38/08/09


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/08/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

وفيه:- إنه(قده) قد أطال في كلامه في مقام بيان الفارق ، وكان بإمكانه أن يختصر المطلب كما هي عادته ويقول: ( الرافع في باب حرمة الكذب هو الاضطرار وهو لا يصدق عرفاً إلا مع العجز عن الفصي وأما الرافع في باب المعاملات فهو الاكراه وهو لا يتوقف صدقه على العجز عن التفصّي ) ، وإذا كان هذا هو المقصود فالإشكال عليه واضح فإننا لا نسلّم أنَّ الاكراه لا يتوقّف صدقه على العجز عن التفصّي ، بل نقول هو يتوقف عليه أيضاً كالاضطرار ، والمنبّه على ذلك أنه لو فرض أنَّ الظالم أكرهني وقال ( اشرب الخمر وإلا سوف تضرب أو تحبس ) فلو فرض أني كنت عاجزاً عن التفصّي فماذا أفعل ؟ أقوم بصبّه في جيبي ولكنه يعتقد أني شربته ، فلو أني كنت قادراً على التفصّي بهذا الشكل فهل يصدق الاكراه ؟ كلا لا يصدق ولو شربت الخمر لكان حراماً ولا نظنُّ أنَّ فقيهاً يخالف في ذلك ، بينما على رأي الشيخ الأعظم(قده) يلزم أن يقول في باب الاكراه يصدق الاكراه حتى مع القدرة على التفصّي ، يعني حتى إذا كان يستطيع أن يصبَّه في جيبه هو حينئذٍ مكره وإذا شربه يكون مُكرها ولا يكون فاعلاً للمحرّم ، وهل يلتزم فقيه بهذا ؟!! إنه لا يمكن أن يلتزم به أحد ، وهذا أقوى وأحسن منبّهٍ وجداني على أنَّ الاكراه يعتبر فيه العجز عن التفصي أيضاً كالاضطرار ، فإذن لابد من البحث عن جوابٍ جديد عن هذا الاشكال.

والأجدر في مقام التفرقة أن يقال:- إنه في باب المحرّمات التكليفية كالكذب أو شرب الخمر مثلاً الرافع هو الاضطرار أو الاكراه كما لو أكرهني الظالم ، وهما لا يصدقان إلا مع العجز عن التفصّي ، وأما في المعاملات فالرافع هو الاكراه - للفائدة المتقدّمة - دون الاضطرار ، والاكراه يعتبر فيه العجز عن التفصّي ، فمع القدرة على التفصّي لا إكراه ، وهل هناك رافعٌ آخر في باب المعاملات غير الاكراه ؟ نعم وهو عدم طيب النفس ، فإنَّ النفس إذا لم تطِب بالمعاملة يعني إذا لم يكن الرضا الباطني موجوداً فهي باطلة وإن لم يكن هناك اكراه ، يعني يشترط في صحّة المعاملة شرطان هما عدم الاكراه وطيب النفس ، والدليل على اعتبار طيب النفس هو الكتاب الكريم وهو قوله تعالى: ﴿ إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ﴾ والحديث النبوي الشريف: ( لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه )[1] ، فإذن طيب النفس معتبر ، وعلى هذا الأساس نقول إنَّ العجز عن التفصّي معتبرٌ في صدق الاكراه وأما بالنسبة إلى طيب النفس فلم يؤخذ فيه هذا القيد ، فلو فرض أنَّ جماعة أجبروني على طلاق زوجتي فطلقتها ففي مثل هذه الحالة هل يصدق أني طلقت زوجتي مكرهاً أو لا ؟ كلا لا يصدق الاكراه لأني أتمكن أن أقصد اللفظ من دون أن أقصد المعنى ، فأنا كنت قادراً على التفصّي فالإكراه ليس بصادق ، ولكن مع ذلك يكون الطلاق باطلاً لأنَّ نفسي لم تطِب بطلاقها ولكني قصدت المعنى من باب أنه لو لم أقصد الطلاق فسوف تتزوج من آخر وسوف تكثر المشاكل كأن يكون الزواج بذات بعل وغير ذلك فأنا قصدت الطلاق حتى لا تقع المشاكل الأكثر ، ففي مثل هذه الحالة مع ذلك نحكم بأنه باطل لأنك وإن قصدت المعنى عن اختيارٍ ولكن لم تطِب نفسك بهذا الطلاق فيقع باطلاً من باب عدم طيب النفس لا من باب أنك مكره لأنه يوجد لك طريق للتخلّص وهو أن تقصد الألفاظ فقط دون المعاني ، نعم قد نقول أحياناً لا يقع الطلاق صحيحاً للإكراه وقصدنا من الاكراه يعني لم تطِب نفسه ولكن هذا مسامحة وإلا فبالدّقة لا يوجد اكراه لإمكانه من التفصّي ولكن مع ذلك يقع باطلاً لعدم طيب النفس ، فإذن الرافع لصحّة المعاملات لا ينحصر بالإكراه وإنما هناك رافعٌ آخر وهو عدم طيب النفس.

إذن الفارق بين الموردين هو أنه في باب حرمة الكذب وهكذا حرمة شرب الخمر هو الاضطرار في الكذب والاكراه في الشرب الخمر وهما يعتبر في صدقهما العجز عن التفصّي ، لكن الرافع في باب المعاملات مضافاً إلى الاكراه يوجد رافع آخر وهو عدم طيب النفس ، أما بالنسبة إلى الاكراه مع القدرة على التفصّي لا يصدق كما لو استطاع أن يقصد الألفاظ دون المعاني ولكن طيب النفس ليس موجوداً ومادام طيب النفس ليس موجوداً فسوف تقع المعاملة باطلة ، فإذن النكتة الفارقة هي هذه وهي أنه في باب المحرّمات الرافع هو الاضطرار والشيخ حصره بالإكراه وكان من المناسب أن يضيف الاكراه أيضاً لأنَّ شرب الخمر يوجد فيه إكراه من قبل الأجنبي ولكن صدقهما يتوقّف على العجز عن التفصّي ، ولكن في باب المعاملات يوجد رافع آخر غير الاكراه وهو عدم طيب النفس ، فمع القدرة على التفصّي صحيح أنه لا يصدق الاكراه ولكنّ طيب النفس ليس موجوداً فيقع حينئذٍ الطلاق باطلاً.

بهذا ننهى كلامنا عمّا أفاده الشيخ الأعظم(قده) وننهي حديثنا عن المورد الأوّل.

المورد الثاني:- أن يكذب الشخص كي يصلح بين مؤمنين ، هنا يوجد تقريبان للجواز تقريبٌ ذكره السيد الخوئي(قده) وتقريبٌ ذكره الشيخ الأنصاري(قده):-

التقريب الأوّل:- وهو ما أشار إليه السيد الخوئي(قده) في مصباح الفقاهة[2] وحاصله: إنَّ مقتضى عمومات حرمة الكذب هو أنَّ الكذب حرام حتى في الاصلاح بين المؤمنين بينما مقتضى قوله تعالى ﴿ إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم ﴾ هذا مطلق وهو بإطلاقه يشمل حتى حالة الحاجة إلى الكذب ، ومادة المعارضة بينهما هي اصلاحٌ يتوقف على الكذب ، ومقتضى الآية الكريمة الجواز ومقتضى عمومات حرمة الكذب عدم الجواز فيتساقطان في مادّة الاجتماع والمعارضة فنرجع إلى أصل البراءة أو إلى قوله عليه السلام: ( المصلح ليس بكذّاب ) وسوف تصير النتيجة هي الجواز.