33/04/03


تحمیل
 (بحث يوم الأحد 3 ربيع الثاني 1433 ه 83)
 كان الكلام في ذكر أحوال المدين المقرّ بالدين وتقدم ذكر حالتين أولاهما ما لو عُلم بواجديته للمال وثانيهما ما لو عُلم إعساره :
 الحالة الثالثة : وهي ما لو لم يُعلم حال المدين المقرّ بالدين من حيث إعساره أو واجديته للمال فهنا يقال إنه لمّا كان من الواضح أن دعواه الإعسار بمجرّدها لا تُقبل منه فكان من اللازم الفحص عن حاله ليتبيّن كونه معسراً أو واجداً للمال ليلحقه الحكم الخاص بحالته ولكن وقع الكلام في أنه في مدّة الفحص هل يجوز حبسه ولو لأجل أنه قد يكون في الواقع موسراً فيتمكّن لو كان مُخلّى السبيل من أن يتصرّف في أمواله تصرّفات يُلحق نفسه بها بالمعسِر بخلاف ما لو حُبس فإنه لا يتمكن من ذلك أم لا يجوز ذلك [1] بل على الحاكم أن يتبيّن حاله بطرقه الخاصة ؟
 ومن الواضح أن هذه المسألة إنما تُطرح عند عدم وجود بيّنة تشهد بصدق دعوى المدين بالإعسار وأما مع وجودها فيدخل الكلام في الحالة الثانية وهي ما لو عُلم كون المدين معسِراً - كما صرّح بذلك فقهاؤنا (رض) كالمحقق صاحب الشرايع من المتقدمين والشيخ صاحب الجواهر (قده) من المتأخّرين .
 والكلام هنا يقع في جهتين :
 الأولى : في جواز الحبس وعدمه .
 الثانية : في بيان الحكم المترتّب في ما لو لم يتبيّن حال المدين بعد الفحص .
 أما الجهة الثانية فنوكل الكلام حولها إلى البحوث الآتية التي تتكفّل ببيان كيفية تطبيق قوانين باب القضاء على المدين الذي لم يتبيّن حاله بعد الفحص .
 وأما الجهة الأولى فالكلام فيها يقع في مقامين :
 الأول : في إقامة الدليل على جواز الحبس الاستظهاري .
 الثاني : في ذكر الأقوال في الحبس في مدة الفحص [2] .
 أما المقام الأول : فيمكن أن يُستدلّ على الجواز بالروايات المتقدمة كرواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) : " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء .. " ، ومعتبرة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) : " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين فان تبيّن له إفلاس وحاجة .. " فإنهما ظاهرتان في جواز الحبس لأجل الفحص والاستعلام وأن ذلك من وظائف الحاكم تمهيداً لحكمه .
 وأما المقام الثاني : فالأقوال في محلّ الكلام ثلاثة :
 الأول : الحبس مطلقاً [3] .
 الثاني : عدم الحبس مطلقاً [4] .
 الثالث : التفصيل بين ما إذا علمنا بأن حالته السابقة هي كونه واجداً للمال ونشكّ الآن في بقائها وما إذا لم يكن ثمة علم بحالته السابقة فيجوز حبسه في الشقّ الأول سواء ادّعى الإعسار أو سكت ولم يدّع شيئاً بخلاف الشقّ الثاني فإنه يُخلّى سبيله في مدّة الفحص ولا يُحبس .
 وهذا القول هو مختار المحقق صاحب الشرايع وذكره في كتاب المفلّس .
 أما القول الأول - وهو الحبس مطلقاً : فقد استُدلّ له بإطلاق قوله (عليه السلام) في معتبرة غياث بن إبراهيم : " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين فان تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً " فإنه شامل بإطلاقه لما إذا عُلم بكونه واجداً للمال سابقاً وشُكّ في بقائه فحُكم حينئذ بحبسه إلى أن يتبيّن حاله فضلاً عمّا إذا لم يُعلم حاله سابقاً .
 ولكن يمكن المنع من وجود إطلاق لهذه الرواية بتقريب أنها تتضمّن حكاية فعل خارجي ومن الواضح أنه مما لا إطلاق له ليُتمسّك به في إثبات القول الأول كما رامه المستدلّ .
 ولكن هذا الكلام مخدوش وذلك من جهة أن الرواية ليست مسوقة على أنها قضية خاصة تعالج حالة جزئية بل هي مسوقة على أنها قضية كلية تبيّن حكم حالة عامة من جهة أنها تحكي سيرة الإمام (عليه السلام) في كيفية تعامله في قضايا الدين فيُتمسّك بإطلاقها لإثبات الحبس مطلقاً من جهة ترك الاستفصال إذ لو كان الحكم بالحبس مختصّاً بما لو لم يُعلم حال المدين سابقاً لاقتضى ذلك من الإمام (عليه السلام) أن يُبيّن الاختصاص دفعاً لتوهّم العموم فلمّا لم يفعل كشف ذلك عن كون الحكم مطلقاً .
 واستدل للقول الثاني - وهو عدم الحبس مطلقاً : بأن موضوع الحبس الثابت في الأدلة [5] إنما هو الواجد للمال الممتنع عن أداء الدين فإذا أُحرز الموضوع ترتّب الحكم عليه مباشرة ، وأما إذا لم يُحرز كما في محلّ الكلام حيث لا يُعلم بحال المدين فلا يمكن الالتزام بترتّب الحكم حتى في ما لو عُلم بكونه واجداً للمال سابقاً [6] .
 ولكن هذا الكلام مندفع فإنه وإن سلّمنا بوجود أدلة دلّت على أن موضوع جواز الحبس هو الواجد الممتنع - كما ذُكر إلا أن هذا لا يمنع من وجود ما يدلّ على أن مجهول الحال يجوز حبسه حبساً استظهارياً كمعتبرة غياث بن إبراهيم المتقدّمة ونحوها فيكون الاستناد إليها في إثبات ما نحن فيه وعلى ذلك فيكون موضوع جواز الحبس هو الأعم من الواجد الممتنع ومن مجهول الحال .
 وأما القول الثالث - وهو التفصيل بين العلم بالحالة السابقة من كونه واجداً للمال وعدم العلم بها - : فاستُدلّ له بأن الأصل في الصورة الأولى أي في ما إذا عُلم بوجود مال سابق له ثم شُكّ في بقائه عنده - يقتضي استصحاب بقاء المال وحينئذ يُحبس حتى يثبت إعساره بخلاف الصورة الثانية حيث لا أصل يقتضي بقاء المال فلا يُحبس فالفرق بين الصورتين في وجود أصل في الأولى يقتضي بقاء المال فيُحرز به موضوع الحكم تعبداً وعدم وجوده في الثانية بل قد يقال إنه في هذه الصورة الثانية يوجد أصل أيضاً ولكنه يقتضي استصحاب عدم واجدية المدين للمال ولو كان هو استصحاب العدم الأزلي الثابت قبل وجود المدين نفسه .
 ويرد على هذا الاستدلال :
 أولاً : أن النوبة لا تصل إلى التمسّك بالأصل مع وجود الدليل اللفظي الذي يدلّ على أن مجهول الحال يُحبس حبساً استظهارياً وهي كما عرفت - معتبرة غياث بن إبراهيم التي ذُكرت دليلاً على القول الأول وقد تبيّن أنها مطلقة تشمل كلتا صورتي هذا القول .
 وثانياً : إن ما ذُكر من وجود أصل يقتضي استصحاب عدم كون المدين واجداً للمال - ولو كان هو استصحاب العدم الأزلي الثابت قبل وجود المدين نفسه وإرادة إثبات إعسار المدين بذلك (بناءً على كون الإعسار الذي هو موضوع للإنظار من المعاني الوجودية) غير نافع إلا على القول بحجية الأصل المثبت .
 هذا تمام الكلام في هذه الجهة وقد ذكرنا أن الجهة الثانية نوكل الكلام حولها إلى البحوث الآتية التي تتكفّل ببيان كيفية تطبيق قوانين باب القضاء على المدين الذي لم يتبيّن حاله بعد الفحص .


[1] أي أن يُحبس حبساً استظهارياً .
[2] أي بعد فرض ثبوت جواز الحبس .
[3] هذا الإطلاق في هذا القول والقول الثاني هو في مقابل التفصيل المذكور في القول الثالث .
[4] أي يُطلق سراحه في مدة الفحص والاستعلام عن حاله .
[5] كما في موثّقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " إن علياً (عليه السلام) كان يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه .. " ، ورواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) : " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين ثم ينظر .. " ، ورواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : " أنه قضى .. في الدين أنه يحبس صاحبه .. " التهذيب مج6 ص191 و300 و 232 .
[6] أقول : لا يخفى ضعف هذا الاستدلال وذلك لأنه في حالة العلم بكونه واجداً للمال سابقاً والشك في بقائه كذلك الآن يكون مجرى للاستصحاب فيُحرَز أحد جزئي الموضوع تعبّداً (وهو كونه واجداً للمال) ويُحرز الجزء الآخر بالوجدان (وهو كونه ممتنعاً عن الأداء) فيلتئم الموضوع بضمّ الوجدان إلى الأصل فيترتّب الحكم حينئذ وهو الحبس فلا ينفع هذا الاستدلال في إثبات القول بعدم الحبس مطلقاً اللهم إلا إذا مُنع من كفاية الإحراز التعبّدي في إثبات موضوع الحكم وقيل بأن اللازم إحرازه بالعلم أو الاطمئنان .. على أنه وكما ذكر سماحة شيخنا الأستاذ في مقام الردّ على ما استُدلّ به للقول الثالث - لا تصل النوبة إلى التمسّك بالأصل العملي مع وجود الدليل اللفظي القاضي بالحبس مطلقاً ... ولكن كان من المناسب هنا التطرّق إلى الردّ على الاستدلال لهذا القول (الثاني) بما ذكرناه من حديث جريان الاستصحاب .