38/03/11


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/03/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 28 ) الاجارة على الواجبات - المكاسب المحرمة.

الوجوه المستدل بها في المقام:-

استدل على عدم صحة الاجارة في الواجبات بعدّة وجوه يمكن تصنيفها إلى أقسام ثلاثة:-

القسم الأوّل:- ما يدل على ثبوت المنافاة بين حيثية الوجوب والاجارة ، فصفة الوجوب لا تجتمع مع الاجارة أعم من كون ذلك الواجب عبادياً أو توصلّياً ، فنفس حيثية الوجوب لا تجتمع مع الاجارة.

القسم الثاني:- ما يثبت به المنافاة بين حيثية قصد القربة والاجارة ، فقصد القربة مع الاجارة لا يجتمعان.

وهذا كما ترى يختصّ بخصوص العباديات ، فلا يمكن أن أوجر شخصاً للصلاة على الجنازة لأنه يعتبر قصد القربة وقصد القربة لا يجتمع مع الاجارة.

القسم الثالث:- ما يثبت المنافاة بين قصد القربة وحيثية النيابة - ولم أقل وحيثية الاجارة كلا بل وحيثية النيابة - ، وهذا يختص بالواجبات العبادية زائداً العبادات الاستيجارية ، فهذا القسم ناظر إلى هذا فهو يقول أنت يمكنك أن تقصد القربة عن نفسك أما في النيابة فكيف تقصد القربة ولمن تقصدها ؟! فحيثية النيابة مع قصد القربة لا يجتمعان.

إذن الفارق بين الثاني وبين الثالث رغم اشتراكهما في كونهما ناظران إلى خصوص الواجبات العبادية وإلى خصوص قصد القربة هو أنَّ الثاني ناظر إلى المنافاة بين قصد القربة والوجوب أعم من كون هذا الواجب نيابياً أو عن نفس الشخص ، أما الثالث فهو ناظر إلى حيثية المنافاة بين قصد القربة وحيثية النيابة عن الغير وليس حيثية الاجارة بما هي بل النيابة أعم من كون ذلك بنحو الاجارة أو لا بنحو الاجارة فإنَّ هذا لا يؤثر ، بل المهم أنه لا يمكن أن تقصد القربة فهل تقصدها بأمرك فأنت لا يوجد عندك أمرٌ ، فأنت حينما تريد أن تصلّي عن الميّت فهل تقصد القربة عن نفسك ؟ فأنت ليس عندك أمر ، أو تقصدها عن الميّت ؟ فالميّت لابد وأن يكون هو الذي يقصد القربة عن أمره أما أنك تقصد القربة لأمره فهذا لا يمكن ، فلا يمكن قصد القربة في الواجبات النيابية المطلوبة بنحو القربة.

هذه ثلاثة أقسام للوجوه التي سنذكرها.

الوجوه من القسم الأوّل:- وفي هذا المجال ذكرت عدّة وجوه وأشار إلى غير واحد منها كاشف الغطاء(قده) في شرحه على القواعد ، ونقل أغلب هذه الوجوه تلميذه صاحب الجواهر(قده) ، ونقل الشيخ الأعظم(قده) وجهين من تلك الوجوه وهي:-

الوجه الأوّل:- إنَّ المنافاة بين كون الشيء واجباً وكونه مملوكاً للغير بالإجارة يوجد بينهما تنافٍ ذاتي وهذان لا يجتمعان ، فهذا واجبٌ من قبل الله تعالى والله تعالى يريده بنحو الوجوب ويؤجَر عليه يعني يملكه المستأجِر فهذان لا يجتمعان لوجود التنافي الذاتي.

وعلّل بعد ذلك وقال:- لأجل أنه إذا كان واجباً من قبل الله تعالى فهو مملوك له فكيف يمكن بعد ذلك وقوع الاجارة عليه ؟! فإنه يلزم من ذلك أن يكون مملوكاً للمستأجِر والمملوك لا يمكن أن يُملَك ثانيةً فإنه لا يمكن أن تجتمع ملكيتان على شيءٍ واحد ، فعلى هذا الأساس إذا كان رضاع اللباء للرضيع واجباً على الأمِّ فإذا ثبت وجوبه فلا يمكن للوالد أن يستأجرها على أن تُرضِع اللباء لأنَّ هذا مادام واجباً فهو مملوك لله عزّ وجلّ فلا يمكن أن يملكه والد الصبي فإنَّ المملوك لا يمكن أن يُملَك ثانية ، فملكيتان على شيءٍ واحد هو اجتماع مثلين أو غير ذلك وهذا لا يمكن ، ونصّ عبارة صاحب الجواهر(قده):- ( إنَّ المنافاة بين صفة الوجوب التملك ذاتية لأنَّ المملوك والمستحق لا يملك ولا يستحق ثانياً )[1] ، وأشار إلى ذلك الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[2] .

وقبل أن ننتقل إلى مناقشة المطلب نذكر قضية جانبية:- وهي أنه قال هنا:- إنَّ المنافاة بين صفة الوجوب والتملك ذاتية ، ثم علّل وقال:- لأنَّ المملوك والمستحق لا يملك ولا يستحق ثانياً ، وهذا معناه أنها غير ذاتية ، فإذا كانت ذاتية فالذاتي لا يحتاج إلى تعليل بالغير وهو ذهب إلى التعليل بالغير ، فهو ذهب إلى التعليل بشيءٍ آخر وإلا إذا كانت ذاتية فلا حاجة له حينئذٍ ، فدائماً إذا كانت المنافاة بين الشيئين ذاتية كالمنافاة بين النقيضين فهما نقيضان والنقيضان يستحيل اجتماعهما والمنافاة بينهما ذاتية ولا يحتاج إلى تعليلٍ وإنما هنا نقيضان هو يكفي ، فالذاتية هي هذه ، بينما هو جعل أنه يلزم اجتماع مثلين مثلاً أو ما شاكل ذلك ، وعلى أيّ حال هذا شيء لا يؤثر على روح المطلب وإنما هي قضية فنّية جانبية.

والاشكال عليه واضح:- فإنَّ الله عزّ وجلّ وإن أوجب الفعل على المكلّف مثل أنه أوجب على الأم أن تُرضِع اللباء ولكن هذا الاستحقاق استحقاق تكليفي وليس استحقاقاً وضعياً ، بينما بالإجارة يثبت استحقاق وضعي بمعنى الملكية وذاك ليس بمعنى الملكية بل نقول الصلاة لله عزّ وجل ومعنى هذا أنها مملوكة بمعنى الملكية الوضعية ؟ كلا وإنما هي واجبة إذن على مستوى الحكم التكليفي ، بينما ما يحصل بسبب الاجارة شيء وضعي ، فإذن توجد مغايرة بين الاستحقاقين.

وقد أشار إلية الشيخ الأعظم(قده)[3] أيضاً ولكنه أطال في العبارة ، وكان المفروض أن يقول هذا استحقاقٌ تكليفي وذاك استحقاقٌ وضعي ، ونصّ عبارته:- ( لإمكان منع المنافاة بين الوجوب الذي هو طلب الشارع للفعل وبين استحقاق المستأجر له وليس استحقاق الشارع للفعل وتملّكه المنتزع من طلبه من قبيل استحقاق الآدمي وتملّكه الذي ينافي تملّك الغير واستحقاقه ).

وألفت النظر أيضاً إلى قضية جانبية:- وهي أنَّ الدليل الذي ذكره كاشف الغطاء(قده) يختص بما إذا فرض أنَّ المعاملة كانت اجارة ، أما إذا كانت جعالة يعني أنَّ والد الطفل يجعل جعلاً للأم إذا أرضعت الصبي ، فحينئذٍ لا يأتي الاشكال ، لأنَّ الجعالة لا توجب ملكية ولا تحصل ملكية بالعقد ، فهذا يتم فيما إذا كان المورد من الاجارة فإنه في باب الاجارة بمجرّد تحقّق العقد صار كلّ طرفٍ مالكاً فهذا مالك للأجرة وذاك مالك للمنفعة ، يعني حينما تأجرني على الصلاة فبمجرّد إيجاري عليها عن والدك وأنا قبلت فبمجرّد قبولي صرت مالكاً للأجرة وأنت صرت مالكاً للعمل عليِّ سواء أديت الصلاة أو لا ، فلو أخذت المال ولم أؤد العمل ولكني تصرفت بالمال كأن اشتريت به بيتاً فهل هذا التصرّف هو تصرّف في شيء مملوك وهو جائز أو لا ؟ نعم التصرّف صحيح لأنَّ هذا المال مملوك لي بالعقد سواء أديت الصلاة أم لا ، نعم أنا آثم بعدم أداء الصلاة ، وإذا عرف المؤجِّر بأني لم أؤدِّ الصلاة فيتمكن أن يفسخ العقد ، وإذا لم يفسخ العقد فلا يستطيع المطالبة بالمال ، ويلزم أن نلتفت إلى أنه كما أنَّ هذا الأجير استحق المال يستطيع أن يقول له المؤجّر لا أعطيك المال حتى تؤدّي الصلاة ، فصحيحٌ أنك ملكت عليَِّ الأجرة ولكن أنا أيضاً ملكت عليك العمل فأتٍ بالعمل حتى أعطيك المال فتصير مقارنة بين الأداءين.

فالمقصود أنه في باب الاجارة المستأجر يملك هذا العمل بمجرّد الاجارة ، ولكنه في باب الجعالة ليس الأمر كذلك وإنما يملكه بعد ما يؤدي العمل أما من الآن فلا يكون مالكاً.

هكذا أجاب كاشف الغطاء(قده) ، وهو جواب جيّد وواضح.

هذا ولكن قد يشكل على كاشف الغطاء ويقال:- إنّ اجتماع ملكيتين شيءٍ جائز بنحو الطولية بل بنحو العرضية ، ، كما أشار إلى ذلك الحاج ميرزا علي الايرواني(قده)[4] ووافقه على ذلك السيد الخوئي(قده) ، فالقصود أنه بنحو الطولية فهي ثابتة الآن فنحن نملك الأشياء والله تعالى يملكها أيضاً ، فأنا أملك داري وعباءتي وأموالي ولكن الله عزّ وجلّ قبل ذلك هو يملكها ، وملكيتي في طول - فهي متأخّرة عن ملكية الله عزّ وجلّ - ملكية الله عزّ وجلّ ، لأنَّ الله تعالى هو الموجد وهو علّة العلل ، فهو الموجد لجميع هذه الأشياء وهذا ما يعبّر عنه ( حيثية الايجاد بالإضافة الاشراقية ) ، فنقول الله مالك بنحو الاضافة الاشراقية والمقصود منه أنَّ الله تعالى مالك لأنه موجدٌ ، وموجد الشيء يكون مالكاً له بالملكية الذاتية الحقيقة وليس ملكيةً اعتبارية ، فالله تعالى موجدٌ لجميع الأشياء وهو قد ملّكنا هذه الأشياء من الدار والملابس وغيرها فقال إذا حصل عقدٌ صحيحٌ فسوف تصيرون ملاك ولكن بالملكية الاعتبارية ، فإذن اجتماع ملكيتين شيء جائز ، فعباءتي هي مملوكة لله تعالى بنحو الاضافة الاشراقية ومملوكة لي أيضاً د ولا مشكلة.

بل نقول أكثر:- وهو أنه يمكن اجتماعهما بنحو العرضيّة ، كما هو الحال في الأولياء أو الأوصياء أو الوكلاء في الشيء الواحد ، فأنا أعطي شخصاً وكالةً مطلقةً في التصرّف في داري وأعطي الثاني أيضاً وكالةً مطلقةً في التصرّف في داري والفقهاء يقولون إنه يجوز لك أن تجعل وكيلين أو وصيّين ، فإذا كان هذا جائزاً صار هذا الوكيل مالكاً للتصرّف والثاني أيضاً له ملكية التصرّف لأنّ وكالته أو ولايته مطلقة ، فالاثنين مالك للتصرّف ، نعم من يسبق منهم في التصرّف حينئذٍ يكون تصرفه نافذاً ، ولكن كلاهما له ملكية التصرّف.

فإذن يمكن اجتماع ملكيتين بنحو العرضية فضلاً عن كونها بنحو الطولية ، فما ذكره الشيخ الأعظم(قده) من مناقشته لكاشف الغطاء يوحي بأنه لا يقبل اجتماع ملكيتين وضعيتين بنحو الطولية أو بنحو العرضية وإنما الذي يقبله هو أن ثبت استحقاق تكليفي لواحدٍ والثاني استحقاق وضعي أما الاثنين استحقاق وضعي بنحو الطولية أو بنحو العرضية فهو لا يجوز، وهذا إشكال يتسجَّل على كاشف الغطاء وعلى الشيخ الأعظم أيضاً.


[4] الحاشية على المكاسب، الميرزا علي الايرواني، ج1، ص283.