32/12/24


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 24 ذح 1432 ه 37)
 تقدّم الكلام بأنه على تقدير أن يكون المعتبر في قاضي التحكيم خصوص ما هو معتبر في أصل القضاء وفصل الخصومة فحينئذ يمكن البحث في نفوذ حكمه بحسب الأدلة وعدمه وهذا ما سيظهر من خلال استعراض الأدلة الدالة على مشروعية قضاء قاضي التحكيم وما يُستدلّ به على نفوذ قضائه حيث استُدلّ على ذلك بعدّة أمور :
 الأمر الأول : الروايات ، وهي على طوائف :
 القسم الأول :

ما دلّ على نصب الحاكم وجعله من قبل الإمام (عليه السلام) وهما روايتان :
 الأولى : معتبرة أبي خديجة المتقدّمة التي ورد فيها قوله (عليه السلام) : " انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه " .
 والثانية : مقبولة ابن حنظلة المتقدّمة أيضاً التي ورد فيها قوله (عليه السلام) : " انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حَكَماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً " .
 وتقريب الاستدلال بالروايتين أن قوله (عليه السلام) في المعتبرة : (فإني قد جعلته قاضياً) قد ورد بعد قوله : (فاجعلوه بينكم) ، وقوله في المقبولة : (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) قد ورد بعد قوله : (فارضوا به حَكَماً) فيكون كلّ من القولين متفرّعاً عمّا قبله ممّا يعني أن جعل الشخص قاضياً وحاكماً وجعل قضائه نافذاً من قبل الإمام (عليه السلام) هو في طول التراضي به من قبل الخصمين فتكون الرواية مشيرة إلى قاضي التحكيم لا إلى القاضي المنصوب .
 وأقول : تقدّم سابقاً المناقشة في هذا التقريب بأنّا نحتمل أن قوله (عليه السلام) : (فإني قد جعلته قاضياً) وقوله : (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) هو بمثابة العلّة لما قبله وليس متفرّعاً على ما قبله كما ادّعيَ بمعنى أن الإمام (عليه السلام) بعد أن جعل الشخص المذكورة صفاته في الروايتين [1] قاضياً وحاكماً أمرهم (عليه السلام) بأن يجعلوه بينهم قاضياً ويرضوا به حَكَماً فيكون جعله ونصبه (عليه السلام) علّة لأمرهم بالرضا به قاضياً وحاكماً وإذا كان الأمر كذلك يكون التفرّع حينئذ بالعكس فيكون الرضا به هو الذي في طول الجعل والنصب لا العكس .
 وعلى ذلك فتكون الروايتان ناظرتين إلى القاضي المنصوب فيصحّ الاستدلال بهما عليه لا على قاضي التحكيم ، وهذا الاحتمال إن لم يكن هو المستظهر من الروايتين فلا أقلّ من كونه احتمالاً معتداً به فيهما على نحو يمنع من الاستدلال بهما على نفوذ قضاء التحكيم .
 وقد تقدّم سابقاً الإشارة إلى أن السيد الخوئي (قده) اعترف بهذا الأمر [2] في المقبولة - ولذا جعلها من الأدلة عليه ، نعم .. ناقش (قده) في سندها وألغاها بهذا الاعتبار - لكنه أنكره في المعتبرة وإنما استدل بها [3] على قاضي التحكيم .. كما تقدّم أيضاً الإشارة إلى أن الظاهر أن هذا التفريق بين الروايتين ليس واضحاً لأنهما بمثابة واحدة ففي كل منهما ورد ما يُشير إلى الجعل من قوله : (فإني قد جعلته - أي قاضياً أو حاكماً -) بعد قوله : (فاجعلوه بينكم) أو (فارضوا به حَكَماً) وليس ثمة فرق ظاهر بين التعبيرين يستدعي التفرقة بينهما في الاستدلال ليُذعن بدلالة المقبولة على القاضي المنصوب وتُنكر دلالتها عليه في المعتبرة بل قد يقال إن الأمر بالعكس وهو أن احتمال نظر المقبولة بقرينة ذيلها إلى قاضي التحكيم أكبر من احتمال نظر المعتبرة إليه حتى إن بعضهم استدلّ بهذه القرينة على ذلك فقد ورد في ذيل المقبولة قول السائل : (فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا ... [إلى أن قال :] فماذا يفعل في حالة اختلافهما في الحكم ؟ .. إلى آخر الرواية) حيث يقال هنا بأن اختيار كلّ واحد من المتخاصمين رجلاً للقضاء إنما يناسب قاضي التحكيم لا القاضي المنصوب إذ لا اختيار فيه وظاهر هذا الكلام هو المفروغية لدى السائل عن مشروعية قاضي التحكيم ولذا سأل عن تعارض القاضيين في باب التحكيم والإمام (عليه السلام) أجابه على حكم التعارض ولم يتطرّق إلى أصل المشروعية فيُفهم من سكوته (عليه السلام) عنها الإمضاء والتقرير فتثبت بذلك مشروعية قضاء التحكيم .
 هذا .. ولكن الصحيح خلاف هذا وهو عدم تمامية أن يكون الذيل المذكور قرينة على نظر المقبولة إلى قاضي التحكيم وذلك لأنه يُحتمل فيه أيضاً أن يكون السؤال ناظراً إلى القاضي المنصوب لا إلى قاضي التحكيم .. وتوضيح ذلك :
 أنه قد تقدّم قبل قليل [4] أن صدر الروايتين ناظر إلى القاضي المنصوب الذي ذُكرت صفاته في الروايتين فجاء عقيبه سؤال السائل متفرّعاً على ذلك وهو أنه ماذا يُفعل في حالة اختلاف الفقيهين المنصوب كلّ منهما بالنصب العام في الحكم ؟
 والحاصل أن القرينة المزبورة لا تتم إلا على دعوى كون صدر الرواية وارداً في قاضي التحكيم ليكون الذيل باعتباره متفرعاً عليه مؤكّداً على نظر الرواية إليه وقد عرفت أن الصحيح خلافها وأن صدر الرواية ناظر إلى القاضي المنصوب وبهذا ينهدم ما بُني على تلك القرينة من المفروغية لدى السائل عن مشروعية قضاء التحكيم ولذا كان سؤاله عن تعارض القاضيين في باب التحكيم وأن الإمام (عليه السلام) أجابه على حكم التعارض ولم يتطرّق إلى المشروعية فيُفهم من سكوته (عليه السلام) عنها الإمضاء لها إلى آخر ما ذُكر .
 والحاصل أنه لم يتّضح الوجه في ما أبداه السيد (قده) من التفرقة بين الروايتين بل هما بمثابة واحدة وتقريب الاستدلال فيهما واحد وجوابه فيهما واحد أيضاً .
 القسم الثاني :

ما دلّ على افتراض المنازعة بين رجلين والتراضي منهما بثالث حكماً وهي صحيحة الحلبي : " قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ، فقال : ليس هو ذلك إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط " [5] .
 وهذه الرواية رواها الشيخ (قده) بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي والرواة ثقات وطريق الشيخ (قده) إلى الحسين بن سعيد صحيح كما في المشيخة .
 وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أن ظاهرها جواز التحاكم إلى الرجل الذي تراضى به المتنازعان ويترتب على ذلك بالملازمة العرفية نفوذ حكمه لأن نفوذ حكم الحاكم فرع جواز الترافع إليه شرعاً وإلا انعدمت فائدة الترافع إليه ، وكان السائل متردّداً في صدق التحاكم إلى الطاغوت على مورد فرضه من تراضي الخصمين برجل من أهل الاعتقاد بالولاية فنفى له الإمام (عليه السلام) ذلك وأجابه بأن المنهيّ عنه هو التحاكم إلى من يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط فيظهر من ذلك جواز التحاكم إلى من يتراضى به المتنازعان ممّن كان من أهل الاعتقاد بالولاية فيثبت بذلك مشروعية قضاء التحكيم وجوازه تكليفاً ووضعاً .
 وسيأتي التعليق على هذه الرواية بعد إتمام سرد روايات الاستدلال .
 القسم الثالث :

ما دلّ على افتراض المنازعة بين رجلين وعدم التراضي من أحدهما بثالث حَكَماً وهي صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : أيُّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من اخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) " [6] .
 وهذه الرواية رواها الشيخ الصدوق (قده) عن حريز وطريقه إليه صحيح كما في المشيخة ولكن طريق الشيخ الطوسي (قده) فيه مشكلة تقدّم بيانها .
 وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أن إطلاق الرجل الذي دعا أحدُ الخصمين صاحبَه إلى التحاكم إليه وعدم تقييده إلا بكونه من إخوانه - أي أهل الاعتقاد بالولاية - مقتضاه صحة التحاكم عند من يكون من هذا القبيل [7] سواء كان واجداً لسائر الشرائط أو لم يكن غاية الأمر حصول التراضي به وذلك هو قاضي التحكيم فيثبت المطلوب من قيام الدليل على مشروعية قضائه ونفوذ حكمه فإن الرواية ظاهرة في صحة الترافع إلى مثل هذا الشخص لولا امتناع الطرف الآخر من دعوة صاحبه إلى الترافع عنده وطلبه في المقابل إلى التحاكم إلى أهل الجور وهو ما وصفه الإمام (عليه السلام) بأنه تحاكم إلى الطاغوت وجعله مصداقاً للآية الشريفة المذكورة .
 هذا .. ولكن التمسّك بالإطلاق مشكل لأن الرواية ليست مسوقةً لبيان خصوصية الحاكم وهل يُعتبر فيه أن يكون واجداً للشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب أو لا وإنما هي مسوقة لبيان النهي عن التحاكم إلى الطاغوت فإن مصبّ جواب الإمام (عليه السلام) كان حول رَفْض الطرف الآخر وإصراره على التحاكم إلى هؤلاء ووَصْف الإمام (عليه السلام) ذلك بـأنه تحاكم إلى الطاغوت فكيف يصح التمسّك بإطلاق لم يكن الإمام (عليه السلام) في مقام بيانه لكي يُثبَت به أن الرجل من أهل الاعتقاد بالولاية يجوز التحاكم إليه مطلقاً سواء كان منصوباً أو لم يكن وسواء كان واجداً للشرائط أو لم يكن .
 القسم الرابع :

ما دلّ على عدم المنع من تولية أهل محلّة لشخصٍ قاضياً بينهم وهي رواية أحمد بن الفضل الكناسي : " قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أيّ شيء بلغني عنكم ؟ قلت: ما هو ؟ قال : بلغني أنكم أقعدتم قاضياً بالكناسة ، قال : قلت : نعم جُعلت فداك رجل يقال له عروة القتّات وهو رجل له حظّ من عقل نجتمع عنده فنتكلم ونتساءل ثم يردّ ذلك إليكم ، قال : لا بأس " [8] .
 وسيأتي التعقيب على هذه الروايات إن شاء الله تعالى .


[1] من كونه قد علم شيئاً من قضاياهم وروى حديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم .
[2] أي نظر الرواية إلى القاضي المنصوب لا إلى قاضي التحكيم .
[3] أي بالمعتبرة .
[4] في الحديث عن علّية الجعل والنصب للأمر بالرضا بالمجعول قاضياً وحاكماً .
[5] التهذيب مج6 ص223 والوسائل الباب الأول الحديث الثامن مج27 ص15 .
[6] الكافي مج7 ص411 ، والتهذيب مج6 ص220 ، والفقيه مج3 ص4 ، والوسائل الباب الأول الحديث الثاني مج27 ص12 .
[7] أي رجل من أهل الاعتقاد بالولاية .
[8] اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي مج2 ص669 ، والوسائل الباب الحادي عشر الحديث الواحد والثلاثون مج27 ص147.