38/05/08


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/05/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

الصنف الثاني:- ما أخذ عنوان الرشوة من دون قيد.

وهو رواية الأصبغ عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:- ( أيّما والٍ احتجب عن حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة ....وإن أخذ رشوة فهو مشرك )[1] ، ودلالتها على الحرمة واضحة لأنه عبر ( فهو مشرك ) هذا ظاهر عرفاً في التحريم.

ولكن يوجد شيء يجدر الالتفات إليه:- وهو أنَّ الرشوة هنا ماذا يقصد منها ؟ نحن ذكرنا فيما سبق أنَّ كلمات اللغويين عائمة غائمة فالمناسب الاقتصار على القدر المتيقن وهو الرشوة في الحكم ، وهنا يكون المناسب ذلك ، يعني أنَّ يكون القدر المتيقن هو ذلك ، فقد يكون المقصود هنا أكثر من ذلك ولكن لا يوجد عندنا ما يثبت السعة وهذا واضح.

والذي أريد أن أبيّنه:- هو أنه لعلّه توجد نكتة في خصوص مورد الرواية تكون قرينة على أنَّ المقصود من الرشوة هنا ليس هو الرشوة في الحكم ، وهي قوله ( أيما والٍ ) فهي عبرت بكلة ( والي ) والوالي ليس من شأنه القضاء وإنما هو الذي ينصّب شخصاً للقضاء ، فهذا يصير قرينة على أنَّ الرشوة المقصودة هنا ليست هي الرشوة في القضاء وإنما عن أمورٍ أخرى كأن تكون العفو عن مجرمٍ معين أو ما شاكل ذلك فيعطى الوالي مقداراً من المال لأجل ذلك ، فإذن قد يصعب حمل هذه الرواية على الرشوة في باب الحكم لهذه القرينة ، وهذا شيء ينبغي الالتفات إليه.

الصنف الثالث:- ما أخذ عنوان الرشوة في الفقه والتفقه.

يعني هو لا يبذل فقهه إلا بدفع الما له ، وهي رواية يوسف بن جابر التي رواها الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن عيسى بن عبيد عن أحمد بن إبراهيم عن عبد الرحمن عن يوسف بن جابر قال:- ( قال أبو جعفر عليه السلام:- لعن رسول الله صلى الله عليه وآله من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له ....... ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقهه فسألهم الرشوة )[2] .

وهي من حيث الدلالة تتوقّف على أن يكون اللعن دالاً على الحرمة ، فإذا استظهرنا منه ذلك فحينئذٍ تدل على التحريم ، وحينئذٍ يكون موضوعها ليس الرشوة في الحكم بل الفقه فهو لا يبذله ولا يعلم الأحكّام إلا في مقابل اعطاء شيء من المال ، فهذه الرواية سوف تثبت الحرمة في قضيةٍ أخرى ، ولكن مما يهوّن الخطب أنَّ سندها ضعيف ببعض المجاهيل من قبيل يوسف بن جابر فإنه مجهول وكذلك عبد الرحمن الذي يروي عن يوسف بن جابر.

الصنف الرابع:- وهو الرزق على القضاء.

وهي رواية محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنام قال:- ( سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ، فقال:- ذلك السحت )[3] ، والسحت هو بمعنى الحرام فتدل على الحرمة ، لكن موضوع الحرمة هو الرزق على القضاء حيث إنه يأخذ من السلطان الرزق يعني الأجرة على القضاء.

هذه روايات المسألة وما عندنا من الروايات فهو يدخل تحت هذه الأصناف.

وبعد أن عرفنا أنَّ مستند التحريم هو الروايات ولعلّه إضافةً إلى ذلك الضرورة الفقهية فحينئذٍ نأتي ونقول:-

ما هي الرشوة المحرّمة ؟

وفي هذا المجال نقول:- الرشوة تارةً تكون على الحكم كما ذكرنا سابقاً ، وأخرى على غير الحكم.

الرشوة في الحكم:- وهي تنقسم إلى أقسام أربعة:-

القسم الأول:- أن يكون المال المدفوع على الحكم بالباطل.

القسم الثاني:- أن يكون المال المدفوع على الحكم لصالح الدافع سواء كان الحكم لصالحه في علم الله أو لا ، يعني هذه البضاعة أو هذه الدار قل أيها الحاكم هي لي وربما هي واقعاًً بعد الالتفات والنظر في القضية هي له واقعاً وربما هي ليست له واقعاً لكن الدافع يقول له من الآن أنت أحكم لي بذلك بغضّ النظر عن كوني مالكاً لذلك الشيء أو لا.

القسم الثالث:- أن تكون الرشوة على أصل الحكم لا على الحكم بالباطل ، فيدفع له مقداراً من المال لكي يحكم بالحق لأنه يمتنع عن الحكم فنحن ندفع له مقدراً من المال لكي يحكم.

القسم الرابع:- أن تكون الرشوة أو الأجرة مقابل التصدّي لمنصب القضاء ، فالأجرة لا تكون مقابل الحكم إذ لعلّه لا يأتي أحد إليه للترافع عنده وإنما الأجرة تكون مقابل نفس التصدّي للمنصب.

أما بالنسبة إلى القسم الأوّل:- فهو القدر المتيقّن من الروايات ، يعني مثل صحيحة عمّار بن مروان الواردة في الصنف الأوّل والتي هي أحسن الروايات فإنَّ الوارد فيها:- ( فإنَّ ذلك الكفر بالله العظيم ) فالقدر المتيقّن من هذه الرواية هو القسم الأوّل ، مضافاً إلى أنَّ ضرورة الفقه هي هذه ، بل لعلّ شخصاً يقول وهو ضرورة الدين ، يعني كلّ مسلمٍ عنده من البديهيات في دين الاسلام حرمة الرشوة بهذا المعنى الضيق وهو دفع المال في مقابل الحكم بالباطل ، وإذا لم ترد أن تقول بذلك فلا أقل من ضروريات الفقه يعني بين الفقهاء ، فمن له أدنى ممارسة فقهية يعرف من الواضحات أنَّ هذا حرام كحرمة الزنا السرقة الخمر ولا تحتاج إلى بحثٍ وإنما نبحثها هو كقضية فنّية أو لأجل معرفة التفاصيل وهنا أيضاً كذلك ، وهذه يعبّر عنها بالضرورة الفقهية ، فهي ليس في مجال كلّ المسلمين بل في الوسط الضيّق وهو الوسط الفقهي وبين الفقهاء ، أما الضرورة الدينية فهي ضرورة الاسلام ، وأيضاً توجد عندنا ضرورة مذهبية يعني في المذهب الامامي ، وأنا لم أذكر الضرورة المذهبية لأنَّ حرمة الرشوة واضحة بين المسلمين لا أنه يحتمل وضوحها في دائرة المذهب الامامي فقط ، كلا بل إذا كانت ضرورية فهي ضرورية في دين الاسلام لا أنها ضرورية في المذهب الامامي فقط.

إذن النتيجة هي أنَّ القسم الأوّل حرمته هي القدر المتيقن من الروايات ، بل يمكن أن يقال إن حرمته ثابتة بضرورة الفقه ، بل نتمكن أن نقول إنَّ الحرمة ثابتة بالضرورة الدينية.

وقد يشكك شخص ويقول إنه لم تثبت مثل هكذا ضرورة في دين الاسلام ، ولكن هذه قضية ليست بالمهمة فإنه ربما يقال هكذا وهو قريبٌ.

وأما بالنسبة إلى القسم الثاني:- فهذا أيضاً يمكن الحكم بحرمته ، ولكن ما هو الدليل ؟ إنه ربما يتمسّك لذلك بإطلاق دليل حرمة الرشوة في باب الحكم ، مثل صحيحة مروان بن عمّار حيث ورد فيها ( الرشا في الحكم هو الكفر بالله وبرسوله ) فنقول هذه رشوة في الحكم ، فربما يقال هذه الرواية مطلقة ولم تقيّد بما إذا كان الحكم بالباطل حتماً فنتمسّك بالإطلاق.

ولكن يرد على ذلك:- إنه قد تقدّم أنّ كلمات اللغويين ليست واضحة في التوسعة والقدر المتيقن منها هو الحكم بالباطل ، فالرشوة هي اسم للحكم بالباطل حتماً أما لأصل الحكم غير المعلوم كونه حقاً أو باطلاً فلا يعلم أنه يصدق عليه عنوان الرشوة لغةً ، كما أنه لا يوجد مرتكز عرفي في أذهاننا في التوسعة ، لأنَّ كلمات اللغويين أحياناً فيها إجمال ولكن حينما نرجع إلى مرتكزاتنا العرفية في معنى الكلمة نجد أننا نحمل مرتكزاً فنأخذ به وهذا حجة ولا بأس به ، ولكن في مقامنا إذا رجعنا إلى هذا المرتكز فالقدر المتيقن منه هو الحكم بالباطل أما أوسع من هذا - وهو الدفع لأصل الحكم - فهذا يشك فيه ، فلا يوجد ارتكاز واضح على أنه عرفاً هي وسيعة والمفروض في كلمات اللغويين أنها مجملة والقدر المتيقن هو الأجر مقابل الحكم بالباطل ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق صحيحة عمّار بن مروان مثلاً التي تقول ( وأما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم وبرسوله ) لأنه من التمسّك بالعام أو المطلق في الشبهة المفهومية[4] لأن نفس مفهوم الرشوة ليس بواضح سعة وضيقاً فحينئذٍ يكون التمسك في الشبهة المفهومية أما إذا كان المفهوم واضحاً ولكن الاشكال في المصداق فهذه تسمى شبهة مصداقية ، مثل ما لو قلت لك أكرم العالم يعني المجتهد ودخل شخص لا نعلم أنه مجتهد أو لا فنحن نعلم أن العالم معناه هو المجتهد لكن هل هذا مصداق للمجتهد أو لا فهنا تصير شبهة موضوعية ، أما إذا كان نفس المفهوم مردداً سعة وضيقا كما هو موردنا لأن الرشوة نحتمل أنها ضيقة بخصوص الحكم بالباطل ونحتمل أنها وسيعة تشمل حتى الدفع للحكم بالحق فإذن الشك يكون في المفهوم سعة وضيقاً فيصير الورد من التمسك بالعام أو المطلق في الشبهة المفهومية وهي لا يجوز.

أما ما هي نكتة عدم الجواز ؟ تقريباً هي نفس النكتة فإن الحكم يقول إذا ثبت أن هذه رشوة بحيث يصدق عليها مفهوم الرشوة وشامل ووسيع فإذا كان صادقا فحرام أما ان مفهوم الرشوة وسيع يشمل هذا المورد او هو ضيق فلا يدل على ذلك فإن الحكم لا يتكفل سعة مفهوم موضوعه ، فهو كما لا يتكفل مصداق موضوعة لا يتكفل سعة المفهوم فنكتة عدم جواز التمسك نكتة واحدة ولكني أردت التنبيه على هذا المقدار وهي قضية فنية يجدر الالتفات إليها.

إذن لا يمكن أن نتمسّك في القسم الثاني لإثبات الحرمة بإطلاق صحيحة عمّار بن مروان.

فإذن ماذا نصنع في مثل هذه الحالة ؟

يمكن التمسّك لإثبات الحرمة بطريقٍ آخر وذلك بأن يقال:- فنحن نشعر بحسّنا المتشرعي الفقهي أن يكون هذا القسم حراماً ، وهذا الحسّ يجعلنا نفكّر في ايجاد طريقٍ لإثبات الحرمة ، فنصوغ الدليل هكذا حيث أقول:- إنه حينما أقول للحاكم أحكم لي حكماً في صالحي سواء كان هو حكم الله أو ليس حكم الله فهذا في الحقيقة يرجع إلى أنه احكم بما لا تعلم أنه حقّ وأنه حكم الله عزّ وجلّ ، وحكم الإنسان بشيء لا يعلم أنه الواقع وأنه حكم الله باطل ، فدائماً حينما يريد شخص أن يحكم فلابد وأن يعلم أنَّ هذا الحكم موافق للشرع حتماًً وأنه حكم الله لا أنه يصدر حكماً لا يعلم أنه حكم الله أو لا ، فالحكم بما لا يعلم أنه حكم الله لا يجوز ، فدفع الأجرة على هذا يكون دفعاً لها في مقابل المحرّم ، والاجارة على المحرّم باطلة ، فإذن دليل صحّة الاجارة الذي هو ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ لا يحتمل شوله لما هو محرّم وألا وجب الوفاء بالمحرّم وهذا غير ممكن ، فنفس وجوب الوفاء لا يمكن أن يتعلق إلا بما هو جائز في حدّ نفسه وهذا ليس بجائز في حدِّ نفسه.

إذن اثبتنا الحرمة من خلال هذا الطريق لا من خلال اطلاق ما دلّ على أنَّ الرشا في باب الأحكام محرّم[5] ، فإذن ثبتت حرمة هذا القسم بهذا البيان.

وأما القسم الثالث:- فما دلّ على حرمة الرشا في الأحكام لا يمكن التمسّك به هنا لنفس النكتة المتقدّمة ، لأنَّ هذا في الحقيقة ليس دفعاً للمال مقابل الحكم بالباطل وإنما مقابل أصل الحكم ، فهذا ليس من المعلوم أنه يصدق عليه عنوان الرشوة أو الرشا في الحكم ، والتمسّك به يكون من التمسّك بالعام في الشبهة المفهومية فلا يجوز لنفس النكتة المتقدّمة.

ولكن ربما يقال:- إنه يوجد طريق آخر لإثبات الحرمة ، وهو أنَّ نفس صحيحة عمّار بن مروان ورد فيها نقل آخر نتمسّك به ، وهو ( والسحت أنواع كثيرة ...... منها أجور القضاة ) ، ويقال إنَّ أجور القضاة يصدق على ما يُدفع القضاة - الحكّام - فهذه أجرة فنتمسّك بهذا ، وهنا لم يرد عنوان الرشوة حتى يقال نحن لا نجزم بصدقها في المقام ، بل الوارد هو عنوان الأجرة على القضاء يعني الأجر على الحكم ، وهذا يصدق عليه أنه أجرة ، فحينئذٍ لا يجوز بمقتضى النقل الثاني في صحيحة عمّار بن مروان.


[4] هذا ما استدركه الشيخ الاستاذ في المحاضرة التالية / المقرر.
[5] وقد يقال:- إنه يمكن أن نثبت حرمة القضاء بما لا يعلم من غير حاجة إلى دليل شرعي بل يكفي لإثبات الحرمة أنه سوف يلزم من هذا اختلال النظام، فيبقى الطرق واحداً وهو أن هذا حرام ولكن منشأ الحرمة مرة يكون مال دل على أن الحكم لا يعلم فلا يجوز ومرة يكون المنشأ هو اختلال النظام.