32/11/11


تحمیل
 نذكر هاهنا نصّ الروايتين اللتين تقدّم الكلام عليهما في البحث السابق وهما :
 صحيحة محمد بن مسلم :
 " قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنَه ؟ قال : لا بأس به " [1] .
 قال صاحب الوسائل : " الظاهر أن المراد المنزل المشترك بين المسلمين كالأرض المفتوحة عنوة ، أو الموقوفة على قبيل وهما منه " أي الموقوفة على مجموعة من الناس ومنهم الراشي والمرتشي في مورد الرواية .
 ورواية حكم بن حكيم الصيرفي :
 " قال : سمعت أبا الحسن (عليه السلام) وسأله حفص الأعور فقال : إن السلطان يشترون منّا القرب والأداوى فيوكّلون الوكيل حتى يستوفيَه منّا فنرشوه حتى لا يظلمنا، فقال : لا بأس ما تصلح به مالك، ثم سكت ساعة ثم قال: إذا أنت رشوته يأخذ أقلّ من الشرط ؟ قلت: نعم ، قال : فسدت رشوتك " [2] .
 ولا ينبغي أن يكون الغرض من ذكر هاتين الروايتين هو الاستدلال بهما على أن الرشوة تُستعمل على نحو الحقيقة في غير باب الأحكام ليتوجّه عليه الإيراد بأنه استدلال بالاستعمال على تشخيص المعنى الحقيقي والاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز وإنما الغرض هو إثبات المعنى الحقيقي بكلمات اللغويين فإن هناك طائفة منهم فسّرت الرشوة بمعنى عام لا يختصّ بباب الأحكام بخصوصه من قبيل صاحب القاموس الذي فسّرها بالجعل [3] وصاحب النهاية الذي فسّرها بـ(الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة) [4] ، ومن الواضح أن هذا لا اختصاص له بباب الأحكام بل يشمل غير الأحكام أيضاً ، نعم .. ذكرنا أن بعض اللغويين فسّرها بما يختص بباب الأحكام لكن الظاهر كما نبّه عليه غير واحد أن المنظور إليه عندهم هو الرشوة المحرّمة التي وردت الروايات في التغليظ عليها من قبيل أنها الكفر بالله العظيم .
 إذاً فالرشوة بحسب كلمات اللغويين - غير هذا البعض هي أعمّ من باب الأحكام فتشمل غير هذا الباب أيضاً وكلماتهم هذه تصلح أن تكون شواهد أو مؤيدات على أن المعنى اللغوي للرشوة لا يختصّ بخصوص باب الأحكام ، واستعمال الرشوة في غير باب الأحكام موجود في غير هذه الروايات من دون نصب قرينة مما يشير إلى أنه استعمال حقيقي حتى في غير باب الأحكام ففي معتبرة عمار بن مروان المتقدمة بل في غيرها أيضاً ما يشير إلى أن مفهوم الرشوة مفهوم واسع لا يختصّ بخصوص باب الأحكام وذلك لأن المذكور في هذه المعتبرة قوله (عليه السلام) : " وأما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم " وهذا التعبير مذكور في غير واحد من الأخبار وهو لا يخلو من تأييد لما ذكرناه باعتبار أن الرشا لو كان في اللغة مختصّاً بباب الأحكام لكان التقييد بقوله : (في الحكم) توضيحياً لا احترازياً فيكون حينئذ مستدركاً لإمكان أن الاكتفاء بلفظ (الرشا) من دون تقييد فالتركيز على هذا القيد في هذه الرواية وغيرها من روايات الباب لا يخلو من إشعار بأن مفهوم الرشوة أوسع من باب الأحكام فهو شامل لغيره أيضاً .. مضافاً إلى أنه بالإمكان بحسب الوجدان اللغوي أن يُستقرب عموم معنى الرشوة بدعوى الشعور بحسب هذا الوجدان بصحة إطلاق الرشوة في غير باب الأحكام من دون حاجة إلى عناية أو قرينة كما هو المتعارف من قولهم رشوت الموظّف أو المدير [5] فيكون هذا مؤيّداً لكون الرشوة موضوعة للأعمّ ولا تختصّ بباب الأحكام ، نعم .. بذل المال بإزاء ما تعارف عدم أخذ العوض عليه يكون داخلاً في الرشوة وتطبيقاتُ الروايات تدخل في هذا الباب كمنع الظلم وإحقاق الحقّ وتمشية الباطل وغيرها .
 هذا .. وقد تقدّم منّا تعريف الرشوة المحرّمة بأنها : (المال المبذول للقاضي ليحكم بالباطل أو لصالح الباذل مطلقاً) وذكرنا أنه لا يبعد صدق الرشوة عرفاً على الهدية حتى إذا كان الدافع غير قاصد بها أن يحكم القاضي له بل كان قاصداً للقربة - مثلاً في إذا ما تزامن الدفع مع زمان المرافعة والخصومة لاسيّما إذا لم يكن من عادته دفع الهدية للقاضي ومعنى هذا إلغاء اعتبار القصد في تحقّق مفهوم الرشوة أي أنه لا يُعتبر في الراشي عندما يبذل المال للقاضي قصدُ أن يحكم له بالباطل أو مطلقاً فيكون تحقّق مفهوم الرشوة على هذا منوطاً بالصدق العرفي .
 إذا تبيّن هذا فلنرجع إلى ما كنّا فيه من الكلام في المقام الرابع في جواز الهدية التي تُعطى للقاضي وقد ذكرنا على نحو القاعدة العامة أنه عندما يكون الغرض من الهدية هو الحكم له بالحق أو الباطل فهي رشوة إما موضوعاً أو حكماً .. ولكن قد استُدلّ على تحريم الهدية على القاضي بروايات :
 الأولى : رواية الأصبغ بن نباتة المروية في الوسائل عن كتاب (عقاب الأعمال) للشيخ الصدوق عن أبيه عن أحمد بن إدريس عن محمد بن أحمد عن موسى بن عمر عن ابن سنان عن أبي الجارود عن سعد الإسكاف عن الأصبغ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :
 " قال : أيّما والٍ احتجب من حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدية كان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك " [6] .
 وهذه الرواية تؤيد ما ذكرناه من استعمال الرشوة بالمعنى العام - أي في غير باب الأحكام - لأن الحديث فيها عن والٍ يمتنع من قضاء حوائج الناس فيُعطى الهدية لكي يقضيها لهم .
 وقد ذكر السيد الماتن (قده) هذه الرواية وناقش في سندها ودلالتها :
 أما من حيث السند فقد قال بأن الرواية ضعيفة ولم يذكر وجه الضعف فيها ولكن ذُكِر في حاشية كتابه (المكاسب المحرّمة) أن الضعف من جهة سعد الإسكاف ومن جهة أبي الجارود .. ولكن الظاهر أن هذا اشتباه لأن السيد (قده) ينصّ على وثاقة زياد بن المنذر أبي الجارود [7] ووثاقة سعد بن طريف الإسكاف [8] في معجم الرجال ، ويُحتمل والله العالم أن الضعف في نظره الشريف من جهة موسى بن عمر لكونه مجهولاً [9] ، وفي نسخةٍ موسى بن عمران واحتمال كونه كذلك ضعيف جداً والظاهر أنه موسى بن عمر وبالخصوص هو موسى بن عمر بن يزيد بقرينة رواية محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران فإنه يروي عن موسى بن عمر بهذا العنوان ويروي عن موسى بن عمر بن يزيد أيضاً وكيف كان فهو مجهول ولعل الضعف الذي يشير إليه السيد (قده) هو من هذه الجهة .
 وأقول : يمكن البناء على وثاقة موسى بن عمر باعتبار رواية محمد بن أحمد عنه لأن المراد بمحمد بن أحمد في الرواية هو محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران صاحب نوادر الحكمة وموسى بن عمر أحد رجال نوادر الحكمة الذين لم يستثنهم ابن الوليد بناءً على أن عدم استثناء شخص من رجال نوادر الحكمة من قبل ابن الوليد دليل وثاقته عنده وعند غيره أيضاً على ما ذكرناه في محلّه بغض النظر عن الخلاف الدائر في تخصيص هذا الأمر بنوادر الحكمة ممن روى عنهم محمد بن أحمد بن يحيى فيها ولم يستثنهم ابن الوليد أم تعميمه لغير نوادر الحكمة أيضاً ممن روى عنهم محمد بن أحمد بن يحيى ولم يدخل في استثناء ابن الوليد وذلك لأن الراوي في ما نحن فيه هو من رجال نوادر الحكمة ولم يستثنه ابن الوليد الذي هو [10] القدر المتيقّن من الدليل على الوثاقة بحسب ذلك المبنى وهذا بنظرنا كافٍ لإثبات الاعتماد عليه فتكون الرواية على هذا صحيحة سنداً لوثاقة الرواة الباقين من الشيخ الصدوق وأبيه وأحمد بن إدريس القمي الأشعري الثقة المعروف ومحمد بن أحمد الذي هو محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران صاحب نوادر الحكمة وهو ثقة بلا إشكال وموسى بن عمر الذي أثبتنا وثاقته الآن وابن سنان الذي هو عبد الله بن سنان وأبي الجارود زياد بن المنذر وسعد الإسكاف وهم جميعاً ثقات أيضاً والأصبغ بن نباتة الذي هو من خواصّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فالرواية معتبرة عندنا .
 وأما من حيث الدلالة فقد نوقش فيها بكونها أجنبية عن محلّ الكلام لأنها واردة في الولاة وهو غير ما نحن فيه فإن كلامنا في الهدية للقاضي لا للوالي .
 وأقول : بعد فرض الالتزام بصحة الرواية سنداً والأخذ بظاهرها من حيث كونها واردة في الولاة وبعد الالتزام بحرمة أخذ الهدية على الوالي فيمكن التعدّي إلى محلّ الكلام من القضاة إما بإلغاء الخصوصية وعدم الفرق وإما بالأولوية ببيان أن الذي يُفهم من الرواية هو امتناع الوالي عن قضاء حوائج الناس أي امتناعه عن القيام بالوظيفة التي وُظّف لها والتي عادةً يتقاضى الأجر ممن ولّاه عليها فمثل هذا إذا أخذ هدية لكي يقوم بوظيفته من قضاء حوائج الناس فقد فعل حراماً ، وهذا المعنى يُمكن إثباته بالنسبة إلى القاضي بمعنى أن القاضي عندما يمتنع عن القضاء إلا بأخذ الهدية عليه فتُعطى له لأجل ذلك فيمكن أن يقال حينئذ إن هذه الهدية تكون محرّمة إما بالأولوية باعتبار أهمية منصب القضاء وخطورته فإذا كان أخذ هدية على القيام بالواجب الذي هو من قبيل قضاء حوائج الناس حراماً فأخذ الهدية على القيام بالقضاء الذي وُظّف هذا الشخص للقيام به يكون حراماً أيضاً أو بإلغاء الخصوصية ودعوى عدم الفرق بينه وبين الوالي لأنه يُفهم من الرواية أن حرمة الهدية ثبتت باعتبار كون العمل موظّفاً له ولذا خُصّت الرواية بالوالي ولذلك لا نتعدّى عن موردها إلى مطلق من يمتنع عن قضاء حوائج الناس إذا لم يكن ذلك من وظيفته المعيّن هو لها وفي المقابل يُمكننا التعدّي عن موردها إلى مطلق من يأخذ الهدية على عمل هو موظّف له ويأخذ الأجر عليه ومنه القاضي وهذا هو الميزان في حرمة أخذ الهدية للقيام بالعمل ، والوقوفُ على علة الحكم في روايةٍ مّا يفتح الباب واسعاً لتعميمه إلى الموارد التي تشترك في هذه العلة وإن لم تكن مذكورة في متنها .
 ومما تقدّم يظهر أن حرمة أخذ الهدية من قبل القاضي لا تثبت فقط في مورد الحكم بالباطل أو مطلقاً بل تثبت أيضاً في مورد أخذها للقيام بأصل ما وُظّف له كما لو كان ممتنعاً أو متوانياً عن القيام بوظيفته من القضاء بين الناس إلا بإعطائه الهدية حتى لو كان قضاؤه على وفق الموازين والقواعد الشرعية .
 الرواية الثانية : ما رواه الحسن بن محمد الطوسي في الأمالي عن أبيه عن ابن مهدي عن ابن عقدة عن عبد الرحمن عن أبيه عن ليث عن عطاء عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال : " هدية الأمراء غلول " [11] .
 وهذه الرواية ضعيفة السند - كما هو واضح [12] ، وأما من حيث الدلالة فهي أجنبية عن محلّ الكلام لكونها واردة في هدايا الأمراء ولو عُمّمت إلى ما نحن فيه بما ذُكر من إلغاء الخصوصية أو الأولوية فهي ليست ظاهرة في المدعى لاحتمال أن يكون المراد الهدية التي يُعطيها الأمراء لا التي يأخذونها أي أن إضافة الهدية إلى الأمراء من قبيل الإضافة إلى الفاعل - على حدّ جوائز السلطان - .
 الرواية الثالثة : ما رواه الشيخ الصدوق في عيون الأخبار بأسانيده عن الرضا عن آبائه عن علي (عليهم السلام) : " في قوله تعالى : (أكّالون للسحت) ، قال : هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديته " [13] .
 وهذه الرواية ضعيفة السند كما هو واضح مضافاً إلى أنها أجنبية عن محلّ الكلام بل هي في موردها - وهو قضاء الحاجة - لا بد من تقييدها بما إذا كان الرجل موظّفاً لقضاء تلك الحاجة فإنه حينئذ إذا فعل ثم قبل الهدية يكون هذا حراماً ، وأما إذا فرضنا أنه لم يكن موظّفاً لها فليس ثمة مَن يُفتي بحرمتها حينئذ .. مضافاً إلى أن المفروض فيها كون الهدية بعد العمل وهذا مما يُخفّف من إمكان القدح في حلّية مثل هذه الهدية .
 هذا .. وقد تبيّن من هذا المقام الرابع أنه لا مانع من الالتزام بحرمة الهدية على القاضي مقابل القيام بواجبه استناداً إلى رواية الأصبغ بن نباتة .. مضافاً إلى صدق عنوان الرشوة عرفاً على الهدية التي تُدفع لاستمالة قلب القاضي لكي يحكم له بالباطل أو مطلقاً وحينئذ فلا إشكال في حرمتها ولا أقلّ من دخولها تحتها حكماً في ما لو قلنا بخروجها عنها موضوعاً .
 هذا .. وما تقدّم كله كان تعليقاً على قوله في المتن في المسألة الثانية : " هل يجوز أخذ الأجرة على القضاء من المتخاصمين أو غيرهما ؟ فيه إشكال ، والأظهر الجواز " وذكرنا أن هذا يمثّل رأيه المتأخّر ، وأما رأيه المتقدم فهو عدم الجواز ونحن نوافقه فيه .
 قال (قده) في المسألة الثالثة : " بناءً على عدم جواز أخذ الأجرة على القضاء هل يجوز أخذ الأجرة على الكتابة ؟ الظاهر ذلك " أي الجواز إذ لا مانع من أخذ القاضي الأجرة على ما يُدوّنه للمترافعين من الحكم الذي قضى به في دعواهما [14] .
 ثمّ قال (قده) في المسألة الرابعة : " تحرم الرشوة على القضاء . ولا فرق بين الآخذ والباذل " .
 قد تقدّم الكلام في هذا الحكم ولكن هاهنا تعليق سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى .


[1] الوسائل مج17 ص278 الباب 85 من أبواب ما يُكتسب به الحديث الثاني .
[2] الوسائل مج18 ص96 الباب 37 من أبواب أحكام العقود من كتاب التجارة الحديث الأول .
[3] القاموس المحيط مج4 ص334 .
[4] النهاية في غريب الحديث لابن الأثير مج2 ص226 .
[5] يمكن أن يقال إن هذا أجنبي عن المدّعى لأن الوجدان اللغوي الذي هو حجة في تشخيص المراد الاستعمالي في عصرٍ مّا هو ما كان مواكباً لذلك العصر لا ما تأخر عنه بفترة بعيدة إذ من الممكن أن يكون المعنى في ذلك الزمان خاصّاً ثم يتّسع تدريجياً فيصبح عاماً في هذا الزمان فلا يكون ما نشعر به من الوجدان اللغوي على التعميم في الزمن المتأخر حجة على كونه كذلك في الزمن المتقدم فالاستشهاد بالشعور الحاصل في هذا الزمان لمعنىً معيّن على كونه كذلك في زمان سابق في غير محلّه ، نعم .. لا بأس به في حدّ التأييد .
[6] الوسائل مج17 ص94 الباب الخامس من أبواب ما يُكتسب به الحديث العاشر .
[7] لاحظ ترجمته في المعجم مج8 ص332 وما بعدها .
[8] لاحظ ترجمته في المعجم مج9 ص70 وما بعدها .
[9] لاحظ ترجمته في المعجم مج20 ص63 وما بعدها .
[10] أي كون الراوي من رجال نوادر الحكمة ولم يدخل في استثناء ابن الوليد .
[11] الوسائل مج27 ص223 الباب الثامن (باب تحريم الرشوة في الحكم والرزق من السلطان على القضاء) الحديث السادس .
[12] فإن أغلب رجالاتها من العامة .
[13] الوسائل مج17 ص94 الباب الخامس من أبواب ما يُكتسب به الحديث الحادي عشر .
[14] لكونه خارجاً عمّا وجب عليه فإن الواجب على القاضي إنما هو أصل الحكم والفصل في الخصومة وأما كتابة ذلك وتدوينه فليس مما وجب عليه فيجوز له أن لا يبذله مجاناً بل يأخذ الأجرة عليه .