38/01/14


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/01/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- تتمة مسألة ( 23 ) الكهانة ، مسألة ( 24 ) النجش - المكاسب المحرمة.

الأمر السابع:- إنّ الكهانة كما عرفنا يستند فيها الكاهن في إخباره عن المغيبات المستقبلية على الجن ، وأما إذا كان يستند إلى شيء آخر فقد قلنا لا دليل على مشموليته لحرمة الكهانة ، والسؤال هل علم الرمل والجفر له اعتبار شرعاً ولو لبعض أقسامهما ؟

وعلم الرمل على ما يقال أنه ترسم خطوط على الرمل ومن هذه الخطوط تستكشف الأمور المستقبلية ، وأما علم الجفر الذي هو علم الحروف فمن خلال الحروف - سواء حروف اسم الشخص أو حروف الآيات القرآنية أو غير ذلك - يستفيد من ذلك الحوادث المستقبلية ، فهل لهذين العلمين اعتبار شرعاً ولو في الجملة أو لا ؟

كلا ليس لهما اعتبار ، فإنه لا توجد رواية تدل على اعتبار هذين العلمين ، نعم ورد في كتاب الكافي بعض الروايات الدالة على وجود الجفر عند الأئمة عليهم السلام وعلّموا بعض الأصحاب ذلك ، ولكن الجفر كما سوف نقرأ الرواية التي أشارت إليه وهي رواية الكافي هو جلدٌ لحيوانٍ - إهاب - قد كتب فيه ما نزل به الوحي جبرئيل عليه السلام في ما يجري على أهل البيت عليهم السلام في المستقبل وماذا يجري على الناس إلى يوم القيامة ، وهذا موجود عند الائمة عليهم السلام ، وكانوا يتوارثون ذلك ، وهو الآن موجود عند الامام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، فجفر بهذا المعنى نعم هو موجود ، أما من طريق علم الحروف وما شاكل ذلك فلا توجد رواية تدلّ عليه.

إن قلت:- كيف علمت أنه لا توجد رواية تدل على ذلك ، فكيف تستطيع أن تجزم بذلك ؟ وهذا سؤال سيّال في هذا المورد وما شاكله ، فمن أين تجزم بأنه لا توجد رواية تدل على حجّية هذين العلمين ولو في الجملة ؟

قلت:- إن علماءنا تعبوا كثيراً وبذلوا جهوداً كثيرة فلو كانت هناك رواية ولو ضعيفة - حتى في الاحتجاج أو في المستدرك أو في غيرهما - لعثروا عليها ولجاءوا بها وذكروها ، ولا أقل يذكرها صاحب الوسائل والميرزا النوري ، فإذا كانت هناك رواية تدلّ على ذلك لكان يعقد لها باب في الوسائل أو في المستدرك يسمّيه مثلاً ( حجية علم الجفر أو الرمل في الجملة ) والحال أنه لم يوجد هذا الشيء أبداً ولم ينطق بذلك أيّ فقيه وهذه الموسوعات التي عندنا من جواهر وحدائق وغير ذلك لم يذكر أحد أنه توجد رواية وأنَّ أحد هذين العِلْمَين معتبر ولا غير ذلك.

والمقصود من وراء كلامنا هذا كلّه أنّ الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب في مبحث الكهانة في ثنايا كلامه ذكر جملة توحي باعتبار هذين العلمين أو بعض أفراد هذين العلمين ، ونصّ عبارته:- ( فتبيّن من ذلك أنّ الإخبار عن الغائبات بمجرد السؤال عنها من غير النظر في بعض ما صح اعتباره كبعض الجفر والرمل محرّم )[1] ، وكلمة ( حرم ) خبر لـ( إنّ الاخبار ) فتصير العبارة هكذا:- ( فتبين من ذلك أن الإخبار عن الغائبات محرمٌ من غير النظر في بعض ما صح اعتباره كبعض الجفر والرمل ) ، وهذه العبارة توحي - أو أكثر من الايحاء - في ذلك أنّ بعض الرمل والجفر معتبرٌ ، وهذه تسجّل على الشيخ الأعظم(قده) وهو أنّ الشيخ ذكر هكذا ، وهو مطلبٌ لا يمكن أن صار إليه.

وأما ما ذكرته من أنه توجد رواية في الجفر فقبل أن نذكر تلك الرواية نذكر ما في مجمع البحرين في مادّة ( جفر ) قال:- ( في الحديث أملى رسول الله صلى الله عليه وآله على أمير المؤمنين الجفر والجامعة وفسّرا في الحديث بإهاب ماعز وإهاب كبش فيهما جميع العلوم حتى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة ، ونقل عن المحقّق الشريف في شرح المواقف أن الجفر والجامعة كتابان لعليّ عليه السلام قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقراض العالم وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونها ويحكون بها ) ، وأما الرواية الموجودة في الكافي فهي:- ( وإن عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر ؟ قال قالت وما الجفر ؟ قال:- وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني اسرائيل )[2] ، ثم ذكر الشيخ الكليني رواية الحسين بن أبي العلاء قال:- ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:- إنّ عندي الجفر الأبيض ، قال:- قلت:- فأي شيء فيه ؟ قال:- زبور داود وتوراة موسى وانجيل عيسى وصحف إبراهيم ....... وعندي الجفر الأحمر ، قال:- قلت:- أي شيء في الجفر الأحمر ؟ قال:- السلاح )[3] ، فإذن يتبين أنه يوجد جلدان جلد في هذه الصحف وجلد آخر فيه السلاح.

فإذن الجفر إذا أردنا أن نقبله فنحن نقبله بهذا المعنى ، وأما الرمل فأبداً ليس له ذكر في الروايات.

وبهذه المناسبة ننقل كلاماُ لصاحب الجواهر(قده)[4] فإنه بعد أن ذكر رفض علم الغيب من غير طريق أخبار أهل البيت عليهم السلام قال:- ( نعم قد يقال لا بأس به بالعلوم النبوية كالجفر ونحوه مما يمنح الله به أولياءه وأحباؤه مع أنه لا ينبغي لمن منحه الله ذلك ابداؤه وإظهار آثاره عند سواد الناس وضعفائهم الذين قد يدخلهم الشك في النبوة والامامة من ذلك ).

على اي حال هذا هو الامر السابع وخلاصته أنه علم الجفر والرمل ليس له اساس على خلاف ما قد توحي به عبارة الشيخ نعم الجفر بمعنى من المعاني وهو الجلد الذي فيه علوم اهل البيت هو شيء مقبول ودلت عليه الروايات.

الأمر الثامن:- ورد في عبارة المتن في هذه المسألة أنه قال:- ( مسألة 23 :- الكهانة حرام وهي الإخبار عن المغيبات بزعم أنه يخبره بها بعض الجان . أما إذا كان اعتماداً على بعض الأمارات الخفية فالظاهر أنه لا بأس به[5] إذا اعتقد صحته أو اطمأن به ) ، والسؤال هو:- لماذا قيد بقوله ( إذا اعتقد صحته أو اطمأن به ) يعني إذا أردت أن تخبر بشيءٍ مستقبلي فلابدّ من أن يكون المخبر مطمئناً أو جازماً بذلك وإلا لا يجوز ؟ لأنه يلزم عنوان الكذب ، فلأجل أن ينتفي عنوان الكذب لابدّ وأن يكون هذا المخبر مطمئناً أو جازماً بما يخبر به - كأن حصل عنده اطمئنان أو جزم أنّ هذا واقعاً سوف يصير كذلك لوجود مؤشراتٍ في سيرته وفي حاله وغير ذلك على أنه يصير كذا فحينئذٍ الإخبار لا بأس به ولا يصدق الكذب ، أما إذا فرض أنه ليس جازماً بذلك ولا مطمئناً فإخباره يكون كاذباً ، وهذه قضية جانبية.

 

مسألة ( 24 ):- النجش حرام . وهو أن يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها بل لأن يسمعه غيره فيزيد بزيادته سواء أكان ذلك عن مواطاة مع البائع أم لا.

..........................................................................................................

تتعرض هذه المسألة إلى حكم النجش ، والنجش بفتح النون والجيم يجوز فيها الوجهان السكون والفتح ، والكلام تارةً يقع في معنى النجش وأخرى في حكمه.

أما بالنسبة إلى معناه:- فالمعروف أنه ما أشار إليه السيد الماتن ، يعني أحد الحاضرين في مجلس البيع يزيد في سعر السلعة حتى يزيد الغير في ذلك ولكن هدف هذا ليس الشراء واقعاً - سواء كان مع المواطاة مع البائع أو من دون مواطاة - بل لكي يزيد الآخر ويشتريها بالسعر الأعلى ، والمعروف هو هذا التفسير.

ولكنن هناك تفسير ثانٍ:- وهو أنّ النجش عبارة عن مدح السلعة لا الزيادة في الثمن كأن يكون واقفاً في مجلس البيع ويقول إنّ هذا الكتاب لا يوجد منه أبداً في المكتبات ولكن هذا كذب وزور ، فالمقصود أنه يمدح السلعة لا بقصد شرائها - إما مع المواطاة مع البائع أو من دون مواطاة - حتى يرغب الآخرون في شراها ويشترونها.

إذن هناك تفسيران للنجش ، ونحن ماذا نصنع ؟

ههنا قضيتان نريد الاشارة إليهما في هذا المجال قبل أن نصل إلى الحكم:-

القضية الأولى:- في مثل هذا الحال الذي يتردّد فيه معنى الكلمة بين احتمالين - وهذا كلام سيّال ولا يختصّ بهذا المورد - ماذا نصنع ؟

والجواب:- تارةً يفترض وجود قدر متيقّن يعني نتيقّن أن المعنى الأوّل هو منعى النجش حتماً ولكن نحتمل أن معناه أوسع يشمل المعنى الثاني أيضاً ، وأخرى نفترض أنّ الأمر متردّد بينهما فنحتمل أن معنى النجش هو الأوّل بخصوصه كما نحتمل أنّ النجش هو المعنى الثاني بخصوصه.

أما في الحالة الأولى فالمورد يصير من القدر المتيقن والشك في الزائد ، فقدر متيقن أن النجش هو عبارة عن المعنى الأوّل فهو حرام جزماً ، والمعنى الثاني نشك في شمول النجش له وبالتالي نشك في حرمته فيكون مجرى للبراءة.

وأما إذا كان بالنحو الثاني فيصير من مورد العلم الاجمالي المنجّز ، لأننا بالتالي نعلم أنّ أحد هذين المعنيين حتماً هو حرام ولكن لا ندري هل هذا هو الحرام أو أن ذاك هو الحرام من دون وجود قدرٍ متيقن في البين ، فيصير نظير علمنا بأنّ أحد الاناءين خمر فكما أنّ هذا منجّز - لأنّ الأصول متعارضة في الأطراف أو بلا حاجة إلى تعارض الأصول على الخلاف في منجزية العلم الاجمالي وأنّ العلم الاجمالي منجزّ بنفسه بقطع النظر عن تعارض الأصول كما يذهب إليه العراقي(قده) أو أنه منجّز بسبب تعارض الأصول كما يذهب إليه الشيخ النائيني(قده) في أجود التقريرات -.

والمهم الذي نريد أن نعرفه هو أنه في الحالة الأولى يكون المورد من وجود حرمة متيقّنة وهو المعنى والأوّل وشكٌّ في حرمة الزائد يعني المعنى الثاني فتجري البراءة عن حرمة المعنى الثاني . وأما في الحالة الثانية فيكون من مورد العلم الاجمالي المنجّز - إما بعد تعارض الأصول أو بلا حاجة إلى تعارضها -.

القضية الثانية:- هل النجش بالمعنين المذكورين يمكن الحكم بحرمته بلا حاجة إلى رواية - أي بمقتضى القاعدة - أو أنه لا يمكن ذلك ؟

والجواب:- قد يقال:- إنه يمكن الحكم بحرمته بلا حاجة إلى رواية ، فإنّ من يزيد في سعر السلعة حتى يزيد الغير ويشتريها بالسعر الأعلى هو مضرّ لذلك الغير فيصدق عليه أنه يضرّ غيره ، فعنوان الإضرار يصدق عليه ، وعنوان التلبيس وخديعة يصدق عليه فإنه خدع الغير فإنّ الغير سوف يتصوّر أنه يسوى السعر الأعلى فيزيد حتى يشتريها بالسعر الأعلى ، وهذا ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(قده) وقبله صاحب الجواهر(قده) فإنّ الشيخ الأعظم(قده) قال هكذا:- ( ويدلّ على قبحه العقل لأنه غش وتلبيس وإضرار )[6] ، فهو بعد أن ذكر الروايات قال ويدلّ مضافاً إلى ذلك قبحه عقلاً ، يعني مقصوده أنه ( وإذا كان قبيح عقلاً فيحرم لقاعدة الملازمة ).

وعلل صاحب الجواهر(قده) حرمة النجش هكذا حيث قال:- ( لكونه خَدْعاً وإغراءً وضراراً وخيانةً للمسلم )[7] ، وتقريباً مقصود كلا العلمين واحد وإن اختلفت بعض الألفاظ ، وأما الميرزا علي الايرواني(قده)[8] فقد قال:- الأولى أن نتمسّك بدليل حرمة الكذب فنقول هذا الذي يزيد ثمن السلعة هو كاذب لأنه يخبر بالدلالة الالتزامية أني سوف أشتريها بالثمن الأغلى وهو لا يريد أن يشتريها ، فهو إذن بالدلالة الالتزامية يخبر حينما يزيد في سعر السلعة أني سوف اشتريها بالسعر الأعلى والحال أنه لا يريد أن يشتريها فهو كاذبٌ فيشمله دليل حرمة الكذب.

إذن بقطع النظر عن الروايات يمكن أن نحكم بحرمة عنوان النجش ، والعلمان قالا هذا إضرارٌ وخديعة وغش وغير ذلك ، أما الميرزا علي الايرواني قال كلا بل من باب الكذب.


[5] ونحن قلنا فيما سبق الامارات الخفية من سؤال السائل ومن حال السائل غير ذلك فهذا لا يعد من الكهانة المحرمة.
[8] الحاشية على المكاسب، الميرزا علي الايرواني، ج1، ص247.