الروايات ذهب إلى استحباب الوفاء بالوعد ، فحينما نضمّ هذا إلى السيرة فقد يكون مقوّياً لقلب الفقيه في الحكم بالكراهة.

المورد الرابع:- الكذب مع الأهل.

توجد روايات ثلاث تدل على أنَّ الكذب قد استثني من حرمته وعد الزوجة ، فيجوز كذباً في ثنتين من الروايات فإنَّ اللفظ الذي ورد فيهما هو الزوجة وفي الرواية الثالثة اللفظ الذي استعين به هو الأهل ، ومن الواضح أنه إذا فسّرنا الأهل بالزوجة وجعلناه مطلق ومقيّد فالأهل يعني الزوجة ﴿ فقال لأهله امكثوا ﴾ ولم يكن معه من أهله أحد إلا زوجته فقط لأنه أمه وأخته بعيدتان عنه ، كما أنَّ استعمالنا الآن للأهل بهذا المعنى ، وربما يستفيد الفقيه أنَّ الزوجة مصداق وفرد من أفراد الأهل لا أنَّ الأهل مختصّ بها فيصير أعم وتظهر الثمرة في أنه يجوز الكذب مع بقيّة أفراد الأسرة وهذه ثمرة مهمة ولكن هذه قضية جانبية نتركها الآن.

أما الروايات فقد قرأناها سابقاً بمناسبة والآن نكررها والظاهر أن دلالتها لا إشكال فيها إنما الكلام في السند:-

الرواية الأولى:- ما وراه علي بن إبراهيم عن أبيه عن صفوان عن أبي مخلّد السرّاج عن عيسى بن حسّان قال:- ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:- كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً إلا كذباً في ثلاثة رجل كايد في حربه فهو موضوع عنه أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الاصلاح بينهما أو رجل وعد أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتمّ لهم )[2] .

ودلالتها واضحة ولا تأمل في جواز ذلك.

ولكن المشكلة في السند:- فإنَّ أبي مخلّد السراج مجهول وكذلك عيسى بن حسّان ، وإذا تمكنا من غض النظر عن السرّاج باعتبار رواية صفوان عنه الذي هو احد الثلاثة ولكن تبقى المشكلة من ناحية عيسى بن حسّان فهي من حيث السند ضعيفة.

الرواية الثانية:- ما رواه الصدوق بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبيه جميعاً عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام في وصية النبي صلى الله عليه وآله:- ( ....... يا علي ثلاث يحسن فيهن الكذب المكيدة في الحرب وعدتك زوجتك والاصلاح بين الناس )[3] ، ودلالتها واضحة.

وقبل بيان حال السند نبيّن شيئاً:- وهو أنَّ تركيب السند كيف هو ؟ حيث قيل ( ما رواه الصدوق بإسناده عن حمّاد بن عمرو ) يعني يوجد سند عند الصدوق مذكور في آخر الفقيه إلى حمّاد بن عمرو ، وأيضاً عنده سند آخر إلى ( أنس بن محمد عن أبيه ) جميعاً عن جعفر بن محمد ، يعني تصير تركيبة هذا السند من طريقين ، الطريق الأوّل هو ( الصدوق بسنده إلى حمّاد بن عمرو عن جعفر بن محمد ) ، والطريق الثاني هو ( الصدوق عن أنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد ) ، فالتفتوا إلى تركيبة هذا السند ، ولعلّ هذا بيّناه سابقاً.

وهنا إذا أردنا أن نعرف أنَّ سند هذه الرواية معتبر أو لا فلابد وأن نذهب إلى مشيخة الفقيه ونلاحظ سند الشيخ الصدوق إلى حمّاد وأنس ، ولو راجعنا السند وجدناه ضعيفاً لأنَّ حمّاد وأنس كلاهما لا يوجد في حقهما توثيق كما أنَّ الطريق فيه مجاهيل[4] ، فإذن السند ضعيف من ناحيتين من ناحية طريق الصدوق إلى أنس وحمّاد ، وضعيف أيضاً من ناحية أنس وحمّاد فإنهما لم يوثقا.