38/08/16


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/08/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

أما الروايات الخاصة:- فننقل أربع روايات:-

الرواية الأولى:- إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن شعيب العقرقوفي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليفِ إذا وعد )[1] .

وهي تامة من حيث السند فإن جميع رواتها ثقات.

وأما من حيث الدلالة فقد يقال:- هناك أمرٌ وهو أن قوله عليه السلام ( فليفِ إذا وعد ) يستفاد منه الوجوب بناء على أنَّ الأمر يدل على الوجوب ، فربما يقال إنَّ دلالتها واضحة وظاهرة في الوجوب.

بيد أنه يمكن أن يقال:- إنَّ هذا وجيه إذا فرض أنَّ هذه الجملة جاءت وحدها ، أي قيل هكذا ( ليفي إذا وعد ) أو ( إذا وعد الشخص ليفي ) فإذا جاءت هذه الجملة مستقلّة فلا يبعد أن يقال بأنَّ ظاهرها الوجوب ، بيد أنها جاءت مع غيرها وهي عبارة ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) فمع وجود هذه الجملة يكون استفادة الوجوب أمرٌ صعب فإنه لا يبعد أن يكون المقصود من الرواية أنَّ المؤمن الحقيقي بأسمى معانيه ودرجاته لا يخلف الوعد ، من قبيل ( المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ) فالمقصود هو المسلم بالمعنى السامي والعالي وهنا يحتمل ذلك أيضاً ، بل يتعيّن أن يكون المعنى هو هذا ، فإنه إذا لم نقبل بهذا فلازمه أنَّ من لا يفي بالوعد لا يكون مؤمناً بالله تعالى وهذا لا يمكن الالتزام به.

فإذن لا يمكن المصير إلى ظاهرها ويتعيّن أن يكون المقصود هو أنَّ المؤمن بالمعنى السامي تكون هذه خصلته فإذا لم تتوفر هذه الخصلة فيه فأقصى ما يثبت أنه ليس مؤمناً بالمعنى السامي.

إذن هذه الرواية وإن كانت تامة سنداً إلا أنها محل تأمل دلالةً.

الرواية الثانية:- علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:- ( عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرّض وذلك قوله " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقوقوا ما لا تفعلون )[2] .

بتقريب:- إنها اشتملت على التنزيل حيث قالت ( عِدَة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له ) يعني أنَّ نفس الوعد بمثابة ومنزّل منزلة النذر غايته أنه استثني أثر واحد وهو الكفارة ففي مخالفة النذر توجد كفارة أما في مخالفة الوعد لا توجد كفارة ، فكل آثار النذر تكون مترتبة على واحد وهو الكفارة نستفيد ذلك من التنزيل ، أي من كونه عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له ، ومن آثار النذر التي تنتقل للوعد هو وجوب الوفاء فإنَّ النذر يجب الوفاء به فبالتنزيل سوف يثبت أيضاً للوعد ، وبذلك يثبت المطلوب وهو أنَّ من وعد المؤمن أخاه بشيء يجب عليه الوفاء لأنَّ الوعد منزّلٌ منزلة النذر بمقتضى هذه الرواية الشريفة.

وأما بقية الرواية أعني قوله عليه السلام:- ( ومن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرّض ) فهذا لا يمكن استفاد الوجوب منه ، لأنَّ أقصى ما يثبته أنه تعرَّض لمقت الله تعالى ومخالفته ومعلومٌ أنَّ التعرّض لبغض الله أو لمخالفته لا يستلزم الحرمة فإنَّ من يفعل المكروهات فقد خالف الله لأنَّ الله عزّ وجل نهى عن المكروهات فهذا نحوٌ ودرجة من درجات المخالفة ولمقته تعرّض ، فالمكروه أيضاً مبغوضٌ ، فأنت قد تعرّضت إلى البغض الإلهي ، فإذن هذا لا يدل على مطلوبنا ، والمهم إذا أردنا أن نتمسّك بالرواية فيلزم أن نتمسّك بصدرها أي بقضية التنزيل لا بذيلها.

وهي أيضاً تامّة السند.

بيد أنه يمكن أن يقال:- إنه ليس المقصود التنزيل الحقيقي وإنما المقصود هو التنزيل الأخلاقي الأدبي إن صحّ التعبير ، فهذا ليس تنزيلاً حقيقياً بحيث تنطبق كل الآثار عليه ، كلا وإنما المقصود هو التنزيل الأدبي أي من زاوية الآداب والأخلاق الاسلامية ، فمن المحتمل أن يكون هذا هو المقصود وإلا يلزم أن تلتزم بأمور أخرى من قبيل أنه إذا كان التنزيل حقيقياً يلزم أن يكون متعلّق الوعد راجحاً أما إذا كان شيئاً مباحاً ولا رجحان لأحد الطرفين على الآخر فهذا لا يلزم الالتزام به ، فإذن يلزم أن تطبّق كل آثار النذر والتي منها رجحان المتعلّق ومن البعيد أن يلتزم فقيه بهذا ، فإنه حتى إذا أردنا أن نقول إنَّ الوعد واجب فمجرّد الوعد بشيءٍ غير حرام أما أن يكون راجحاً فهذا ليس بلازم ، فهذا لا يبعد أن يكون قرينة على أنَّ التنزيل ليس تنزيلاً حقيقياً وإنما هو تنزيل أخلاقي وأدبي ، فالرواية أيضاً لا تخلو من تأمّل في الدلالة.

الرواية الثالثة:- العدّة عن سهل عن بعض أصحابه عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث من كنَّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم:- من إذا ائتمن خان ، وإن حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف إن الله عزّ وجلّ قال في كتابه " إنَّ الله لا يحب الخائنين " وقال " أنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين " وفي قوله " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا " )[3] .

ووجه الدلالة:- إنها قالت ( ثلاث من كنَّ فيه كان منافقاً ) وواحد من هؤلاء الثلاثة ( وإذا وعد أخلف ) فيثبت بذلك أنَّ خلف الوعد لا يجوز بقرينة ( كان منفاقاً ) ، فهو من علامات المنافق ، هذا ما قد يقال في تقريب هذه الدلالة.

وفيه:- إنه لا يبعد أن لا يكون المقصود المنافق بالمعنى الحقيقي ، يعني من يكذب هو منافق ، ولكنه منافق بأيّ معنى ؟ يعني أنه اتّسم بسمات المنافقين لا أنه صار منافقاً حقيقياً ، بل يتعيّن أن يكون هذا هو المقصود ، إذ لا يحتمل أحد أنَّ من إذا أخلف الوعد صار منافقاً حقيقياً فإنَّ هذا لا يمكن الالتزام به.

ولو تزّلنا والتزمنا بأنه يصير منافقاً ولكن نقول من هو المنافق ؟ المنافق هو من توفّرت فيه هذه الخصال الثلاث ، أما لو توفرت كل واحدة واحدة بمفردها أيضاً كذلك فالرواية لا تدل عليه ، فيحتمل أنَّ هذه الثلاث بمجموعها إذا توفرت كان منافقاً لا أنه كل واحدة منها توجب ذلك ونحن كلامنا في أنه نريد أن نثبت خلف الوعد لوحده حرام لا أنه بشرط انضمامه إلى أمور أخرى.

فإذن الرواية حتى لو سلّمنا بدلالتها على الحرمة فأقصى ما تدل عليه هو أنَّ الحرام هو المجموع بقيد المجموع لا كل فردٍ فرد باستقلاله ، هذا كله لو تم السند ، والمفروض أنه لو غضضنا النظر عن سهل وبيننا على أنَّه روى عنه الأعاظم أو غير ذلك تبقى مشكلة الارسال لأنه يروي عن بعض أصحابه ، فهي إذن محل إشكال من حيث السند والدلالة.

الرواية الرابعة:- وعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حسن بن عطية عن يزيد الصائغ قال:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- رجل على هذا الأمر إن حدَّث كذب وإن وعد أخلف وإن ائتمن خان ما منزلته ؟ قال:- هي أدنى المنازل من الكفر وليس بكافر )[4] .

بتقريب:- أنَّ السائل قال ( ما منزلته ؟ ) فقال الامام عليه السلام ( هي أدنى المنازل من الكفر ).

ولكن يرد عليها:- إنها ضعيفة من حيث السند ، بيزيد الصائغ لا يوجد توثيق في حقّه بل ربما قيل هو كذّاب ، أما بقية السند فلا مشكلة فيهم.

وأما من حيث الدلالة فنقول:-

أوّلاً:- لعلّها أدلّ على عدم الحرمة ، لأنها قالت ( وليس بكافر ) يعني أنَّ هذه الحالة هي أدنى منازل الكفر ولكنه ليس بكافر ، ومادام ليس بكافر فكيف نثبت آنذاك الحرمة ؟! فقد يكون الأدنى ليس بمحرّم وإنما المحرّم ما كان كفراً أما أدنى المنازل من الكفر فلا تستطيع أن تقول هو يستلزم الحرمة.

ثانياً:- إذا لم يقبل أحد بما ذكرناه أولاً فنقول: إنَّ غاية ما تدل عليه هو المجموع ، فهو إن حدّث كذب وإن وعد أخلف وإن ائتمن خان فالمجموع إذا تحقق هذا يكون في أدنى منازل الكفر لا تحقق كلّ واحدة واحدة من هذه الصفات ونحن نريد أن نثبت أنَّ خلف الوعد بمفرده يوجب ذلك وهذا لا يمكن أن يستفاد من الرواية ، وإنما أقصى ما يستفاد منها هو أنَّ الثلاثة إذا اجتمعت فهذا يكون أدنى منازل الكفر.

ثالثاً:- لا يبعد أن يقال إن هذه الصفة تطلق على من تكرر منه ذلك ، فإنَّ من يتكرّر منه الخلف يقال عنه ( وإذا وعد أخلف ) أما الخلف بالمرّة الواحدة فيبعد أن صدق عليه عرفاً أنه إن وعد أخلف ، فعلى هذا الأساس تكون دلالتها محل إشكال.

وقد اتضح من خلال هذا أنَّ الروايات المذكورة هي بأجمعها قابلة للمناقشة من حيث الدلالة ، وقد تكرّر منا أنَّ قاعدة ضمّ الضعيف إلى الضعيف قد ينتج قوياً تتم فيما إذا كانت الدلالة تامّة وكان السند ضعيفاً ، أما إذا فرض العكس بأن كانت الدلالة غير تامّة فضمّ الضعيف إلى الضعيف لا ينتح قوياً وهذا من الأمور الواضحة ، وقد مثلنا لذلك بأن يأتي شخص ويقول جاء فلان من السفر ونحن لا نعرف حال المخبِر حيث كان مجهول الحال وجاء الثاني وأخبر أيضاً بمجيء فلان من السفر وهكذا قال الثالث فهنا يحصل عندنا اطمئنان بحساب الاحتمال فنقول إنَّ اجتماع هؤلاء على الكذب شيء بعيد فيحصل الاطمئنان بمضمون الخبر ، أما إذا فرض أنَّ الأوّل قال رأيت بيد فلان حقيبة وقال الثاني رأيت باب المنزل مفتوحاً وقال الثالث رأيت الخروف قد أُعِدَّ للذبح فهذه الإخبارات دلالتها ناقصة على أنه إذن جاء فلان وأنت لا تقبل بهذا الشيء ، فإذن ضمّ الضعيف إلى الضعيف من حيث الدلالة لا ينتج القويّ ، وإنما يتم ذلك لو كانت ضعيفة من حيث السند ، وهذه الروايات ضعيفة من حيث الدلالة فعلى هذا الأساس يشكل التمسّك بها.