33/06/22


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 22 جمادى الثانية 1433 هـ 133)
 الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التي وقع الكلام في نفوذ الحكم فيها وعدم نفوذه / المورد الثاني : ما إذا حكم الحاكم على أساس ميزان ثم ظهر ميزان سابق عليه في الاعتبار / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 كان الكلام في استعراض الموارد التي وقع الكلام في نفوذ حكم الحاكم فيها وعدم نفوذه وذكرنا المورد الأول وهو العلم بخطأ الحكم واقعاً وقلنا بأن ظاهر الأدلة يقتضي النفوذ مطلقاً على المحكوم عليه وعلى غيره ، وأما المطابقة للواقع فهي غير معتبرة ما دام الحكم كان على طبق الموازين كما هو المفروض في محلّ الكلام .
 ولكن هناك في المقابل من منع من ذلك وقال بأنه في فرض المخالفة للواقع لا يكون حكم الحاكم نافذاً بمعنى أنه يجوز للمحكوم عليه ولغيره ردّه ونقضه بل ترقّى بعضهم إلى القول بوجوب الردّ والنقض واستُدلّ عليه بأن حكم الحاكم إنما يكون معتبراً في حالات الشك وعدم العلم بالخلاف كما هو شأن الأحكام الظاهرية وأما حيث يُعلم بمخالفته للواقع فلا يكون حينئذ معتبراً أصلاً فيجوز ردّه ونقضه وذلك من جهة أن حكم الحاكم مأخوذ على نحو الطريقية إلى الواقع وشأن الأحكام الطريقية أن تكون معتبرة في حالات الشك وعدم العلم وأما في حالة العلم بالخلاف فلا تكون معتبرة ولا مشمولة ًلأدلة النفوذ .
 إن قيل : إنه حيث كان حكم الحاكم على طبق الموازين المنصوبة من قبل الشارع المقدّس كما هو المفروض فيكون من صغريات قوله (عليه السلام) : (إذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فقد استُخف بحكم الله) إذ يصدق على من يحكم وفقاً للموازين المعتبرة من قبلهم (عليهم السلام) أنه حكم بحكمهم.
 فإنه يقال : إنه لمّا كان المقصود من حكمهم هو حكمهم المطابق للواقع وكان حكم الحاكم بحسب الفرض مخالفاً له لم يكن حينئذ حكمهم ولم يكن مشمولاً لمنطوق الرواية الشريفة .
 هكذا قد يُدّعى في المقام ولكنه ممنوع لأنه يبتني على أن حكم الحاكم مأخوذ على نحو الطريقية وأن المقصود بقوله (عليه السلام) : (إذا حكم بحكمنا) هو حكمهم الواقعي فحكم الحاكم الذي يكون موافقاً له هو الذي يكون عدم قبوله استخفافاً بحكم الله والرادّ عليه رادّ عليهم (عليهم السلام) وأما الذي يكون مخالفاً له في ما لو فُرض انكشاف الخلاف فلا يكون حكماً بحكمهم وإن كان على طبق الموازين الظاهرية في باب القضاء ، ولكن هذا المبنى ضعيف فإن الصحيح أن حكم الحاكم الواجد للشرائط الذي يكون على طبق الموازين المقرّرة شرعاً مأخوذ على نحو الموضوعية فلا يؤثّر فيه انكشاف مخالفته للواقع لأن المطابقة للواقع وعدمها غير مأخوذة في اعتباره فلذا يكون نافذاً على جميع الأطراف حتى مع انكشاف الخلاف فهو في الحقيقة في عرض الواقع لا في طوله حتى يكون طريقاً إليه .. هذا هو المفهوم من الأدلة وأن المراد بقولهم : (إذا حكم بحكمنا) ليس هو الحكم النفس الأمري الواقعي بل الحكم الجاري على وفق الموازين المنصوبة من قبلهم (عليهم السلام) في باب القضاء وأما قضية المطابقة للواقع فهي ليست مطلوبة من الحاكم بل ليست مطلوبة من المعصوم (عليه السلام) ولذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : (وإنما أقضي على نحو ما أسمع فمن اقتطعت له قطعة من مال أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار) [1] في إشارة إلى أن حكمه (صلى الله عليه وآله) لمّا كان على وفق البيّنات والأيمان فقد يتّفق كونه مخالفاً للواقع فالمطلوب من الحاكم أن يحكم على طبق الموازين بغضّ النظر عن مدى إصابة حكمه للواقع وعدمها ، وآثار النفوذ من وجوب القبول وحرمة الردّ وغيرهما إنما تترتب على هذا الحكم .
 هذا هو الصحيح وإن كان هناك من يخالف فيه .
 المورد الثاني : ما إذا حكم الحاكم على أساس ميزان ثم ظهر ميزان سابق عليه في الاعتبار بنحو لو كان موجوداً عنده لحكم على طبقه دون ما حكم به أولاً .
 وفرض هذا المورد ما لو حكم الحاكم لصالح المنكر - مثلاً - اعتماداً على يمينه من جهة أن المدّعي لا يملك بيّنة ثم بعد صدور الحكم ظهرت بيّنة للمدّعي ففي هذه الحالة هل يجوز نقض هذا الحكم على أساس ظهور ميزان هو أسبق رتبة على ما اعتمده الحاكم أعني يمين المنكر - أم يكون بالرغم من ذلك نافذاً فلا يجوز نقضه سواء من قبل الحاكم نفسه أو من قبل حاكم آخر ؟
 لا يبعد القول بالنفوذ كما هو المعروف بينهم فلا يجوز للحاكم أو لغيره نقض الحكم الصادر على طبق يمين المنكر والاستناد إلى بينة المدّعي التي ظهرت بعده ، ويُستدل عليه [2] بأمور :
 الأمر الأول : مقبولة عمر بن حنظلة [3] بتقريب دلالتها على نفوذ الحكم الصادر على طبق الموازين ووجوب قبوله وحرمة نقضه ، وهذا الحكم عندما صدر كان بحسب الفرض على طبق الموازين حيث رسم له الشارع المقدّس أنه إذا لم تكن بيّنة فالحكم يكون على طبق يمين المُدّعى عليه وفي المقبولة أنه إذا حكم بحكمنا - وحكمهم هو ما كان على طبق الموازين المقررة من قبلهم (عليهم السلام) - فلم يُقبل منه فإنما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ فتكون شاملة لمثل هذا الحكم ودالة على نفوذه ، وأما تقييد نفوذ هذا الحكم في الرواية بعدم ظهور ميزان آخر بعد صدوره فهو مما يفتقر إلى دليل وهو منفي بالإطلاق فإن مقتضى إطلاق الرواية نفوذ هذا الحكم حتى إذا ظهر ميزان آخر بحيث لو كان موجوداً لكان الحاكم يستند إليه في إصدار حكمه فعمدة الدليل في المقام إذاً هو التمسّك بالإطلاق .
 الأمر الثاني : صحيحة ابن أبي يعفور التي ورد فيها قوله (عليه السلام) : (ذهبت اليمين بحق المدعي فلا دعوى له) [4] بتقريب أن الحاكم حكم على طبق يمين المُدّعى عليه لكون المدّعي ليست له بيّنة ومقتضى الرواية أن اليمين ذهبت بحق المدّعي فلا دعوى له ويُتمسّك بإطلاقها لشمول المورد لتدل على إذهاب اليمين لحقّ المدّعي حتى إذا ظهر ميزان آخر هو أولى من الأول بالاعتماد كما لو جاء ببينة بعد ذلك .
 الأمر الثالث : ما تقدّم مراراً من أن الغرض من تشريع القضاء وإصدار الأحكام إنما هو إنهاء الخصومات وحسم النزاعات وهذا مما ينافيه تعليق مضيّ الحكم على عدم ظهور ميزان آخر فإن معنى هذا أنه لم يُفصل في القضية جزماً وهذا لو جاز لعمّ مطلق القضايا فإنه يمكن افتراض أن كل حكم يتعقّبه ظهور ميزان جديد لو كان موجوداً لحكم الحاكم على طبقه ولم يأخذ بالميزان الأول كما لو فُرض أن المنكر امتلك بعد حكم الحاكم على وفق بيّنة المدّعي ما يقدح في هذه البيّنة فإنه حينئذ يُصار إلى طلب يمين المُدّعى عليه .. فإذاً يمكن القول إنه في غالب الحالات يمكن أن يكون حكم الحاكم معلّقاً على عدم ظهور ميزان آخر ولا يكون فاصلاً في القضية ومنهياً للخصومة والنزاع وهذا مما ينافي الغرض من تشريع القضاء .
 فإذاً يمكن الاستناد إلى هذه الأدلة لإثبات ما هو المختار والمعروف بينهم من نفوذ حكم الحاكم حتى في حالات العلم بالخطأ .
 نعم .. هناك حالة تُستثنى من الحكم بالنفوذ وهي ما إذا كان المحكوم عليه غائباً وحكم الحاكم اعتماداً على ميزان من موازين القضاء كما لو فُرض غياب المدّعى عليه وقد أقام المدّعي بينة على دعواه واعتمد الحاكم على هذه البيّنة وحكم لصالحه فإنه إذا حضر المُدّعى عليه وجاء بما ينقض بينة المدّعي - كما لو أقام بينة على كذب بينة المدّعي وعدم صلاحيتها للاستناد إليها - ففي هذه الحالة لا يكون حكم الحاكم نافذاً وكان نقضه جائزاً .
 والدليل على هذا الاستثناء هو النصّ الخاص كما تقدّم في بحث سابق وهو مرسل جميل بن درّاج عن جماعة من أصحابنا عنهما (عليهما السلام) : " قالا : الغائب يُقضى عليه إذا قامت عليه البينة ويُباع ماله ويُقضى عنه دينه وهو غائب ويكون الغائب على حجته إذا قدم ، قال : ولا يُدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء " [5] فيجوز للحاكم طبقاً لهذا النصّ أن يحكم على الغائب ولكن يبقى الغائب على حجته بمعنى أنه إذا جاء بحجة أقوى من حجة الحاضر الذي حُكم له فتقدّم حجته الأقوى فيكون هذا نقضاً للحكم السابق ويكون الحكم في هذه الحالة متوقفاً على عدم مجيء الغائب بحجة أقوى من حجة الحاضر .
 هذا من حيث دلالة الرواية ، وأما من حيث سندها فقد مرّ في بحث سابق الكلام عليه وخلصنا إلى القول بصحته لكن بالطريق الثاني الذي يذكره الشيخ الطوسي (قده) حيث إنه ينقل هذه الرواية بثلاثة طرق - فإنه لا مشكلة فيه سوى الإرسال من جهة جميل وقد تمّ تجاوز هذه المشكلة باعتبار أن جميلاً يرسلها عن جماعة من أصحابنا ومن غير المحتمل أن يكون كل هؤلاء الجماعة التي ينقل عنهم من غير الثقاة ولا أقل من أن يكون واحد منهم من الثقاة فإنه إذا لوحظت نسبة الثقاة من مشايخ جميل إلى غير الثقاة منهم فبحسب حساب الاحتمالات يُطمأن بأن واحداً منهم على الأقل ثقة .
 المورد الثالث : ما إذا كان حكم الحاكم مستنداً إلى علمه الخاص .
 وقد وقع الخلاف في جواز نقضه بناءً على أن إحدى طرق الإثبات هو حكم الحاكم مطلقاً أو بالقيود المتقدّمة ففي هذه الحالة هل يجوز للمحكوم عليه أن يرفع القضية إلى حاكم آخر ليس لديه علم خاص وهل يجوز له أن ينقض حكم الحاكم الأول الذي استند إلى علمه الشخصي ؟
 هذا ما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .


[1] معاني الأخبار للصدوق ص279 .
[2] أي على نفوذ حكم الحاكم في هذا المورد .
[3] الكافي مج1 ص67 .
[4] الكافي مج7 ص417 .
[5] التهذيب مج6 ص296 ، الوسائل مج27 ص294 .