33/03/28


تحمیل
  (بحث يوم الثلاثاء 28 ربيع الأول 1433 هـ 80)
 كان الكلام في البحث السابق عمّا إذا كان المدين المقرّ بالدين واجداً للمال وقد تمّ الكلام فيه ، ولا بأس أن ننبّه على أن هناك فروعاً أخرى لها نحو ارتباط بهذا البحث لم نتعرّض لها لكونها مما يُبحث مستقلّاً في محلّ آخر [1] .
 الحالة الثانية : ما إذا كان المقرّ معسراً وقد ثبت إعساره لدى الحاكم .
 والحكم فيه ما تكفّلت ببيانه الآية الشريفة من إنظاره إلى حين تيسّر حاله بقوله تعالى : " فنظرة إلى ميسرة " [2] وما هو بمضمونها من الروايات ، والمراد بإنظار المدين ترك مطالبته بالدين وعدم جواز حبسه ، وبعبارة أخرى إعطاؤه مهلة إلى حين حصول التمكّن المالي والقدرة له على وفاء الدين .
 وقد وقع البحث هاهنا في أنه هل يُلزَم المدين بالتكسّب لاستحصال المال الوافي بأداء الدين أم أن اللازم عليه الوفاء بالدين على تقدير حصول المال لديه دون ما يزيد على ذلك بعد الاتّفاق على عدم جواز مطالبته بالدين فعلاً ما دام معسراً فضلاً عن حبسه ؟
 أقوال في المسألة ، وعمدتها ما يأتي :
 القول الأول : ما نُسب إلى المشهور من عدم وجوب التكسّب بل اللازم على الحاكم إذا ثبت عنده الإعسار أن يُمهله حتى يحصل له مال ولا يجوز له أن يُلزمه بتحصيله كما لا يجوز له أو للدائن التصرّف بالمدين نفسه بمؤاجرته للغير وأخذ الأجرة وفاء للدين أو تسخيره في مطلق الأعمال لقاء الدين .
 ويترتب على ذلك أنه لا يجب على المدين قبول الهدية للوفاء بالدين ولا العمل بالاصطياد أو الاحتشاش أو الاحتطاب على ما مثّلوا به - ، كما لا يجب على المرأة لو كانت مدينة أن تتزوج لتدفع المهر وفاء لدينها ، ولا على الرجل أن يُطلّق زوجته طلاقاً خلعياً [3] ليدفع ما تبذله له وفاءً لدينه بل المنقول عن بعضهم إرسال عدم وجوب التكسّب إرسال المسلّمات .
 القول الثاني : ما اختاره جماعة من فقهائنا (رض) كالحلبي في الكافي من وجوب التكسّب على المدين وجواز إلزامه به مع كونه متمكّناً منه [4] سواء كان ذا حرفة أو لم يكن إلا إذا كان حرجيّاً عليه أو كان غير لائق بشأنه .
 القول الثالث : ما نُسب إلى الشيخ (قده) في النهاية [5] من جواز أن يُدفع المدين نفسه إلى غرمائه ليؤاجروه للغير أو يستعملوه لأنفسهم فضلاً عن جواز إلزامه بالتكسّب .
 هذه هي عمدة الأقوال في المسألة والذي ينبغي أن يُذكر أولاً قبل استعراض أدلتها هو بيان نكتة هذا النزاع والخلاف وهي تكمن في أن أداء الدين هل هو واجب مطلق من ناحية القدرة والتمكّن المالي أو هو واجب مشروط [6]
  [8] فعلى الأول [9] يتفرّع القولان الثاني والثالث - بقطع النظر عن الاختلاف بينهما - فإنهما مبنيان على لزوم تحقيق ما يتوقف عليه أداء الدين من التكسّب أو المؤاجرة للغير أو الاستعمال للنفس فهو على حدّ السفر بالنسبة إلى حج المستطيع أو تحصيل الطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وعلى الثاني [10] يتفرّع القول الأول فإنه مبني على عدم لزوم تحصيل ما يتوقف عليه الوجوب فلا يلزم على المدين التكسّب لأجل أداء الدين وإنما هو رهن بحصول القدرة المالية ولو اتّفاقاً - .
 فأقول : إن ما يُعيّن كون الواجب مطلقاً أو مشروطاً في حالة الشك أحد أمور مترتّبة طولاً :
 الأول : نصُّ الدليل الخاص على كون الواجب مطلقاً أو مشروطاً بالخصوص .
 الثاني : مقتضى الأصل اللفظي العام .
 الثالث : مقتضى الأصل العملي .
 ومع قطع النظر عن الأمر الأول - أعني الدليل الخاص الذي يُعيّن أحد النوعين بالخصوص - فالذي يقال هنا إن مقتضى إطلاق أدلة وجوب أداء الدين أن أداء الدين واجب مطلق من ناحية القدرة المالية وليس مشروطاً بها فإن الاشتراط في الحقيقة يحتاج إلى دليل خاص يتضمّن كون الواجب مشروطاً من جهة القيد المطروح فلو فُرض عدم توفّره في المقام فنبقى نحن وأدلة وجوب أداء الدين ومقتضى إطلاقها كون الوجوب غير مقيَّد بذلك القيد ومعنى هذا كونه مطلقاً من جهته .
 وهذا البيان إن تمّ فهو وإلا فتصل النوبة إلى الأمر الثالث وهو التمسّك بالأصل العملي الجاري في المورد ولا ريب أن مقتضاه كون الواجب مطلقاً إذ الأصل عدم التقييد .
 فالنتيجة أن الأصل مطلقاً لفظياً كان أو عملياً يقتضي إطلاق الواجب والقول بكونه مشروطاً رهن بالدليل .
 وأما بالنظر إلى الأدلة الخاصة التي عليها المعوّل مع توفّرها [11] فينبغي استعراضها بالنسبة إلى كل قول من الأقوال المتقدّمة :
 فأما ما ذُكر بالنسبة إلى القول الأول وهو ما نُسب إلى المشهور من عدم وجوب التكسّب لكون الواجب في ما نحن فيه من قبيل الواجب المشروط الذي لا يلزم تحصيل مقدمات وجوبه فقد استُدلّ له :
 أولاً : ما أُشير إليه في كلماتهم كالجواهر وغيرها من التمسك بالأصل فإنه يقتضي عدم وجوب التكسب ، والظاهر أن المقصود بالأصل هنا ما يكون من قبيل أصالة البراءة عند الشك في الوجوب [12] .
 ولكن أُشكل عليه بأن من الواضح أن هذا الأصل لا يمكن الالتزام به في محل الكلام وذلك من جهة أن الشك في وجوب التكسب الذي هو مجرى لأصالة البراءة مسبَّب عن الشك في إطلاق الوجوب واشتراطه فإنه إذا كان أداء الدين واجباً مشروطاً فلا يجب التكسب كما يقول المشهور ، وإذا كان واجباً مطلقاً فيجب حينئذ التكسب [13] ، والأصل الجاري في السبب حاكم على الأصل الجاري في المسبَّب ورافع في الحقيقة لموضوعه وهو الشك ، وقد تقدّم أن الأصل اللفظي بل والعملي أيضاً - في المقام وهو إطلاق أدلة وجوب أداء الدين يقتضي كون الواجب مطلقاً بالإضافة إلى القدرة المالية وهذا معناه لزوم تحصيل ما يتوقف عليه من المقدمات ومنها التكسب فيكون التكسّب واجباً على المدين ويجوز إلزامه به ، وبذلك يكون كل من الأصلين حاكماً على أصالة البراءة التي استُدلّ بها لهذا القول فيرفعان موضوعها - وهو الشك في كون التكسب واجباً - حيث ثبت في مرتبة متقدمة أن هذا الواجب هو واجب مطلق وأن التكسب من المقدمات الوجودية التي يجب على المكلّف تحصيلها .. وعلى ذلك فلا يتم هذا الدليل لإثبات هذا القول .
 ثانياً : قوله تعالى : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " .
 وتقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة أن المقصود بها لزوم إنظار المعسر إلى حين حصول ميسرة فتدلّ على أن الإنظار ثابت للمعسر ما دام معسراً فلا يجب التكسّب عليه .
 ولكن أجيب عليه :
 أولاً : إن غاية ما تدل عليه الآية الشريفة هو الإنظار حال العسر بمعنى عدم مطالبته بالدين في هذا الحال - فضلاً عن عدم جواز سجنه - ولزوم إمهاله إلى حين اليسر وهذا لا ينافي وجوب التكسب عليه إذ ليس في الآية الشريفة ما يشير إلى عدم وجوب التكسب لتكون دليلاً للمشهور بل مفادها يجتمع مع وجوب التكسب إذ لا مانع من إعطائه المهلة وعدم مطالبته بالدين في حال العسر ولكن في الوقت نفسه يُلزَم بالتكسب من جهة كونه مقدمة للوفاء بالدين الواجب عليه .
 وثانياً : إن الآية الشريفة لا تشمل محلّ الكلام أصلاً وذلك من جهة أن المدين إذا كان قادراً على التكسب - كما هو المفروض فلا ينطبق عليه عنوان المعسر الذي هو موضوع الآية المباركة وإنما المعسر من لا يكون واجداً للمال فعلاً ولا قادراً على تحصيله بالأسباب المشروعة كالتكسّب ، وأما إذا كان قادراً على ذلك فليس هو بمعسر وإن لم يكن واجداً للمال فعلاً بل إن مثل هذا يُعدّ غنياً في الحقيقة ولذا حكموا في باب الزكاة بعدم جواز إعطائها لمن كان متمكّناً من الكسب لعدم كونه والحال هذه فقيراً بل هو غني بالقوة فالآية الشريفة حتى لو سُلّمت دلالتها على عدم لزوم التكسب إلا أن محلّ الكلام خارج عن موضوعها تخصّصاً فإن موضوعها المعسر وما نحن فيه لا يدخل تحت هذا العنوان وإنما الداخل تحته من لا يملك المال بالفعل وليس لديه المقدرة على التكسب وأما مع وجود أحدهما فلا ينطبق عليه موضوع الآية حينئذ .
 وعليه فلا يصح الاستدلال بالآية الشريفة في محلّ الكلام .


[1] يُلاحظ بشأنها كتاب المفلّس .
[2] البقرة / 280 .
[3] أي في ما لو فُرض توفّر شروط هذا النوع من الطلاق - طبعاً فهاهنا لا يُلزَم بالطلاق لاستيفاء الدين من مال البذل .
[4] أي من التكسّب .
[5] على تشكيك في صحة هذه النسبة لأن بعض المحققين (وهو صاحب مفتاح الكرامة على ما يخطر في البال) ذكر أنه راجع النهاية فلم يجد فيها هذا الكلام . (منه دامت بركاته)
[6] ولا بأس في بيان الفرق بين هذين الواجبين إجمالاً لتوقف فهم ما نحن فيه على ذلك ، فأقول :
[7] إنه قد ذُكر في محلّه من علم الأصول أن الواجب إذا نُسِب وجوبه إلى شيء فتارة يكون مشروطاً به ومتوقّفاً على تحقّقه فهو الواجب المشروط وأخرى يكون غير مشروط به ولا متوقّفاً على تحقّقه فهو الواجب المطلق فالحج - مثلاً بالنسبة إلى الاستطاعة واجب مشروط لأن وجوبه متوقّف على تحقّقها فلا وجوب أصلاً من غير حصولها ، وبالنسبة إلى السفر إلى الديار المقدّسة واجب مطلق لأن وجوبه غير متوقّف على تحقّقه .
[8] والثمرة العملية للفرق بين هذين الواجبين هي أنه في الواجبات المشروطة لا يجب على المكلّف السعي لتحصيل الشرط فهو غير ملزم بالسعي لتحقيق الاستطاعة - مثلاً - بل إذا حصلت لدى شخص - ولو اتّفاقاً - ترتّب على ذلك صيرورة الحج واجباً عليه وفعلياً بحقّه ، ويُسمّى هذا الشرط بشرط الوجوب أو مقدمة الوجوب ، وهذا بخلاف الواجبات المطلقة فإنها مما يجب على المكلّف تحصيلها فلذا يلزم عليه السفر إلى الديار المقدّسة لتوقف أداء الحج عليه بل يلزم عليه تهيئة ما يكون من مقدمات ذلك كاستخراج جواز السفر - مثلاً - ، ويُسمّى هذا الشرط بشرط الواجب أو مقدمة الواجب . (منه دامت بركاته)
[9] أي كونه واجباً مطلقاً .
[10] أي كونه واجباً مشروطاً .
[11] ومهما كانت نتيجة الأدلة الخاصة فهي لا تنافي ما ذكرناه من أن نتيجة الأصل اللفظي والعملي تقتضي الإطلاق وذلك لكونهما متأخّرين مرتبة عنها ولا يصار إليهما إلا بعد فقدها . (منه دامت بركاته)
[12] الذي مرجعه إلى الشك في التكليف وهو مجرى للبراءة .
[13] الذي هو مقدمة لأداء الدين الواجب .