38/01/16


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/01/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 24 ) النجش - المكاسب المحرمة.

هذا كله بلحاظ المعنى الأوّل للنجش وهو أن يزيد شخص في الثمن حتى يشتريه الآخرون بهذه الزيادة والمفروض أنّ الناجش لا يشتريه بهذه الزيادة لكنه يزيد حتى يشتريه الآخرون بهذه الزيادة.

وأما بالمعنى الثاني:- أعني مدح السلعة لتُشتَرى أو ذمّها حتى لا تُشتَرى فهل هذا جائز بمقتضى القاعدة بقطع النظر عن الروايات أو ليس بجائز ؟

الجواب:- إذا فرض أنّ المدح كان حقاً يعني أنّ الأوصاف التي ذكرها كانت موجودة حقاً أو كانت ذمّاً حقاً فهذا لا بأس به ولا محذور فيه وقد جرت السيرة على ذلك ، فهذا حقٌٌّ ولا ينطبق عليه عنوان الكذب ولا عنوان آخر ، وأما إذا فرض أنه لم يكن مطابقاً للواقع فهذا يكون حراماً من باب أنه كذب.

فإذن الحكم بلحاظ المعنى الثاني واضح ، فعلى أحد التقديرين إن كان حقاً فهذا جائز ، وإن لم يكن حقّاً فهذا محرّم لانطباق عنوان الكذب عليه.

فإذن اتضح أنّ المشكلة هي بلحاظ المعنى الأوّل ، أما المعنى الثاني فلا ينبغي أن يقع في ذلك خلاف.

هذا كلّه بلحاظ مقتضى القاعدة.

الكلام بلحاظ الروايات:-

وأما بلحاظ الروايات وكلمات الفقهاء:-

فقد ذكر صاحب الجواهر(قده)[1] أنّ المشهور ذهب إلى الحرمة - أي بالمعنى الأوّل فالمعروف هو المعنى الأوّل - ، بل ادعى بعضٌ الاجماع - فهو لم يدّعِ الاجماع بل حكاه عن بعضٍ -.

وأما بلحاظ الروايات:- فتوجد روايتان في الباب:-

الرواية الأولى:- ما رواه الشيخ الكليني(قده) في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن سنان عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليه السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله:- الواشمة والمتوشمة والناجش والمنجوش ملعونون على لسان محمد )[2] .

والعدّة قلنا مراراً لا موجب للتوقّف فيها ، وأحمد بن أبي عبد الله هو أحمد بن محمد بن خالد البرقي وهذا واضح ، وعبد الله بن سنان هو من أجلة أصحابنا وإن كان يذكر في ترجمته أنه كان خازناً للمهدي والمنصور وهارون ولكن مع ذلك التوثيق لهذا الرجل عالياً وعنده روايات كثيرة ، والمشكلة في محمد بن سنان وهو على المبنى.

الرواية الثانية:- معاني الأخبار عن محمد بن هارون الزنجاني عن علي بن عبد العزيز عن القاسم بن سلام بإسناد متصل إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:- ( لا تناجشوا ولا تدابروا )[3] ، وما معنى ( لا تناجشوا ولا تدابروا ) ؟ قال الحرّ في ذيل الحديث:- ( معناه أن يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها ليسمعه غيره فيزيد بزيادته والناجش خائن ، والتدابر الهجران ).

أما الرواية الأولى:- فسندها كما اتضح أنه على المبنى ، فمن يبني على أنّ محمد بن سنان لا مشكلة فيه ولو لأجل رواية الأعاظم عنه كما نميل نحن إلى ذلك فلا مشكلة في السند.

إنما المشكلة في الدلالة:- لأنّ التعبير الوارد هو ( ملعونون على لسان محمد ) ، وقد تقدّم أكثر من مرّة أن اللعن قد يتوقّف في استفادة الحرمة منه ، طبيعي يوجد بعض استفاد الحرمة وجرى على ذلك في سائر الموارد ولعلّ هذا المورد منها ، ولكن نحن من المتوقفين والمتردّدين.

هذا مضافاً إلى أنّ اللعن لو قلنا بدلالته على التحريم فيختص باللعن الانشائي دون اللعن الإخباري وهذا المطلب ذكرناه في كلمة ( نهى النبي ) ، ًفتارة النبي صلى الله عليه وآله ينهى فهذا نهي إنشائي فيقول مثلاً ( أنهاكم عن النجش ) فهنا قد قرأنا في الأصول أنّ مادّة النهي تدلّ على الحرمة ، ومرّة يكون النهي إخبارياًً كقول الامام الصادق عليه السلام ( نهى النبي عن النجش ) فهنا النهي إخباري وقد قلنا إنّ النهي الإخباري يمكن التوقّف في استفادة التحريم منه ، ونفس الشيء نقوله في اللعن فمرّة يكون اللعن إنشائياً كما لو فرض أنّ النبي صلى الله عليه وآله ( لعن الله النجش ) فهو ينشئ اللعن ، ومرّة يكون اللعن إخبارياً يعني ينقل عنه أنه قد صدر منه اللعن كما هو الحال في مقامنا فإنّ الامام الصادق عليه السلام قال ( ملعونون على لسان محمد ) يعني الامام الصادق ينقل عن النبي أنه قد لعنهم وهذا اللعن لعنٌ إخباري واللعن الإخباري - طبعاً الصياغة صحيح أنّ الامام قال هذا لكن حينما قال ملعونون على لسان محمد فلابد وأن يكون هذا اللعن إخباري - ، فإذا صار اللعن إخبارياً فيتوقّف في دلالته على التحريم لاحتمال أنه حينما صدر فقد صدر وهو محفوف بقرائن تدلّ على التنزّه ويصدق آنذاك أنهم ملعونون على لسان النبي ، فهنا النقل من هذه الناحية لا يمكن استفادة التحريم منه لأنه يتلاءم مع الاثنين معاً ، يتلاءم مع صدور اللعن من دون قرينة على التنزّه ، ويتلاءم أيضاً مع القرينة على التنزّه فبالتالي يصدق أنهم ملعونون ويصح هذا النقل ولا مشكلة ، ولذلك اللعن الإخباري كالنهي الإخباري لا يمكن أن يستفاد منه التحريم لنفس النكتة ، فاستفادة التحريم يكون مشكلاً من ناحيتين.

وأما الرواية الثانية:- فهي محلّ إشكال من حيث السند لا فقط من ناحية محمد بن هارون الزنجاني وعليّ بن عبد العزيز.. بل من ناحية ثانية حيث قال ( بإسناد متّصل إلى النبي ) ونحن لا نعرف ذلك الاسناد المتّصل ما هو ، اللهم إلا أن يبحث ويتّضح المقصود من ذلك الاسناد المتّصل .

ولكني وأنا جالس هنا أقول:- إنّه حتى لو بحثنا فقد نبحث ونعثر على السند لأنه الصدوق ينقل الأسناد ولعله ذكره في مورد من موارد كتبه ، ولكنه مع ذلك أنا مطمئن أنه حتى لو كان الاسناد يصل إلى النبي صلى الله عليه وآله فهذا الاسناد بما أنه لا يمرّ بأهل البيت عليهم السلام فعادةً هو ضعيف ،فإنه يوجد اطمئنان بضعفة ، فمن أين تجد إسناداً لا يمرّ بأهل ابليت عليهم السلام ويكون السند صحيحاً ؟!! فإنّ هذا لا يوجد عادةً ، ولذلك صار معروفا أنّ الروايات النبوية لا اعتبار بها ، حيث اتضح أن النكتة هي أنه عادةً يوجد أشخاص مجهولون في السند أو غير ذلك.

فهي من حيث السند هي محلّ إشكال.

تبقى من حيث الدلالة:- فإنّ الوارد فيها ( لا تناجشوا ولا تدابروا ) فالوارد هو تناجشوا ولم يرد لفظ لا تنجشوا وفرقٌ بينهما ، فتارةً يكون اللفظ بلسان لا تنجشوا أي أنت لا تنجش وأنت الثاني لا تنجش ..... وهكذا ، فهذا نهيٌ ولا بأس أن نستفيد منه التحريم ، لكن حينما قال لا تناجشوا فهذا يصير من باب التفاعل مثل لا تدابروا الوارد بعدها فلا تدابرا المقصود منه أنك أنت تهجر وهذا الثاني يهجر فهنا يحتمل أن يكون المقصود من تناجشوا هذا المعنى ، يعني لا أنه مرّة البائع ينجش للمشتري ومرّة المشتري ينجش للآخر فأحدهما ينجش في معاملة للآخر فهذا ينفع ذاك وذاك ينفع هذا كلٌّ يعمل لصاحبه ، فيحتمل أن يكون المقصود من التناجش هو هذا المعنى ، فأقصى ما يثبت بذلك حرمة هذا وهو الاتفاقية على أني أساعدك وتساعدني بهذا المعنى ، أما لو فرضنا أنه حصل النجش من طرف واحدٍ وليس من طرفين فلا يستفاد من ذلك التحريم ونحن كلامنا إذا فرض أنه كان من طرفٍ واحد لا أنه من طرفين ، فإذن الرواية يوجد قصور في دلالتها من هذه الناحية.

إن قلت:- إنَّ الشيخ الأصفهاني(قده) أو غيره قال إنّ مادّة التفاعل لا تدلّ على الاثنينية فلنقل هنا أيضاًً كذلك على أنها لا تدل على الاثنينية وإنما المقصود من لا تناجشوا يعني أنت لا تفعل النجش مرّة وأنت أيها الثاني لا تفعل النجش مرّة وأنت أيها الثالث لا تفعل النجش مرّة .... وهكذا فبهذا الاعتبار قيل لا تناجشوا ، فهو بمعنى لا تناجشوا ، ونفس الشي لا تدابروا أيضاً نفسّره كذلك ، يعني بتعبيرٍ آخر أنت لا تدبر عن صاحبك يوماً وذاك الثاني لا يدبر والثالث لا يدبر .... وهكذا فيصير بمعنى لا تدبروا ، فنفسّرها بهذا المعنى.

قلت:- سلّمنا أنّ هذا وجيه ولكنه بالتالي لا يعدو الاحتمال ، فهذا احتمال وذاك الاحتمال فصارت الرواية على هذا الأساس مجملة لا يمكن التمسّك بها ، فنحن يكفينا إبراز الاحتمال أنّ المقصود من تناجشوا يعني هذا ينجش لصاحبه وذاك أيضاً ينجش لصاحبه فمن المحتمل أنّ هذا هو المقصود فلا تنفعنا الرواية ، فإذن الرواية قابلة للتأمل سنداً ودلالة.

بيد أن الشيخ الاعظم(قده)[4] :- ذكر أنّ ضعف الروايتين منجبرٌ بالإجماع المنقول عن جامع المقاصد والمنتهى.

وعلّق السيد الخوئي(قده) قائلاً:- ( إنّ ضمّ غير الحجة إلى غير الحجة لا ينتج الحجة )[5] ، يعني يريد أن يقول إنَّ الاجماع منقولٌ من قبل العلامة والاجماع المنقول لم تثبت حجيته ، نعم الاجماع المحصّل قد نسلّم بحجيته أما الاجماع المنقول فحجيته أوّل الكلام ، فهو لا يبني على حجّيته ، فهذا الاجماع ليس بحجّة والرواية هي أيضاً ليست بحجّة لأنّ سندها ضعيف - لأنّ سند الروايتين فيها محمد بن سنان وهو لا يبني على وثاقته - ، فإذن سند الروايتين ضعيف فضمّ غير الحجّة إلى غير الحجّة لا ينتج الحجّة.

ونحن فيما سبق قلنا ينبغي أن نفصّل ونقول:- إنَّ ضمّ غير الحجّة إلى غير الحجّة تارةً يكون في باب الدلالة ، يعني دلالة هذه الرواية ضعيفة ودلالة تلك الرواية ضعيفة كما في موردنا فإنّ الرواية الأولى دلالتها ضعيفة كما ذكرنا - وأنت سلّم الضعف - ودلالة الرواية الثانية ضعيفة أيضاً فهنا نسلّم أنّ ضمّ الضعيف إلى الضعيف أو ضم غير الحجّة إلى غير الحجّة لا ينتج الحجّة ، لأنّ الدلالة ليست ثابتة فكيف بضمّها إلى الدلالة غير الثابتة تنتج دلالة ثابتة صحيحة ؟!! ، وأما إذا فرض أنَّ الدلالة كانت تامة ولكن السند ضعيف فهنا بضمّ سندٍ إلى سندٍ إلى سندٍ إلى سندٍ يحصل اطمئنان بحساب الاحتمال فينتج حجّةً وهذه قضية عقلائية ، فإذا جاء شخص الآن وأخبرنا بخبر ونحن لا نعرفه ويأتي شخص ثاني وثالث وينقلان نفس الخبر فقد يحصل لنا الاطمئنان بذلك الخبر - وهذا واضح فإن حساب الاحتمال فطري - فحينئذٍ ينتج حجّة في باب الروايات إذا تعدّدت ، فأسناد الروايات وإن كانت ضعيفة ولكن قد ينتج الحجّية ، فينبغي أن يفصّل هكذا.

وهناك حالة ثالثة وهي أن تكون الدلالة ضعيفة ولكن الفقهاء استندوا إلى هذه الرواية التي دلالتها ضعيفة ، من قبيل الرواية الأولى – التي تقول ( ملعونون على لسان محمد ) ونحن قلنا دلالتها ضعيفة - ، ولكن لو فرض أنّ الفقهاء أجمع أو المتقدّمون منهم استندوا إليها ، فإذا استطعنا أن نثبت أنَّ الطبقة المتقدّمة مثل الكليني والصدوق فهموا من ( ملعونون ) التحريم وثبت استنادهم إلى هذه الرواية وأفتوا بالتحريم فهنا نحن نقبل فكرة الانجبار رغم أنَّ الضعف في الدلالة ولكن المتقدّمين حينما يستندون إليها فهم أصحاب الفنِّ فحينما فهموا هذا المعنى يتبيّن أنَّ هذا المعنى كان يُفهَم منها أما نحن فقد صار قصورٌ في فهمنا لبعدنا عن النصّ ، فمادامت الطبقة قريبة العهد من عصر النصّ هي التي استندت فحينئذٍ نقبل بذلك ، ولكن هذا الكلام على مستوى الكبرى الكلّية ، ولكن تعال إلى الصغرى فمن أين تثبت أنَّ الطبقة المتقدّمة أفتوا على طبق هذه الرواية فإنّ هذا غير معلوم ، فإما أن تكون كلماتهم ليست موجودة عندنا ، أو لعلّ المستند شيء آخر ، فمن الصعب عادةً إثبات ذلك ، وهذا الكلام كبروي أنا أذكره لكن تحصيل المصداق له شيءٌ صعب.

إذن من خلال هذا كلّه اتضح أنَّ حصول الاطمئنان للفقيه بالتحريم من خلال الروايات شيءٌ مشكلٌ لضعف دلالة الروايتين ، وفكرة الانجبار ليست ثابتة لأجل أنّا لم نعلم أنَّه استندت الطبقة المتقدّمة إلى هاتين الروايتين.

إذن يشكل الفتوى بحرمة النجش ، ولكن هذا لا يمنع من الانتقال إلى الاحتياط الوجوبي . إذن نحن نذهب إلى الاحتياط الوجوبي دون الفتوى وقد تبيّنت نكات القضية.


[5] موسوعة السيد الخوئي ( مصباح الفقاهة )، تسلسل35، ص656.